سنغافورة مجرد «نقطة صغيرة» على الخريطة إلا أنها بعزيمة الرجال ورؤية لى كوان يو الزعيم المؤسس تمكنت أن تقيم أمة متسامحة متعددة الأعراق والديانات. وكنت وما زلت أشعر بإعجاب شديد من هذه «الدولة» المدنية وإصرارها على أن تكون حاضرة، بل قصة نجاح يتطلع إليها الآخرون. وأتذكر أن رئيس وزراء سنغافورة السابق السيد جوه تشوك قال لي: إن المشاكل التى ربما هى «أمور صغيرة» بالنسبة للدول الكبرى هى «تحديات وجود» للدول الصغرى مثل سنغافورة. وهذه هى العقلية، بل ربما نقول «الجدية» و«الذكاء» فى مواجهة الأزمات. ولقد عاودتنى هذه الحوارات مع رجالات سنغافورة التى تابعت تطورها على الطبيعة وأنا أشاهد القلق فى مواجهة «قضية الإرهاب»، وفى حوارات جانبية كثيرة مع أصدقاء ومسئولين كانت دائما ما تبرز هذه الجملة القاسية بسنغافورة فى مرمى الارهابا ولم يعد السؤال: هل ستشهد سنغافورة أعمالا إرهابية، بل متى سوف يحدث ذلك؟ والمدهش أن بلدا متقدما ويحظى فيه الناس من مختلف الأعراق بالرعاية، وجودة الحياة على أحسن مستوي. إلا أن ذلك كله للأسف لم يكن كافيا لأن يجنبها «فيروس التطرف»، ولا أن يستبعدها من دائرة استهداف «الارهاب» فى زمن العولمة ووسائل التواصل الاجتماعي. وعندما أخبرت محاورى السنغافوريين بأن «العملية الارهابية» المقبلة سوف تختبر «استعداداتكم الأمنية»، إلا أن الأهم أنها سوف تختبر «تماسك الأمة» الذى جرى بصبر على مدى 50 عاما. وقال الجميع «معك حق»، وبقدر ما يشغلنا اليوم التالى لهذا الهجوم الإرهابي، إلا أننا الآن مشغولون «باليوم السابق». وأحسب أن قدرا من الحوار يستحق أن يروى وبالقدر نفسه لابد أن نتوقف أمام مشاعر ومخاوف والأهم عمل هذه الأمة لمواجهة خطر لم يعد يستثنى أحدا، ولم يعد أمامنا من سبيل سوى التوحد فى مواجهته. آسيا فى دائرة الخطر ولعل تشخيص حجم الخطر الإرهابى جاء من تقديرات وزارة الدفاع، فقد أكد وزير دفاع سنغافورة نج انج هين أن بلاده ترى أن «التشدد الاسلامي» يمثل خطرا واضحا وحاضرا على آسيا، ولاسيما الخطر الذى قد ينجم عن ترابط جماعات أعلنت مبايعتها لتنظيم داعش. وقال وزير الدفاع إنه خلال السنوات الثلاث الأخيرة تجاوز عدد المتعاطفين مع داعش عدد مؤيدى تنظيم القاعدة خلال سنوات تأثيره العشر. وكشف المسئول السنغافورى الرفيع عن أن عناصر من الجماعة الإسلامية «جناح للقاعدة» قد خططت لهجمات فى سنغافورة منذ بدء الألفية الثالثة. وأشار إلى أن بعض هذه العناصر قد بايعوا داعش وكذلك جماعة أبو سياف فى الفلبين. وأضاف هين بقوله «كثيرون ممن اعتقلوا من أعضاء الجماعة الإسلامية موجودون، وسيطلق سراحهم قريبا من السجن، ولديهم بالفعل صلات بخلايا من الجماعة الإسلامية» يقصد بعض أفراد من سنغافورة لديهم صلات بالجماعة الإسلامية فى إندونيسيا وأكد وزير دفاع سنغافورة «لذلك فالخطر هو أن يتشكل ارتباط بين هذه «الجماعات الفضفاضة» لتصبح قوة تهدد أمننا ورفاهيتنا». وقد قامت سنغافورة بتوقيع اتفاق دفاعى مع الولاياتالمتحدة يشمل التشدد العابر للحدود، وبعد يوم واحد من التوقيع قال السيد هين إن تبادل المعلومات الاستخبارية يمثل عاملا مهما فى التعامل مع هذه القضية. إدماج المجتمع فى المواجهة ولعل من أهم الحوارات التى أجريناها فى سنغافورة كانت مع البروفيسور يعقوب ابراهيم وزير الاعلام والاتصالات والوزير المسئول عن شئون المسلمين وكان لافتا أن الرجل يتحدث بأقصى درجات الصراحة عن تهديد الارهاب لبلاده. واستوقفنى أنه لم يحاول أن يهون أو يدارى على هذه القضية الخطيرة، والتى ربما تدفع ببعض المسئولين فى بلدان أخرى إلى الإنكار أو محاولة التقليل من حجم التهديد. ولكن بالعكس قال السيد يعقوب «مثلما تعلمون لقد أجرينا تمارين الأسبوع الماضي، وذلك لمعرفة مدى استعداد الأجهزة الأمنية لمواجهة الأعمال الارهابية». وتوقف الرجل لثوان قبل أن يكمل بتأكيده «نحن نعول كثيرا على ادماج المجتمع فى المواجهة مع الارهاب» وأشار الى أن المشاركة الفعالة من المجتمع مسألة فى غاية الأهمية سواء فى «اليوم السابق» للعملية الارهابية، وأيضا فى «اليوم التالي» للعملية الارهابية، وأكد أن الأمر مهم ألا يشعر المجتمع أو بعض أفراده بالذعر، وأن يتم إعداد الناس لحصار الأضرار، وأهم شيء ألا نفقد «تماسك المجتمع»، وألا تتفجر مشاعر الاسلاموفوبيا وأن يدرك الجميع أن هناك دوما بعض المتطرفين والارهابيين الذين لا يجب تحميل المجتمع أو «الجالية الاسلامية» بأسرها المسئولية عن أفعال هذه القلة القليلة من الأفراد. وبعيدا عن المواجهة الأمنية قال الوزير يعقوب وهو نائب منتخب وأحد القيادات المهمة فى الحزب الحاكم إن الحكومة تحاول إدماج «العلماء الشباب» حتى يتفاعلوا مع الشباب، كما نحاول استغلال «طاقة الشباب» فى الأعمال الخيرية. وبالإضافة إلى ذلك فإننا نمنع الوعاظ الذين نعتبرهم «وعاظا سيئين» ويشمل هذا منع هؤلاء القادمين من الخارج وأشار إلى أن استراتيجية المواجهة تشمل أيضا «إعادة تأهيل المعتقلين». وعند هذه النقطة من الحوار لم أستطع أن أمنع نفسى من سؤال مهم اكتسب أهميته من معرفتى أن الرجل الجالس أمامى هو المسئول عن «الأمن السبراني» أو أمن المعلومات فى بلاده، وكان السؤال البديهى والبسيط ترى هل لدينا الوسائل التكنولوجية لمعرفة من أين تأتى «المواد المحرضة» على الارهاب والتطرف وإزالتها؟!. ولقد سارعت قبل أن يجيب بالقول له «أريد إجابة بنعم أو لا» ثم أكملت بقولى «وعلى حد علمى فإن الولاياتالمتحدة هى من تسيطر على هذه الشبكة العنكبوتية.. أليس كذلك»؟! ولقد اندهشت من صراحة الرجل الذى قال لى بابتسامة عريضة وملامح وجهه تقول أشياء كثيرة مفهومة فى مثل هذه المواقف: نعم الوسائل التكنولوجية موجودة لمعرفة مصدر هذه المواد كما أن الوسائل التكنولوجية موجودة أيضا لإزالتها. وفى اعتراف آخر وبنفس درجة الصراحة قال «نعم 80% من المعلومات وما يتم تداوله يعود إلى الولاياتالمتحدة وتملك القدرة التكنولوجية على معرفة من أين، فضلا عن من وراء ذلك». وهنا كان لابد من سؤال آخر بديهى «إذن أين المشكلة».. وقال السيد يعقوب ابراهيم شارحا ومعيدنا إلى متاهة السياسة، وغابة العلاقات الدولية والمصالح المتعارضة، و«الأجندات الخفية» التى ربما أصبحت الآن واضحة. فلقد تكفل الرئيس الأمريكى المنتخب بعناء الاجابة عندما ألمح بوضوح عن مسئولية إدارة أوباما وهيلارى كلينتون فى نشوء داعش، كما أن وليام اسانج اتهم هيلارى بأنها دعمت الجماعات الارهابية والمتطرفة من أمثال داعش وجبهة النصرة. على أى حال قال المسئول السنغافورى الرفيع إن «غير الموجود» هو «الوسائل القانونية» و«الاعتبارات المحلية». وهنا أشار إلى أن سنغافورة تمكنت من معرفة هوية صاحب أحد المواقع التى تحض على الكراهية والعنف والارهاب، والمفاجأة أن الموقع يعود إلى أحد الدعاة فى إندونيسيا. ويؤكد السيد يعقوب إبراهيم أن الجانب الإندونيسى فوجيء تماما عندما عرف هوية هذا الداعية، وقالوا لنا: كيف وهذا الرجل معتدل وفى محاضراته العلنية يتسم بالاعتدال ويختتم الواقعة بالقول إن الجانب الإندونيسى قال لنا: لا نستطيع التعاون معكم لاعتبارات داخلية وذلك نظرا لأن هذا الرجل له أتباع كثيرون!. ومن الأمور الأخرى التى اشتكى منها هى قلة التعاون الدولى فى مجال حماية الأمن المعلوماتي، وأشار الى ضرورة أن يطبق القانون الدولى على مسألة «الفضاء الاليكتروني» وأوضح أنه يمكن بالفعل وهو ما يحدث عملية اقتحام من الأفراد له إلا أن الأمر غير المقبول والذى لا يجب التسامح معه هو أن تتم عملية الاقتحام والقرصنة من خلال تشجيع أو حماية حكومية. وقال إن الأمر بات محلا للنقاش الدولي، والحوار ما بين الرأى العام. وقال إن مسألة الرقابة الحكومية محل جدل هنا فى سنغافورة فالبعض يرى ضرورة أن تخفف والبعض يرى العكس وأكد فى نهاية الحوار أن حكومته تعمل على حماية البنوك والاتصالات والنقل والمياه وأشار إلى أن أى شيء نقوم به لا يجب أن يهدد «المصالح العليا للبلاد»، وقال لذلك نحن فى حالة حوار دائم مع وسائل الإعلام حتى يفهموا تفكيرنا ونشرح لهم «السياسات» أحيانا قبل أن يتم صياغتها النهائية وإقرارها. وأحسب أن «التسامح الديني» الذى يميز سنغافورة الآن لم يكن شيئا محفورا فى لحظة تأسيس هذه الدولة والتى عرفت «كلاما صعبا» من الاتحاد الماليزى بل شهدت سنغافورة أعمال شغب واحتكاكات عرقية. إلا أن ذلك الماضى الصعب يجعل من «التناغم الحالي» أمرا يجب رعايته والعناية به بشدة. ووفقا للآباء المؤسسين لمنظمة الحوار بين الأديان السنغافورية، والتى تأسست عام 1949، فإن الشيء الوحيد الذى يمكننا عمله كقادة دينيين هو أن ندعو أتباع كل دين للتعرف على تعاليم الديانات الأخرى من أجل خلق «روح الزمالة» فضلا عن أن روح التسامح والتعاطف والرغبة فى إقامة السلام هى من الأمور التى توحد جميع الأديان. وفى زيارة لمقر المنظمة التقينا بعدد كبير من القيادات للأديان المختلفة: البوذية والمسيحية والإسلام والزرداتشية، وشرح لنا هؤلاء جميعا الترابط الانسانى الذى يجمع بينهم. وكان لنا حوار خاص مع الامام حبيب حسان الفائز بجائزة منظمة «الحوار بين الأديان» لعام 2015 فى سنغافورة وأوضح أن القادة الدينيين لهم دور كبير فى تقرير ما إذا كانت سوف تتجاوز التحديات المتعددة وتحافظ على التناغم والتسامح الدينى خلال هذه الفترة. وأشار إلى أن هذه التحديات تتمثل فى تنوع السكان وتزايد أهميته وتأثير وسائل التواصل الاجتماعى وتحديات العولمة. وشرح الرجل الذى يعد أحد القيادات الاسلامية ثانى أكبر عدد من السكان بعد المواطنين من أصول صينية كيف أن رئيس الوزراء يحرص بنفسه فى التواصل مع القيادات الدينية وبالفعل شاهدنا صورا عدة لرئيس الوزراء لى هزين لونج خلال حواره مع أتباع وقيادات الديانات المختلفة. وأوضح الإمام حبيب حسن أن حكومة سنغافورة لعبت «دورا محوريا» فى تعزيز عملية التناغم الدينى من خلال: الاعتراف بأن الدين قوة اجتماعية بناءة، والفصل الصارم للدين عن السياسة تعزيز وتأكيد الحرية الدينية فى دستور البلاد وحماية الحقوق الدينية للأقليات.. ويؤكد أنه بصورة عامة فإن جهدا كبيرا قد بذل من أجل ضمان «التناغم الاجتماعي» فى سنغافورة من خلال نشر «تعدد الثقافات» والأدوات القانونية الصارمة، وإجراءات أخرى من «السياسات المرنة»! ولقد تعددت اللقاءات والحوارات، إلا أن الزائر لسنغافورة سوف يسره كثيرا الجهد الذى يبذله مركز «مجموعة إعادة التأهيل الديني»، وفى خلال وقت قصير من المرور ما بين جنبات المكان والتوقف أمام شرح بسيط وعميق وبأسلوب بسيط ومن خلال وسائل عرض حديثة جوهر الأمور وهي: الجهاد وكيف أن الجهاد الأكبر هو جهاد النفس والولاء والبراء (وكيف أن عداء غير المسلمين هو أمر يناقض تماما التعاليم الإسلامية)، الخليفة (القرآن لا يذكر أى شيء عن الخليفة بصورة محددة فيما يتعلق بالمعنى السياسى، والاعتدال (ضرورة أن يعتدل المرء ويلتزم بالاعتدال)، التعايش (القرآن يشير إلى أن الله خلق الناس من ذكر وأنثى وجعلهم شعوبا وقبائل لكى يتعارفوا، وأن أحسنهم عند الله هو أتقاهم). وفى الواقع أن هذا المركز يقوم بعمل جيد بإصدار منشورات وكتيبات صغيرة ترد على قضايا تؤرق الناس فى اللحظة الراهنة، ولعل الكتيب الصغير عن داعش والخلافة الإسلامية التى تبشر بها هى نموذج ممتاز لفكرة التصدى للأفكار المتطرفة، فقد شرحت من هم أتباع داعش، وكيف حذر منهم الرسول صلى الله عليه وسلم منذ زمن بعيد، وشرح القائمون على إعداد الكتيب ما هى رسالة الاسلام وهل ستقوم داعش بإقامة الخلافة التى سوف تحيى نظام الحكم الإسلامي، وكيف شوهت داعش صورة الاسلام والمسلمين. ويبقى أن العديد ممن التقيت معهم حدثونى عن الأزهر مدرسة الاعتدال، وسعادتهم بزيارة الدكتور على جمعة ومحاضرته التى أسعدتهم، كما حكى لى أحد القائمين على مسجد خديجة فى سنغافورة كيف تبرع رجل أعمال صينى للمسجد «بالشندريلا» أى النجفة الكبيرة فى صحن الجامع وكيف أنهم أحضروها من مصر. كما تناولت الغذاء مع السفير فوق العادة زين العابدين رشيد المبعوث الخاص للشرق الأوسط فى أحد المعالم المهمة التى تعرض تاريخ المسلمين بجوار جامع السلطان فى قلب العاصمة، وفى الحى العربى الذى يزخر بأسماء عربية، لقد شاهدت الرجل وهو حريص على التواصل مع الناس، إلا أنه هو وجميع الأصدقاء الذين التقيتهم كانوا دائما ما ينتهى الحوار بالسؤال عن مصر وأحوالها وأزهرها وناسها وتاريخها، وأحسب أن لدينا تاريخا يجمعنا وقضية نواجهها معا وهى التصدى للإرهاب والتطرف، والعيش معا فى تناغم.