صارت تركيا بلدًا خطيرًا بفضل ممارسات أردوغان وحزبه، وهي خطر علي نفسها قبل أن تكون خطرًا علي أوروبا أو الدول المجاورة أو النظام العربي. سبق تجميد مفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي ضربات كفشل مشروع الإسلام السياسي وانقلاب المشهد الذي كان قبل خمس سنوات لصالح تركيا لتصل اليوم للنقيض فتحول الأصدقاء إلي أعداء، وفقدت مراكز نفوذها في الدول العربية التي فشل فيها حكم الإخوان ويتعرض مشروعها في سوريا لنكبات، كما خسرت بالحرب علي داعش قوة أخري كانت تعتمد عليها في مد نفوذها، وتسوء جماهيريتها في الدول العربية نتيجة تحالفها الإستراتيجي مع إسرائيل، وهذا الفشل المتلاحق علي كل المستويات هو ما يحول تركيا من دولة حضارية عريقة مساهمة في التنمية والاستقرار العالمي لكيان مصدر للثورات ونزعات الانتقام ومشاريع الانتحاريين. أولوية المملكة العربية السعودية إيقاف تمدد إيران والتضييق عليها في مختلف مراكز نفوذها في المنطقة العربية، واستعانت المملكة بجهود تركيا كموازن إقليمي «سنى» وتركيا تدرك جيدًا عدم أهليتها لهذا الدور لأسباب كثيرة منها ما يربط تركيابإيران من علاقات تجارية واقتصادية قوية واعتمادها بشكل شبه كلي علي إمدادات الغاز الإيراني، فضلًا عن الترابط الجغرافي حيث تعتبر إيران المنفذ البري الوحيد لتركيا إلي آسيا الوسطي فهي بوابتها علي القوقاز، بالإضافة إلي ميل أردوغان للتوظيف الأيديولوجي وعدم تفضيل الأتراك للصراعات المذهبية حتي لا تنعكس علي الداخل التركي لحساسية العلاقة بين السنة والعلويين وتعتقد أنه يكفيها الصراع العرقي مع الأكراد، ورغم ذلك رفع أردوغان بعض الشعارات ضد إيران للاستفادة من الدعم الخليجي ولبسط نفوذه هو وفق مشاريعه التوسعية التي لا يقبل التفريط فيها، فما يهدد الوجود والنفوذ العربي وبالتالي نفوذ المملكة العربية السعودية صادر من إيرانوتركيا معًا. مشروعان إقليميان من الصعب الاستعانة بأحدهما لتحجيم الآخر وهما مشروعا تركياوإيران بالمنطقة العربية، فكلاهما يراعي طموحات الآخر وينسقان أدوارهما بحيث لا يصطدم بالآخر ويعوقه فصدامهما هدية مجانية لقوي أخري، ويعتبران حرصهما علي التنسيق أهم عوامل نجاحهما معًا في تحقيق مشاريعهما الإقليمية التوسعية، وتصطدم مساعي تحجيم نفوذ إيران بالتعاون مع تركيا بتمدد تركيا ذاتها وتوسعها إقليميًا وتدخلها في الشأن الداخلي العربي، وإذا لم يكن التحرك موجهًا نحو تقليص النفوذ الإقليمي بصفة عامة وبوقف مشاريع إيرانوتركيا في المنطقة، فستكون المحصلة مجرد ترجيح نفوذ إحداهما علي الأخري علي حساب المصالح العربية. هناك قوي نافست في ظل التحديات التي تواجه الدول العربية علي زعامة العالم السني، وعندما تدور معركة تحرير الموصل ولا يسمح لقوات الحشد الشعبي الشيعية بالدخول في مناطق السنية حال تحريرها، ورغم ذلك تصر تركيا علي إرسال قوات فهذا مزاحمة للدور والنفوذ السعودي وليس صدًا لنفوذ إيراني، وبالنظر لتسلسل الأحداث فقد عولت تركيا علي داعش لمد نفوذ أنقرة في العراق؛ بالسيطرة علي مناطق متصلة بين سورياوالعراق علي الحدود التركية الجنوبية الشرقية. ولم تتحرك تركيا لاتخاذ أي إجراء عندما سيطر داعش علي الموصل منذ يونيو 2014م، وجاء التحرك التركي بعد أكثر من عامين عندما بات تنظيم داعش خارج المعادلة بغرض السيطرة علي معاقله المحررة، وبتأمل خطاب البغدادي مع بدء المعركة نقف علي طبيعة التنافس بين أردوغان والبغدادي علي زعامة المجال السني بغرض التوسع والتمدد، فهو يحرض ضد تركيا بغرض الثأر لانقلابها ضده، ويحرض ضد السعودية لأنها الموازن السني التاريخي مقابل إيران بينما لا يريد أحدًا يلعب هذا الدور سواه. تتناقض مصالح الدول العربية مع مصالح الأطراف الإقليمية علي عدة مستويات؛ فمصلحة تركيا علي سبيل المثال لا تتحقق إلا بتفتيت وتجزئة الدول العربية واستقطاع مناطق جغرافية حيوية منها دعمًا لجغرافيتها ولتعزيز نفوذها الاستراتيجي، وبالانتصار لنموذجها الحضاري ورؤيتها للإسلام مقابل النموذج الإيراني الثوري والسعودي السلفي والمصري التنويري الصوفي، ولذا بدأت تركيا المشروع باكرًا بأدوات ووسائل ثقافية وفنية واقتصادية وسياسية، وعندما لم تنجح لجأت لفرض هيمنتها بالوسائل غير المشروعة وبشن حروب بالوكالة وبتوظيف التنظيمات الإرهابية وانتهاءً بالغزو المباشر بالجيوش التقليدية. أردوغان لن يتخلي عن دعم الإرهابيين وجماعة الإخوان لأنه تعمد إضعاف الجيش التركي للامساك بالقرار السياسي للجيش ولتحويل تركيا لدولة دينية وكان الجيش هو المؤسسة الحامية لعلمانية تركيا، ومن غير المنطقي أن يقدم علي خطوة كهذه بدون سند ليبقي بدون أنياب في مواجهة الأكراد وفي تغطيته علي نشاط الإرهابيين في سوريا، ومشاريع انتهاك سيادة الدول العربية وإلغائها نهائيًا لتحقيق أهدافه الجيوسياسية الإقليمية، بما يتطلبه من امتلاك للقوة والقدرات العسكرية لانجاز تلك الملفات. وقد أظهر مشهد الانقلاب المسرحي مدي حجم الحضور الأصولي الذي التهم الحالة التركية، وقد بلغ عدد الأتراك المنضمين لداعش أكثر من ثلاثة آلاف مقاتل، وتحظي التنظيمات التكفيرية والجهادية بشعبية جارفة داخل حزب العدالة والتنمية، وهناك كثيرون اقتنعوا بتأثير الدعاية الممولة للإخوان أن أردوغان هو الخليفة السني وليس البغدادي الذي فقد السيطرة وانحسرت عنه الأضواء، ويدعون للجهاد وراء الخليفة الجديد ثأرًا للبغدادي والظواهري وبن لادن والإخوان من الحكومات والأنظمة والجيوش العربية. الأهداف داخل تركيا وفي المنطقة العربية إحياء العثمانية الجديدة وإسقاط الأنظمة القائمة واستبدالها بأنظمة يهيمن عليها الإخوان المرتبطة باسطنبول علي طريقة الولايات التابعة للباب العالي واعتبار الشأن المصري والسوري والعراقي والليبي شأنا تركيا داخليا. والأداة ضرب نفوذ المؤسسة العسكرية، ويري أردوغان وجماعة الإخوان أن تنفيذ تلك الخطوة في تركيا كان التحول الحقيقي لإقامة النظام الجديد فالجيش هو حصن ودرع النظام القائم، ويرون أنه لكي يحدث هذا التحول في الدول العربية المستهدفة وعلي رأسها مصر فلا مفر من القيام بنفس الإجراء، ولذلك رصدت أجهزة الاستخبارات الغربية محادثات يدعو فيها قادة داعش للنفير إلي سيناء لمواجهة الجيش المصري. قيادات الإخوان الفكرية ومراجعهم الفقهية في قطروتركيا التي تسمي أردوغان خليفة للمسلمين وتحشد للجهاد خلفه ضد الأنظمة العربية رصدنا لها فتاوي بوجوب التمرد علي الجيش المصري وحرمة الانضمام له مع الحض علي عصيان الأوامر العسكرية والهرب وترك السلاح الذي «يقتل المجاهدين والمدنيين في سيناء» بحسب زعمهم، وهو طرح يتكامل مع محتوي فيلم قناة الجزيرة القطرية الذي تحايل وفبرك مشاهد وقصصًا لتشويه العسكرية والجندية المصرية لتظهر الجنود المصريين كضحايا لواقع مرير، وهما مساران متلازمان لدي الجماعة وحلفائها؛ فلن يتحقق التمكين للسلطنة الجديدة واعتلاء الخليفة للعرش إلا بكسر الجيوش العربية الوطنية. لمزيد من مقالات هشام النجار;