بعد عدة أشهر من الاستقرار الهش على الاتفاق التاريخى بين أنقرة والاتحاد الأوروبى بوقف تدفق اللاجئين إلى الشواطئ الأوروبية عبر الحدود التركية ، عاد شبح الأزمة ليطل بوجهه مرة أخرى فى بروكسل بعد أن خلع الرئيس التركى رجب طيب أردوغان أى قناع دبلوماسى ووضع سكين اللاجئين على رقبة القارة العجوز قائلا : اسمعونى جيدا، ما لم تتوقفوا عن التهديد بتجميد مفاوضات انضمامنا إلى الاتحاد الأوروبى فإننا سنفتح حدودنا باتجاهكم ! ورغم أن الاتحاد لم تصدر عنه أى قرارات فعلية بشأن وقف أو تجميد محادثات انضمام تركيا إليه و كل ما حدث هو مجرد توصية غير ملزمة من البرلمان الأوروبى بعدم المضى قدما فى تلك المحادثات ردا على الانتهاكات التركية الأخيرة للقانون والدستور، فإن الرئيس التركى أراد أن يذكر القادة الأوروبيين بأن بلاده قادرة على إعادة كوابيس تدفق اللاجئين إلى أراضيها والتى نتج عنها أسوأ أزمة إنسانية تواجهها القارة العجوز منذ الحرب العالمية الثانية والتى جعلت انهيار الاتحاد الأوربى نفسه احتمالا واردا . ويجمع المراقبون لكواليس الاتحاد الأوروبى هنا فى بروكسل على أن قيادات الاتحاد لا تملك الكثير من أوراق الضغط فى مواجهة التهديدات التركية و لا يمكنها المجازفة بعودة كابوس تدفق الملايين إلى أراضيها مجددا و فى الغالب سوف تتعامل بشكل براجماتى و ربما انتهازى مع هذا الملف، بمعنى تغليب لغة المصالح مع الحليف التركى المشاكس . ولكن الأمر ليس بهذا التبسيط، فعلى الجانب الآخر لم تعد أوروبا قادرة على إخفاء انزعاجها من انتهاكات تركيا الصارخة لمواثيق حقوق الإنسان و الانتقام من المعارضة بحجة «تطهير» الدولة من المتعاطفين مع المحاولة الانقلابية الفاشلة التى شهدتها البلاد. ف«فيديريكاموجرينى» ، الممثلة العليا للسياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبى، أكدت بأكثر من مناسبة هنا فى بروكسل انه لا يمكن القبول بأن تتخذ الحكومة التركية من حدث ما مبررا للإطاحة بدولة الدستور و القانون والتضييق على الحريات الأساسية وحول تلميح اردوغان بعودة العمل بعقوبة الإعدام، اعتادت موجرينى أن تقول بلهجة حاسمة : لا توجد دولة تطبق هذه العقوبة وتكون عضوا بالاتحاد الأوروبى . تلميحات بروكسل - العاصمة السياسية للاتحاد الأوروبى - إذن بعقاب النظام التركى ردا على إجراءاته التى وُصفت بالقمعية بحق المعارضة لم تكن وليدة اليوم، بل كانت فى تصاعد مستمر . بدا ذلك جليا حين دخل جان كلود يونكر رئيس المفوضية الأوروبية - الذراع التنفيذية للاتحاد الأوروبى - على خط الأزمة مؤكدا أن أنقرة غير مؤهلة للانضمام إلى الإتحاد الأوروبى فى ظل الإجراءات الأخيرة التى اتخذتها السلطات بعد محاولة الانقلاب . و كان يونكر حاسما هو الآخر فى انه حال إعادة نظام الرئيس التركى رجب طيب أردوغان العمل بعقوبة الإعدام فإن المفاوضات بين تركيا والاتحاد الأوروبى بشأن انضمام الأخيرة إليه سوف تتوقف على الفور . الأزمة الحالية بين بروكسل و أنقرة لم تكن الأولى وغالبا لن تكون الأخيرة، غير أن الملاحظ هذه المرة هو خسارة أردوغان لجهود المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التى اعتادت أن تلعب دور «حمامة السلام» بين الجانبين كلما توترت الأجواء . خسارة الحليف الألمانى جاءت على خلفية قرار البرلمان الألمانى بالتصديق على قانون باعتبار مقتل مليون و نصف ارمنى على يد القوات العثمانية عام 1915 «إبادة جماعية» و هو احد تجليات قرار مرجعى و مؤسسى اتخذه البرلمان الأوربى نفسه - الذراع التشريعية و الرقابية للاتحاد الأوربى - العام الماضى باعتبار يوم 15 من ابريل كل عام «يوم ذكرى إبادة الأرمن». البرلمان الأوروبى دعا البرلمانات الوطنية للدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبى، ومنها البرلمان الألمانى بالطبع، إلى اتخاذ قرارات قوية بإدانة إبادة الأرمن، كما دعا أنقرة إلى الاعتراف بالمذبحة العثمانية كخطوة أولى على طريق المصالحة التاريخية بين الشعبين التركى و الارمنى . ولا يخفى على المتابع ان المستشارة الألمانية انجيلا ميركل كانت أهم الشركاء الأوروبيين الداعمين لتسوية صفقة بين أنقرةوبروكسل فى ملف أزمة اللاجئين يحصل بمقتضاها اردوغان على مكاسب غير مسبوقة أبرزها دخول مواطنيه دون تأشيرة لبلدان الاتحاد فى مقابل منع الهجرة نهائيا من الشواطئ التركية إلى أوروبا . السؤال الآن: كيف تحولت الحدود التركية إلى ورقة ابتزاز بيد أنقرة فى المفاوضات مع الاتحاد الأوروبى ؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال يجب التذكير بأن أعداد النازحين من سوريا باتجاه أوروبا عبر الأراضى التركية كانت قد وصلت فيما قبل إلى معدلات مليونية استثنائية جعلت القارة العجوز تستقبل أكثر من ستة آلاف لاجئ فى اليوم الواحد ! و كانت التقارير الأمنية التى يتم استعراضها فى اجتماعات المفوضية الأوروبية لمناقشة أزمة تدفق اللاجئين تشير بوضوح إلى تعمد السلطات التركية تسهيل دخول اللاجئين السوريين إلى البلاد حيث لا تشترط وجود «فيزا» بحوزتهم كما تغض الطرف عن تحول مدن مثل أزمير وبودروم وأسوس إلى مراكز رئيسية للهجرة عبر البحر إلى اليونان من خلال عصابات تهريب تتخذ من الفنادق والمقاهى التى تنتشر على الشاطئ مقرا علنيا لنشاطها المجرم دوليا والذى يندرج تحت إطار «الاتجار بالبشر» وترسلهم ليلاقوا حتفهم فى قوارب تهريب إلى جزر يونانية لا تبعد سوى نصف ساعة . شهادات اللاجئين أنفسهم الذين تمكنوا من الوصول إلى بلجيكا تكشف عن تواطؤ السلطات التركية فى تسهيل مهام إغراق أوروبا بطوفان الهجرة غير الشرعية . من سوريا و العراق يدخل هؤلاء الأراضى التركية بمنتهى السهولة دون أن يطلب منهم أحد أية أوراق، و ما إن تطأ أقدامهم أزمير حتى يجدوا انفسهم وجها لوجه أمام تجارة تهريب تجرى على قدم وساق . الشيء المريب الذى استوقف البعض هو أن السلطات التركية أغلقت تماما الطرق البرية التى تربط بينها و بين اليونان و بلغاريا وأخضعتها لإجراءات أمنية مشددة بينما تركت الطريق البحرى - شديد الخطورة - المؤدى إلى اليونان مفتوحا أمام سماسرة تهريب اللاجئين على مصراعيه ، و لم تفعل شيئا و هى ترى مئات الزوارق المطاطية الخفيفة تنطلق يوميا باتجاه الجزر اليونانية و الواحد منها يحمل خمسين لاجئا بينما حده الأقصى لا يتجاوز من عشرة إلى خمسة عشر راكبا ! و بحسب الشهادات التى استمتعت إليها الأهرام على لسان أصحابها من اللاجئين ، تغض السلطات التركية الطرف كذلك عن ازدهار سوق تزوير جوازات السفر السورية «علنا» حيث يلجأ كثير من الأفغان و مواطنى شمال إفريقيا إلى انتحال صفة سوريين ليصبح لهم الأولوية عند الدخول إلى الأراضى الأوروبية نظرا لفداحة الأزمة الإنسانية بسوريا . وتفسر هذه الملاحظة ما أعلنت عنه السلطات الألمانية من أن ثلث من دخلوا أراضيها يحملون جوازات سورية مزورة و تأكيد وكالة «فرونتكس» المعنية بحماية حدود الاتحاد الأوروبى على انتعاش مكاتب تزوير جوازات السفر السورية بدول الجوار السورى لاسيما تركيا . مصادر دبلوماسية مطلعة فى بروكسل أكدت ل «اأهرام» أن عودة أردوغان إلى التهديد بخلق أزمة إنسانية على أبواب أوروبا من خلال تسهيل رحلات زوارق الموت ليس مستغربا، فهو من ناحية يريد ممارسة أكبر من الضغوط على قادة الاتحاد الأوروبى من خلال تصدير الكارثة إلى عقر دارهم فتجد عواصم أوروبا نفسها مضطرة إلى قبول المبررات التركية حول العصف بالمعارضة السياسية و تحول البلاد إلى أكبر سجن للصحفيين فى العالم و بالتالى المضى قدما فى مفاوضات انضمام أنقرة إلى الإتحاد الأوروبى. ومن ناحية أخرى تريد تركيا أن تثبت للغرب أنها الحليف القوى الذى لا يمكن الاستغناء عنه عند مواجهة الأزمات الكبرى بالشرق الأوسط، وعن رغبتها فى الفوز بأكبر قدر من كعكة مليارات اليوروهات التى بدأت فضلا تخرج من خزائن الغرب لمساعدة دول الجوار السورى على ضبط حركة اللاجئين، وهو ما تجلى واضحا فى إعلان الإتحاد الأوروبى تقديم حزمة مساعدات تجاوز ثلاثة مليارات يورو بالفعل إلى الأتراك . ومما يزيد من محدودية الخيارات الأوروبية فى مواجهة الابتزاز التركى ويؤكد التوقعات بشأن لجوء قادة الاتحاد الأوروبى إلى نهج سياسة واقعية تقوم على «احتواء» تركيا وليس «الصدام « معها هو معرفة هؤلاء القادة أن بقاء الاتحاد الأوروبى نفسه سوف يصبح على المحك حال عودة أزمة اللاجئين بمعدلاتها المليونية السابقة خاصة بعد الخروج البريطانى . إن عدة أسباب تجعل هذا الطرح واقعيا للغاية منها الانقسام الحاد بين الدول الأعضاء فى كيفية مواجهة أزمة تدفق اللاجئين وتبادل الاتهامات بعنف والتهديد بالعقوبات الاقتصادية ضد هذه الدول او تلك، لكن الأخطر و الأهم تجميد العمل باتفاقية شنجن و لو مؤقتا من جانب بعض الدول الأعضاء بالاتحاد، هنا يصبح حلم الوحدة الأوروبية ذاته مهددا بضربة قاتلة و فى الصميم ، فالاتفاقية تعد القلب النابض للإتحاد الأوروبى و الانجاز الأكبر على مدار ثلاثين عاما فى تاريخ القارة . تم توقيع « شنجن « قبل واحد و ثلاثين عاما بهدف حرية التنقل بين مواطنى أوروبا دون الحاجة إلى تأشيرة سفر لكن حجم الانجاز لا يقتصر على ذلك فقد فتحت الاتفاقية الباب على مصراعيه أمام حرية التجارة و تنقل رءوس الأموال كما كانت الدعامة القوية للسوق الأوربية المشتركة . وبالتالى فإن إلغاء أو تجميد الاتفاقية لمواجهة أزمة النازحين التى سبق أن سرقت النوم من أعين الساسة هنا فى بروكسل تعنى ببساطة بداية النهاية لهذا الحلم الكبير بالوحدة و الإتحاد . و تجدر الإشارة هنا إلى أن العديد من الدول مثل هولندا و السويد و الدانمارك و ألمانيا سبق لها أن بدأت بالفعل فى إجراءات الوقف المؤقت لشنجن من خلال تفعيل آليات مراقبة حدودها الخارجية ونشر نقاط تفتيش متقدمة.و مع توالى اجتماعات قادة الاتحاد الأوروبى سواء على مستوى رؤساء الدول و رؤساء الوزراء أو على مستوى وزراء الداخلية لبحث تبعات الأزمة الأمنية والاقتصادية الناجمة عن تدفق اللاجئين، بدا أنه لا مناص من استعادة دول الاتحاد الست والعشرين حقها فى فرض رقابة على حدودها الخارجية مع دول الجوار فى خطة تهدف لكبح جماح تدفق المهاجرين مما يعنى عمليا الغاء أو على الاقل تجميد العمل باتفاقية شنجن . و يعنى هذا ببساطة أن تصبح العملة الموحدة لأوروبا «اليورو» بلا قيمة على أرض الواقع ، كما ستتضاعف معدلات البطالة و ستدخل اوروبا فى شتاء طويل من الكساد الاقتصادى . وتشير دراسات رسمية صادرة عن مراكز بحوث اوروبية معتبرة الى أن الكلفة الاقتصادية لتجميد شنجن سوف تكون باهظة الثمن، فعلى المدى القريب سوف تخسر بلدان الاتحاد الأوروبى مئة وعشرة مليارات يورو، أى ما يوزاى مائة وعشرين مليار دولار، كما ستشهد التجارة البينية بين الدول الأعضاء انخفاضا حادا بنسبة تصل الى عشرين بالمئة ، وستتضاعف هذ النسب و الارقام حال تمديد العمل بالوقف المحتمل للاتفاقية .