أما وقد حدث التغيير فى الولاياتالمتحدة والذى لم يكن يتوقعه أكثر المتفائلين فى الحزب الجمهورى بوصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض, فنحن اليوم أمام تغيرات مرتقبة فى السياسة الأمريكية لتحقيق المصالح الأمريكية بوسائل أخرى يقودها رجل أعمال «بيزنس مان» بصورة ربما لم تحدث على مدى الأعوام الأربعين الماضية فى علاقة السياسة الأمريكية بجماعات الإسلام السياسى والإرهاب منذ التورط الأمريكى «المخطط له» فى حرب أفغانستان، ومن ثم صعود نجم تيارات الإسلام السياسى فى المنطقة على وقع معركة الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتى السابق فى الفناء الخلفى لموسكو والتى لم تخلف سوى خراب ودمار فى الشرق الأوسط بعد أن قويت شوكة التيارات الظلامية التى توهمت أنها قد انتصرت فى معركة بين الخير والشر أو بين الإيمان والكفر. حقيقة الأمر أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة قد استثمرت فى صعود الإسلاميين وبعد أن كانت العلاقة بفصيل واحد هو جماعة الإخوان الإرهابية المحظورة فى مصر وعدد من الدول العربية، أصبح اللعب مع جماعات متنوعة، وعلى رأسهم الإخوان، أمرا عاديا ومعتادا فى ظل قناعات ترسخت لدى الغرب وروج لها بعض دعاة المجتمع المدنى بدعوى منح هذه الجماعة فرصة بأن مستقبل المنطقة يقع فى قبضة تلك الجماعات، وأن شعوب المنطقة لن تعرف معنى الدولة المدنية مثل الدول الطبيعية الأخرى فى العالم وأن مصير الحكم يجب ألا يخرج عن قبضة جماعات تناهض الدولة المدنية الحديثة، وتحارب التيارات القومية والوطنية الراغبة فى صناعة سياسات مستقلة عن الدول الكبري. وقد ترسخت تلك الصورة بعد 11 سبتمبر أكثر وأكثر بعد أن توهمنا أن الولاياتالمتحدة سوف تفيق من تلك التصورات وتعرف كيف تحدد بوصلة السياسات القادمة ولكن ما حدث أن واشنطن سعت إلى مغازلة تيار الإسلام السياسى من أجل احتواء تلك الجماعات، ورغبة فى اتخاذهم شركاء للسياسة الأمريكية، وعدم تهديدهم للمصالح الأمريكية من جديد، وهو ربما ما دفع الولاياتالمتحدة إلى غزو العراق وخوض حرب لا معنى لها للإطاحة بصدام حسين وتدمير مقدرات الدولة العراقية وإلى رعاية مايسمى ب «ثورات الربيع العربي» ثم التركيز على إنهاء حكم بشار الأسد فى سوريا، وهدم كيان الدولة السورية، رغم خطورة ما يجرى فوق الأراضى السورية والعراقية والليبية على النظام الإقليمى وعلى المصالح الأمريكية ذاتها. إن قراءة تصريحات الرئيس المنتخب ترامب تعنى أن سياسة «توظيف الإسلام السياسى» لخدمة المصالح الأمريكية التى بدأت مع الرئيس الديمقراطى جيمى كارتر عام 1979 قد انتهت مع الرئيس الديمقراطى باراك أوباما فى عام 2016، وهى السياسة التى عبر عنها زيجينو بريجنيسكى مستشار الأمن القومى فى عهد كارتر بقوله: «إن الولاياتالمتحدة وجدت فى أفغانستان أن أفضل استثمار لها فى الخارج لتحقيق مصالحها هو الاستثمار فى الإسلام السياسى».... ترامب يعبر عن التغيير أيضا، فهو رجل أعمال «بيزنس» والسياسة تعنى الحديث عن مصالح وفرص متبادلة أو مشتركة وليس سياسة استخدام العصا والإرهاب تحت مظلة دعم المجتمع المدنى أو تقارير حقوق الإنسان. فالحديث سيكون عن مصالح وصفقات وليس عن حروب وهو ما يمهد لوضع دولى ومن ثم وضع إقليمى متغير أو قابل للتغيير. بالنسبة لمصر، ربما لم يأت رئيس أمريكى منذ توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل فى نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضى يمتدح مكانة مصر فى النظام الإقليمى ويجل قيادة مصر للعالم العربى مثلما فعل الرئيس المنتخب دونالد ترامب وفريقه المعاون فى الشهور الأخيرة وبصورة ربما أدهشت الكثيرين، إلا أن العجب يزول لو عرفنا حجم القلق الذى يستشعره ترامب ومساعدوه من خطورة التورط الأمريكى الحالى فى صراعات الشرق الأوسط، ومن استمرار الدعم «الأعمي» لتيارات دموية، والخلل الخطير فى الأمن الإقليمى الذى ترك حلفاء كبارا للولايات المتحدة عرضة لزوابع وتقلبات وتهديدات سوف تعصف بالنظام الإقليمى وتمهد لصعود قوى متطرفة باعتبارها أمرا واقعا غير مسبوق فى تاريخ العالم المعاصر ما لم يحدث تغيير جوهرى فى السياسات الحالية. ليس سراً، أن القيادة السياسية فى مصر تشارك رؤية فريق الرئيس الأمريكى المنتخب عن ضرورة وضع حد أو انتهاء صلاحية جماعات الإسلام السياسى فى الشرق الأوسط، وهناك توافق أيضا على التصدى للإرهاب وعدم التهاون مع ظاهرة خطيرة تزحف بقوة على مجتمعات كثيرة، وتهدد صورة الدين الإسلامى أمام سائر الشعوب الأخري. وقد جاءت الإشارات الأولى من الإدارة الجديدة مريحة ومنطقية، وتبشر بدور مصرى أكبر فى صياغة رؤية إقليمية عاقلة وعودة مصر إلى موقعها الطبيعى مركزاً لصناعة القرار الإقليمي، وذلك ضمن نتائج أخرى متوقعة للتغيير فى السياسات الأمريكية بعد تنصيب ترامب فى 20 يناير المقبل. وستنعكس تلك المتغيرات على الأوضاع فى الدول العربية التى تشهد حروبا داخلية ومؤامرات إقليمية وأهمها الوضع فى كل من سورياوالعراق وليبيا، حيث القاسم المشترك للفوضى الداخلية هو جماعات الإسلام السياسى التى تحصل على السلاح والأموال من جهات بعضها معلوم، والبعض الآخر يطرح علامات استفهام لا تتوقف عن طبيعة تورط بعض العواصم فى عملية مشبوهة لهدم الدول! ما سبق يطرح أمرين مهمين يتعين الاستعداد لهما والتعامل معهما على محورين: الأول: كيف نستعد للتعامل مع الإدارة الأمريكية الجديدة الثانى: الاستعداد لمواجهة تصعيد وعمليات تشويه وإساءة للنظام السياسى فى مصر عن المحور الأول: - استغلال المناخ الإيجابى لتصريحات ترامب عن دور مصر فى المنطقة، وعدم الالتفات للمناخ السلبى الذى يشيعه من كانوا على علاقة ممتازة بالإدارة الديمقراطية الحالية، وتوجهاته. وقد كتبنا قبل أسبوعين عن هذه الفرصة السانحة ويجب هنا إدراك والانتباه للآتى: 1 دونالد ترامب (72 سنة) سيحكم لمدة 4 سنوات، وقد لا تتكرر لمدة أخري، لذلك لابد من العمل على الاستفادة من النيات الإيجابية وتحقيق المصالح الملحة ووضع العلاقات مع الولاياتالمتحدة فى إطار جديد وهو ما يتطلب القيام بجهد مضاعف. 2 الاستفادة من طرح ترامب موضوع مكافحة الإرهاب على رأس أولوياته والدفع فى طريق تصنيف جماعة الإخوان الإرهابية وأشقائها على قائمة المنظمات الإرهابية من أجل محاصرة تلك المنظمات على الصعيدين الإقليمى والعالمي، وبدء حملة فى أروقة المنظمات الدولية للكف عن استخدام لغة مراوغة (مثل المصالحة مع قيادات الجماعة الإرهابية) وتسمية الأشياء بمسمياتها فى الفترة المقبلة. 3 استعداد مصر بفريق عمل على مستوى عال من الكفاءة والفهم للنظام السياسى الأمريكى وللسياسة الأمريكية خاصة مع سيطرة الجمهوريين أيضا على الكونجرس ليكون يوم 20 يناير (التنصيب) نقطة الإنطلاق لاختصار الوقت والتواصل المباشر وجها لوجه مع الإدارة والكونجرس وبشكل مكثف. والقاعدة هنا التى نستند عليها هى البعثة الدبلوماسية فى واشنطن، والاستعداد يكون بفتح قنوات اتصال وحوار مع فريق ترامب ومعاونيه لوضع رؤية للعلاقات الثنائية فى الفترة القادمة، وبالتنسيق مع روسيا (مثلث الولاياتالمتحدةروسيا مصر) لمواجهة القضايا العاجلة عربيا وإقليميا. فنحن أمام رئيس أمريكى يرحب بالتعاون والتنسيق مع روسيا فى قضايا الشرق الأوسط. 4 التعامل المباشر وجها لوجه مع ترامب ومعاونيه - وليس عبر شركة علاقات عامة كان يتم التعامل معها فى الماضى وتدفع لها دولة عربية خليجية؟!! وهذه مشكلة لأن الشركة هنا ستعمل لمصلحة الطرف الثالث فى العلاقة..؟!! 5 يبرز دور آخر للدبلوماسية المصرية على الصعيد الداخلى فى الولاياتالمتحدة ألا وهو التعامل مع قضايا الأقليات العربية والإسلامية بتعقل وتفهم لمخاوف الداخل الأمريكى ومن انتخبوا دونالد ترامب من خلال فتح حوار على مستوى تقديم العقيدة الإسلامية على نحو معتدل ومتعقل بعيدا عن أصوات نائحة ومنفلتة طوال الوقت تسببت فى خسارة الكثير، ودفعت بعض العناصر إلى التطرف وارتكاب جرائم تزيد من اتساع الفجوة بين الأغلبية والأقليات الدينية فى الولاياتالمتحدة. والأزهر الشريف هو الأجدر بالقيام بدور فى تلك المبادرات التى يتعين أن تتسم بالديمومة والاتساع والقدرة على الوصول إلى صناع القرار والرأى العام الأمريكى على حد سواء. استغلال الفرصة لماذا؟ نحن أمام رئيس يعتبر الرئيس عبد الفتاح السيسى حليفا ويعتبر مصر هى «مركز الثقل فى المنطقة» وليس أى دولة أخرى، والسيسى هو الزعيم الوحيد الذى حرص ترامب، خلال حملته الانتخابية، على لقائه وامتدح موقفه وتصديه للإرهاب. فنحن، أمام اتفاق مصرى أمريكى ربما لأول مرة منذ عام 1971 بشأن جماعات الإسلام السياسى وتوظيف الدين لخدمة السياسة بعد سنوات من استخدام مصر نفسها فى عهد أنور السادات وصفقات حسنى مبارك وحكم الإخوان سنة كبيسة وتوظيف أمريكا للحالة الدينية لخدمة أغراض السياسة فى الشرق الأوسط على نحو كارثي..؟! عن المحور الثانى: فى ظل هذه التطورات والتقدم الذى تحرزه مصر على صعيد إصلاح نظامها الاقتصادى وخطوات التعمير والبناء القائمة ومشروعات ستأتى بثمارها فى السنوات القادمة ومع وجود نظام سياسى يرسخ أقدامه يوما بعد يوم ويثق فى نفسه ولا يهتز أمام إرهاب أو تخويف من اتخاذ قرارات لمصلحة البلد... نجد أمامنا قوى وكيانات إقليمية ودولية حكومية وغير حكومية وجماعات فى الداخل قد أصابها الإحباط واليأس تسعى لهدم كل ما سبق.. دول وجماعات انتابتها حالة هياج وسعار ويصدر عنها مواقف وتصريحات وبيانات وأعمال وأفلام ودعاية سواء لمحاولة الإساءة للرئيس أو للنظام السياسى.... وبعد تصريحات المسئولين الأمريكيين المرتقبين فى البيت الأبيض خلال اقل من شهرين نفهم حجم غضب تلك الأطراف وتكثيف محاولات النيل من سمعة مصر ورئيسها ويتخذ ذلك أشكالا عدة مثل: - التصرفات غير المسئولة التى صدرت عن إياد مدنى الرئيس السابق لمنظمة التعاون الإسلامى (يحسب للسعودية سرعة اتخاذ قرار بعزله وترشيح آخر مكانه). إنتاج قطر فيلما لمحاولة الإساءة للجيش المصرى الذى يقلق منامهم... لكن هنا نقول أن بعض ردود الأفعال تجاوزت الأخلاق، فالخلاف مع سياسة وليس مع أشخاص. كما أن ردود الأفعال تمثل أصحابها (مثلما حدث فى حالة إياد مدنى) ولا تمثل الدولة المصرية شعبا ورئيسا وحكومة. فالرئيس نفسه فى حديثه لرؤساء تحرير الصحف القومية قبل نحو شهر شدد أكثر من مرة على أن يكون ردنا على من يسئ إلينا يعبر عن ثقافتنا وحضارتنا.. وسألنا: «هل صدر منى إساءة إلى من يسىء إلينا»... فردنا يجب أن يعكس ثقافتنا وحضارتنا ورقى الحالة المصرية الضاربة فى عمق التاريخ وأصالة شعب لا يعرف اللغة الخشنة مع الآخرين ولا مع الصغار. قصة انسحاب بعض الدول من القمة الإفريقية العربية لمحاولة إحراج الرئيس السيسى الذى حضر القمة هى قصة مكشوفة وصبيانية ومفتعلة.. ويعلم المنسحبون أن القمة يتم التحضير لها منذ شهور من جانب الاتحاد الإفريقى والجامعة العربية، والجمهورية الصحراوية عضو فى الاتحاد، مما يعنى أن الدول العربية تعلم ذلك وتعلم أنه سيتم بروتوكوليا توجيه الدعوة لها بصفتها عضوا فى الاتحاد.. فلماذا لم تعلن هذه الدول عدم مشاركتها فى القمة أصلاً إذا حضرت جمهورية الصحراء؟! نقابة الصحفيين التوانسة وبيانها المتهافت حول شأن داخلى فى مصر دون مبرر أو سبب واضح! تلك عينة بسيطة... ونتوقع أن يزيد حجم الهجوم والتصعيد السياسى ضد مصر مثل الاستغناء عن عمالة مصرية فى دول خليجية، اعتقادا أن ذلك يمثل ضغطا على الاقتصاد المصرى. كل ذلك فى إطار عدم وصول مصر إلى نهاية عام 2017 ، حيث يتوقع أن تجنى مصر خلاله ثمار جهد وعرق ودم وعمل، من أجل عرقلة وضع مصر من أن تعود مركز الثقل فى المنطقة.. هؤلاء غارقون فى أوهامهم وفى الغرور القاتل بقدرة عظيمة لأموالهم التى تستخدم فى نشر الأباطيل وتأليب الأوضاع الداخلية فى دول شقيقة من أجل الحصول على زعامة متوهمة.. نحن نواجه حرب تكسير عظام ينفق أصحابها المليارات ويشجعون كل الاتجاهات المناوئة للسلطة وكأنهم يحاولون إثناء الإدارة الأمريكية القادمة عن الرهان على مصر! ومن سوء حظهم أن الإدارة الأمريكية الجديدة تمتلك صورة جيدة عن الأوضاع فى المنطقة وتعرف قدر الدول المعتدلة والدولة الكبيرة وتعرف أن بقاء الدولة الوطنية مسألة لا جدال فيها وهو ما نادت به مصر طوال السنوات الخمس الماضية وهو ما دفع المصريين إلى الخروج فى ثورة 30 يونيو حماية لتلك الدولة من خلل خطير ومن خطر هائل. كل ما سبق ايضا يستوجب تماسك الجبهة الداخلية ومن أهم النقاط هنا (كمثال) ما يتردد فى أروقة مجتمع الاقتصاد والأعمال فى مصر عن وجود مسئولين فى مواقع فى بعض مؤسسات فى الدولة لا يؤمنون بالاقتصاد الحر فى دولة لا يحكمها اليسار ولا حزب شيوعى ولا أيديولوجية اشتراكية فما نحتاجه بشكل عام هو اتساق السياسات والتوجهات مع الأهداف الفعلية التى نريد أن يدعمنا العالم فى تحقيقها سواء على مستوى قضايا الأمن القومى والإقليمى أو على مستوى الإصلاح الاقتصادي. مصر تتقدم بإنجازاتها فى الداخل وبسياستها الخارجية المنفتحة على الجميع والمستعدة للتعاون مع الجميع من الصينوروسيا حتى بريطانياوالولاياتالمتحدة. لمزيد من مقالات محمد عبد الهادى علام;