هذا السؤال يأتي في حينه; في زمن اختلطت فيه المفاهيم علي الناس, حتي أصبحنا نجد كثيرا منهم يرددون عبارات من قبيل أن' هويتنا إسلامية', ومن ثم لا يجوز المساس بهذه الهوية التي يكمن فيها جوهر كينوتنا وحقيقة وجودنا; فهويتنا' الإسلامية' هي التي تؤسس النحو الذي عليه نكون, ومن ثم تحدد سائر أسباب حياتنا ومعاشنا. ولا شك أن الشعوب لا تتساءل عن هويتها إلا عندما يكون وجودها نفسه مهددا بالخطر أو الزوال أو الانحلال. وربما تفسر لنا تلك الحقيقة السبب في إلحاح هذا التساؤل علي ثقافتنا الراهنة ومنذ زمن بعيد, في حين أنه لا يكون مطروحا بهذا الإلحاح في ثقافات الأمم المتحضرة; ببساطة لأن هويتها تكون متحققة بالفعل في تواصل حضورها التاريخي وفاعليتها الحضارية. غير أن الطرح السالف لمسألة الهوية في واقعنا الراهن بوجه خاص, ينطوي علي كثير من الخلط والتشويش; ولهذا يجب علينا أن نجلو أولا معني مفهوم' الهوية' بتخليصه من التصورات المشوشة التي اقترنت به في أذهان الكثيرين. وعلي هذا; فإنه يحق لكل من يرددون عبارة' الهوية الإسلامية' أن يقولوا: إننا إذا اتفقنا علي أن' هويتنا إسلامية' بمعني أن حقيقة وجودنا تكمن في كوننا ندين بالإسلام; لترتب علي ذلك بالضرورة أنه يجب أن ينطوي دستورنا علي هذا المفهوم. ولكن لا يحق لأحد القول بأننا يجب بالضرورة أن نتفق معه علي أن' هويتنا إسلامية'. ولذلك ينبغي أن نلفت انتباه كل من يقول بذلك إلي أن هناك ملاحظات أولية ينبغي أن يعيها قبل أن ينسب إلي الهوية صفة ما أو يسميها باسم ما, ولسان حالنا يقول: إن هي أسماء سميتموها! والأمرالأول الذي ينبغي أن نتبينه هو أن' الهوية لا يمكن اخنزالها في الدين', اللهم إلا إذا كنا بصدد الحديث عن طوائف دينية, وليس عن أمم وشعوب وحضارات. فالشعوب التي تنتمي إلي حضارات تكتسب هويتها من خلال الدين والأخلاق والفن الذي يشكل وجدانها, ومن خلال الفكر والعلم الذي يشكل وعيها, ومن خلال الجغرافيا والتاريخ الذي يلقي كلأ منهما بظله علي الآخر في عملية تشكيل ملامح الأرض أو الوطن. بل إن هذا كله يلقي بظلاله علي الدين الواحد نفسه. ولهذا نجد أن الدين الإسلامي قد اكتسب طابعا خاصا لدي المصريين, فاكتسب من حضارتهم الخاصة طابعا من السماحة والبشاشة والاحتفاء الذي تجلي حتي في قراءاتهم للقرآن التي اصطبغت بصبغة الفن والغناء علي نحو يبدو كما لو كان يجسد الإحساس الفطري للوليد ابن المغيرة حينما استمع للقرآن أول مرة, فاستشعر ما فيه من جمال اللغة والموسيقا. وهذا نفسه ما يفسر لنا بعضا من اختلافنا عن غيرنا من الشعوب التي تدين بالإسلام. وهذا يعني أن' الهوية تكمن في الاختلاف', وهذا الاختلاف هو الذي يصنع الخصوصية التي يمتاز بها شعب ما, وهي خصوصية لا يصنعها الدين وحده, بل إن الدين نفسه يكون نتاجا لهذه الخصوصية, يتلون بلونها, ويتسم بطابعها وأسلوبها. تري هذا في جماليات تلاوة القرآن عند المصريين التي لا نجد لها نظيرا عند غيرهم ممن يدينون بالإسلام, وفي احتفالاتهم بالمناسبات الدينية التي يمتزج فيها الدين بالفن من خلال الرقص والغناء, علي نحو ما نجد في الطقوس الدينية الاحتفالية لدي المتصوفة وفي مخزون الوعي الشعبي. بل إننا نجد ذلك أيضا في احتفاء المصريين بالموت من خلال طقوس معلومة يمتزج فيها الموروث الفرعوني بالطقس الإسلامي, ذلك الاحتفاء الذي لا نكاد نجده لدي سائر الشعوب الإسلامية. الدين الإسلامي إذن, وإن اكتسب طابعا خاصا, يظل كما أسلفنا مجرد عنصر من عناصر تشكيل هويتنا كمسلمين. بل هذا الدين نفسه لا يمكن أن يسهم في تشكيل هويتنا كمصريين, طالما أن هناك ملايين من المسيحيين يشاركون المسلمين في كونهم مصريين, بل يسبقونهم- من حيث أصولهم- في الانتماء إلي الهوية المصرية. وربما يكون هذا هو أحد الأسباب الجوهرية في أن الدين الإسلامي بمصر قد اكتسب قدرا كبيرا من الرحابة, بحيث يستوعب الكثير من المشترك بينه وغيره من الأديان. والأمر الآخر الذي ينبغي أن نتبينه في معني الهوية( ومن ثم لنتبين هويتنا ونحدد معناها) هو أن' الهوية ليست شيئا ثابتا يبقي بلا تغير': فالهوية لا يمكن اختزالها في لحظة تاريخية معينة من الماضي, وإنما هي نتاج اللحظات التاريخية التي تركت بصمتها فينا, وشكلت وعينا ووجداننا وأسلوب حياتنا. فليست كل اللحظات التي عشناها في الماضي تبقي معنا في الحاضر, وإنما يبقي معنا ما تواصل منها عبر تطورنا إلي أن بلغ حاضرنا, وإلا كنا أشبه بالكائنات الديناصورية أو المومياوات التي لا تختلف صورتها الراهنة عن هيئتها التي تجمدت عليها في لحظة معينة بعيدة( وهذا يصدق علي الأفراد مثلما يصدق علي الشعوب والحضارات). وعلي هذا, يمكن القول إن هويتنا كمصريين لا يمكن اختزالها في لحظة معينة من التاريخ الإسلامي أو الدعوة الإسلامية, وإنما هي نتاج لحظات تاريخية تنتمي إلي الحضارة الفرعونية والقبطية والإسلامية. الهوية إذن حالة ديناميكية تتشكل من خلالها باستمرار الكينونة( سواء في مستوي الذات أو مستوي الأمة); فهي ليست لها أصل سابق يقاس عليه, وليست شيئا يكون معطي لنا علي نحو مكتمل وجاهز سلفا, وإنما هي عملية تكوين من خلال ما قد كان, وما هو كائن, وما يمكن أن يكون( أي من خلال ما نريد أن نكون ونسعي إليه). وهذا يعني أيضا أن' الهوية ليست مرادفة للتراث'; فلا يمكن اختزال الهوية في التراث, وإلا أصبحنا أشبه بالكائنات المتحفية أو الأثرية كما أسلفنا. لأنه حتي معطيات التراث ذاتها ليست شيئا ثابتا أو واحدا, وإنما هي نصوص ومواقف وأحداث قابلة باستمرار للتأويل ولإعادة القراءة من جديد. وبديهي أنه لا يمكن اختزال التراث نفسه في النص الديني, طالما أن التراث يوجد في الدين وفي غيره من الفنون والآداب والعلوم والفكر, بل في أساليب الحياة وطرائق العيش. كما أنه لا يمكن اختزال التراث الديني نفسه في النص الديني; لأن التراث الديني يكمن في كل المدون والمنقول مما له علاقة بالدين. وهو يكمن بوجه خاص في الكتابات التي تفسر النص الديني, وأغلبها- لللأسف- كتابات ضعيفة تأخذ بحرفية الكلمات والأسماء ولا تقوي علي التأويل بحيث ترفع النص إلي حالة حضور, وتجعله قابلا للتطبيق باستمرار علي عصرنا الذي نعيشه. ومن الغريب أن الذين يتشدقون بالعودة إلي التراث الإسلامي( كما لو كان لحظة أو معني ثابتا ينبغي حفظه أو تحنيطه), هم الذين لا يقرءون التراث الإبداعي لحضارتهم الإسلامية: فهم لا يعرفون حقيقة الإنجازات العلمية لعلماء المسلمين, ولا يعرفون الفارابي وابن سينا, ولا ابن رشد ومناظراته مع الغزالي, ولا مناظرات المنطقي بشر بن متي مع النحوي أبي سعيد السيرافي, ولا كتابات التوحيدي التنويرية, ولا عمق التصوف الإسلامي الفلسفي عتد محي الدين ابن العربي. وخلاصة القول, إذا كانت الهوية ليست مرادفة للتراث, وإذا كان التراث لا يمكن اختزاله في الدين, وإذا كان التراث الإسلامي نفسه لا يمكن اختزاله في النص الديني; فبأي حق إذن يدعي الأدعياء بأن هويتنا كمصريين يجب اختزالها في كوننا مسلمين؟! H أستاذ الفلسفة المعاصرة بآداب القاهرة لمزيد من مقالات د. سعيد توفيق