محمود شفيق مفجر الكنيسة البطرسية، ومحمد ناجى قاتل نجيب محفوظ، وجهان لجيل واحد بينهما 22 سنة وعمر كل منهما 22سنة، ناجى من مدينة ملوى بالمنيا، شاب قمحى اللون، نحيف، حاصل على دبلوم صناعة ويعمل فنى اصلاح أجهزة كهربائية، دوافعه إثارة القلق ودفع المصريين للنقمة على النظام الذى يحكمهم وتنفيذ عمليات تحرير لن يكون آخرها بالطبع تفجير كمين الهرم أو فى كنيسة بالعباسية وزرع عبوات ناسفة فى أماكن «الكفار» تنفيذا لأوامر قادته داخل مصر وخارجها. حكاية شفيق لم تتضح تفاصيلها بعد، أما الثانى فحكاية بدأت عام 1994 حين سأل المحقق نجيب محفوظ بعد أن تماثل للشفاء إثر الطعنة الغادرة التى كادت تنهى حياته: ماذا تعرف عن الشاب الذى طعنك بسكين؟ فقال العم نجيب: رأيته شابا يافعا فى ريعان العمر، فسأل المحقق: ولماذا ارتكب هذا العمل الإجرامى ضدك؟.. فرد نجيب محفوظ: لست أفهم! ..وماهو شعورك نحوه الآن يا أستاذ نجيب؟ فرد : إنه ضحية وأنا سامحته فيما يخصنى، أما ما يخص المجتمع فالعدالة يجب أن تأخذ مجراها... وماذا تقول له لو قابلت هذا المجرم الآن؟ تألم الأستاذ بشدة وهو يعدل نفسه بعد أن حاول أن يمد يده بالمصافحة فاكتشف أنه فقد الإحساس بيمناه تماما وقال: سأحاول معرفة دوافعه وأدرس شخصيته وأفهم عقليته. انتقل المحقق إلى القاتل فى السجن بعد أن قبض عليه بمنطقة عين شمس، سأله المحقق: كيف اتخذت قرار العدوان على نجيب محفوظ؟ فأجاب: التجأت إلى الله، وقرأت كتبا كثيرة لقادة الجماعة الإسلامية حتى قبلونى، فسأله: هل قرأت لنجيب محفوظ؟، فقال: أستغفر الله لا أحتاج قراءته، أنا أنفذ أوامر أمرائى، لكن نجيب محفوظ سامحك على جريمتك؟ فرد بسرعة: هذا لا يعنينى لقد هاجم الإسلام فى كتاباته ولذا أهدرنا دمه ، فقال المحقق: ألم تسأل نفسك لماذا نجاه الله؟ فقال: لله فى ذلك حكمة يريد أن يظل مشلولا عبرة لمن يعتبر!.. فسأل المحقق: لو قابلت نجيب محفوظ ماذا كنت تقول له؟، فرد الشاب بعناد: لو قابلته سأنفذ فيه ثانية أمر الله! وعاد المحقق إلى نجيب محفوظ بعد أن فشل فى ترتيب لقاء بين الجانى والضحية ونقل إليه ما قاله الشاب، فقال العم نجيب: كم كنت أود أن أتحدث إلى هذا الشاب الضائع ، ثم سكت قليلا وقال: ماذا فعلوا بشباب هذا البلد؟ وثلاثية الضياع .. هى الإجابة المثلى عن سؤال صاحب «الثلاثية» الأدبية الشهيرة الذى نحتفل بعيد ميلاده هذه الأيام، والتى سجلها محضر التحقيق فى محاولة اغتياله وثلاثية الضياع تتلخص فى:أوضاع اجتماعية متردية، وجماعات لزراعة الوهم، وحوار مفقود مع شباب بلا أمل أو قدوة حسنة، وهم أداة الحرب الجديدة بعد أن صارت الحروب العسكرية أكثر كلفة وتدفع المجتمع للتوحد فى مواجهة أعداء الخارج، والضحية عشرات ومئات الأبرياء فى مجتمع ضائع، وعلى كل صاحب مشروع نهضة حقيقى ورؤية لإنقاذ مستقبل هذا البلد وإعادة ثقته فى نفسه أن يبدأ بها. وثلاثية الضياع فرضت نفسها على لقاء الرئيس السيسى مع الشباب فى محاولة جادة لإصلاح التعليم وتصحيح مفاهيم الهوية التائهة ، والصدفة رتبت أن يشهد اليوم السابق لهذا اللقاء تفجير شارع الهرم وأن يشهد اليوم التالى لهذا اللقاء تفجير الكنيسة البطرسية، وليس صحيحا أن يد الغدر اختارت هناك مسجدا واختارت هنا كنيسة، لكن الصحيح أنها واحدة من محاولات تعطيل المجتمع وإرباك أولوياته، وأنها دخلت طورا هدفه معاقبة المصريين على اختياراتهم، لأنهم بدأوا يواجهون أنفسهم بجوهر المشكلة التى لمسها نجيب محفوظ عن الشباب الضائع، وكرر الرئيس نفس النتيجة المسكوت عنها أكثر من عشرين سنة حين تساءل: يعمل إيه التعليم فى وطن ضائع؟! فأى وطن يسحب بعيدا عن هويته وحكمة وجوده وثقته فى قدراته يصبح وطنا ضائعا بكل معنى الكلمة يمد يده للغير وتصبح إرادته وأرضه رهينة لمن يطعمه، ولن تصبح إرادته السياسية نابعة من عزيمة شعبه الحر كما تمنى الرئيس، وكما أن التعليم ضحية ضياع البوصلة فهو أيضا الوسيلة وطوق النجاة لبناء الإنسان واستعادة الوطن الذى كان يتعامل مع الأمم حتى فى ظل الظروف الاقتصادية الصعبة بكرامة وعزة وكبرياء بلا تفريط ولاغرور، لكن هل يتحمل المجتمع تكاليف روشتة إصلاح جاد فى التعليم الذى هو قاطرتنا الوحيدة للنجاة؟ المؤشرات تقول نحن غير مؤهلين، فمنذ شهور حاولت بعض المحافظات إلغاء الدروس الخصوصية فتظاهرالأهالى مطالبين ببقائها، لأنها فيها الضمان بالحصول على المجموع الأكبر، وكأن المجتمع صار مثل المدمن الذى يصاب بكل الأوجاع إذا منعت عنه الجرعة، ولابد من «تكتيفه» حتى يأخذ العلاج بالقوة، وإلا استمرت الإفرازات المرضية فى شكل طاعن نجيب محفوظ ومفجر شارع الهرم وقاتل المصلين فى الكنائس والمعتدى على أكمنة الأمن وكل ما له علاقة بالمدنية والعقل والنظام! فهل نبدأ العلاج الحقيقى بإصلاح منظومة القيم والتعليم لنحافظ على وحدة مصر أم نستسلم ل«الذئاب الشاردة» من سيناء ومن الخارج التى تجند الآلاف من الضائعين أمثال محمد ناجى ومحمود شفيق اللذين كان أي منهما يصلح بطلا رياضيا أو عالما أو واعظا دينيا فى محاولة لإشعال فتنة طائفية لإخفاء هدفها الحقيقى بتعطيل مسيرة استقلال الإرادة والبحث عن الذات بالإصلاح والتنمية، وتحقق نبوءة سؤال قناة الجزيرة عن انتهاء شهر العسل بين المسيحيين والسيسى! لمزيد من مقالات أنور عبد اللطيف;