فى الأسبوع الماضى كتبت مقالى عن جحود الأبناء بالوطن ووصلتنى رسائل كثيرة بهذا الخصوص، ولكن هناك رسالة استوقفتنى وجعلتنى اكتب هذا المقال. فقد أرسل لى أحد الشباب قائلا: «أى وطن تتكلم عنه وماذا يعنى الوطن لا أفهم تلك الكلمات ولا تعنى عندى شيئا». وهنا أيقنت أننا نعيش أزمة فكر على كل المستويات، ورغم تعدد مصادر المعرفة ولكننا تركنا شبابنا بلا محددات لهويته وأفكاره، بل لم نهتم بما يشكل عقله وروحه، وتركناه وسط خضم بحر أمواج العالم العاتية تجذبه هذه وتلطمه تلك، ولم نكن له المرسى والشاطئ والمعونة لمعرفة الحقائق ومساعدته فى تحديد هويته. فالرسالة طعنة لكيان الوطن فى مقتل، إذ يرى البعض أن الوطن كلمة رنانة استخدمناها كثيراً ولكنها لا تعنى شيئاً سوى ما يجنيه فى يومه من أسباب معيشته، ولذلك يراود الكثير حلم الهجرة لأنه يرى أن الحياة ما هى إلا أكل وشرب وحياة مريحة. وهنا وجب عليّ أن أعلق على معنى الوطن. وبداية لابد أن أفرق بين الانتماء لوطن والسكنى فيه. فالوطن هو نحن فى الجغرافيا والتاريخ، بينما سكنى الوطن هو أنا فى جغرافيا بلا تاريخ. والفرق كبير جداً، هو فى الحقيقة الفرق بين الابن الذى يحيا وسط عائلته حتى وإن كان منزلا متواضعا، واللقيط الذى يعيش فى قصر. فالسكنى فى وطن أو بلد يعنى الوجود فى مكان للمعيشة من أكل وشرب بلا انتماء ولا تاريخ، هو فقط يعيش ليستهلك. أما النحن فى الجغرافيا والتاريخ فقد يعنى الآتي: «النحن» هى المجتمع الذى ننتمى إليه وليس الذى نعيش فيه فقط، و «ننتمى» أى ما يشكل ذواتنا الخاصة وشخصياتنا من ذات كبيرة هو العقل الجمعى والمزاج الجمعي. فالوطن هو الذى يشكل هويتنا الخاصة، فالإنسان يولد فى مجتمعه ويتشكل عقله من البيئة المحيطة به التى قد تكون تجانسا كبيرا بين الدين والثقافة والفن والعائلة والمدرسة والأصحاب والشوارع والحارات وأشكال الناس وملابسهم، كل هذا يشكل هويتنا. فالهوية فكر وعاطفة وموسيقى وفن ولغة وتراث وعادات وتقاليد يكون فيها الفرد مشاركا لكل من فى وطنه يعيشها يومياً ينتمى ويعيش ويشعر بدفء الحياة فيها. وهذا الكيان الكبير الذى هو الوطن يحمل فى أعماقه حضاراته وأفكاره وكل معانى العائلة الكبيرة فكل الأمهات وكل الآباء وكل الأخوات هم العائلة الكبيرة للشخص الذى ينتمى إلى الوطن ليشكلوا الترابط فى الهوية الفردية. الوطن أيضا هو الجغرافيا، هو الأرض والحدود، هو ما نحيا عليه من عمل يد الله لنعيش به سواء بحارا أو أنهارا أو ثمارا، هو تضاريس الوطن الذى نشعر فيه بالانتماء المادي. فحين خلق الله الإنسان خلقه من نفخة فمه فكانت روحه، ومن طين الأرض فكان جسده. وهذا يعنى أننا ننتمى لكيانين فى طبيعتنا أننا من الله بأرواحنا، ومن الأرض بأجسادنا والطين هو أجسادنا. فتراب الوطن هو نحن لذلك هناك من يستغرب على من يكتب فى وصيته أنه حينما يموت يدفن فى وطنه، ولا يدرك أن هذا لأن جسده منتم إلى تراب الوطن. فالوطن هو أجدادنا بالحق لا على مستوى الانتماء العائلى ولكن الانتماء المادى أيضا. فتراب الوطن هو أجساد أجدادنا التى عاشوا هنا. والجغرافيا تشكل هويتنا أيضا فحين نقول إن مصر طيبة هذا لأن النيل فيها مسالم ومعطاء للخير. وأراضى مصر فيها الحب لأنها أرض خصبة تعطى ثمار وأسباب الحياة. كما أن المناخ أيضاً يشكل الهوية فإشراق الشمس ونسمات الهواء واعتدال المناخ يؤثر فى مزاج الشخص ويصبغ النفوس بالأمل والفرح أو الكآبة والضيق. والوطن أيضا هو التاريخ هو الحضارة المتراكمة عبر الزمن. وحين تكون هوية الوطن حضارة منذ آلاف السنين لا يظن أحد أن هذا تاريخ ومضى ولكنه ترسيخ عميق لفكر وروح نتوارثها فى طبيعتنا وتدخل فى هويتنا وفى الوجدان واللغة والأعياد والتقاليد. فحين تسير فى كل حى وكل شارع وتجد معابد فرعونية شامخة وأهرامات ومسلات ثم ترى كنائس وأديرة ومنارات ثم ترى مساجد ومآذن هذا لا يعنى أنها مجرد مبان ولكنها هوية أيضاً. وحين يحتفل الوطن باحتفالات يشارك فيها الجميع تكون هذه هويته فنرى فى رمضان الكل يدخل فى شركة الحب والسهر والفرح، وحين يأتى شم النسيم يخرج الكل للاحتفال. فهذه ليست مجرد أعياد لكنها هوية وطن. فى بداية القرن العشرين كتب المفكر الإنجليزى «ليدر» كتابا اسمه «أبناء الفراعنة المعاصرون» قال فيه «أيام الفيضان المنخفض الذى يهدد المصريين كانت مسيرات المسلمين والأقباط معا مضى فى الشوارع تنشد بصوت واحد ونغم واحد تضرعا مشتركا صيغت فيه مقاطع من صلواتها التقليدية كيرياليسون أى يارب أرحم والله الله لا إله إلا الله». هذا هو الوطن الذى يحمل حضارة حقيقبة راسخة فى أعماقنا. نعم هذه الهوية التى ثار لأجلها الشعب حين أيقن بعبقريته أنها مهددة أثناء حكم مجموعة كانت ترى أن الوطن تراب عفن وعملوا على تقسيمه وتقسيمنا وتشتيته وتشتيتنا. عزيزى القارئ وإن كان الوطن يحمل جسدا نحيلا أنهكته المصائب والمؤامرات والأمراض ولكنه لا يزال واقفا بشموخ الأجداد، فهذا الجسد النحيل يحمل رأسا عبقريا هو حضارة آلاف السنين. ولا تظن عزيزى القارئ أننى أتكلم عن وطننا فقط بل كل الأوطان. أرجوكم لا تتغربوا أو تفرطوا فى الوطن بل حافظوا على أوطانكم لأنها هويتكم وميراث الأجداد وغنى الأحفاد. فلا تجعلوا أحدا يسرق منكم الوطن ويترككم أمواتا فى غربة. وكما قال «فولتير»: «خبز الوطن خير من كعكة الغربة». ويقول «هوميروس»: «ليس هناك شىء فى الدنيا أعذب من أرض الوطن». كاهن كنيسة المغارة -الشهيرة بأبى سرجة الأثرية لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس