على طريق جنوب أفريقيا والمغرب فى العدالة الانتقالية من طلب الحقيقة والمصارحة والمصالحة أو المحاكمة، بدأت تونس نهاية الأسبوع الماضى جلسات استماع علنية لضحايا الاستبداد والقمع فيما يطلق عليه تونسيون «سنوات الجمر»، وهى حقبة تشمل عهدى الرئيسين السابقين بورقيبة وبن على . وتقوم القناة الرئيسية فى تليفزيون الدولة مع ساعات ذروة المشاهدة بعد نشرة الأخبار الرئيسية (الساعة الثامنة مساء) بنقل الجلسات كاملة على الهواء مباشرة. وهذا النقل الحى لشهادات نساء ورجال يتهمون السلطات والمسئولين بانتهاك حقوقهم وحقوق ذويهم بين قتل خارج القانون والمحاكمة العادلة وتعذيب واغتصاب واختفاء قسرى وطرد من العمل وتضييق فى الرزق والدفع الى الهجرة حملت معها الى الجمهور شحنات من المشاعر والعواطف . ولا تخلو قاعات الصحفيين المتابعين للجلسات فى مقر انعقادها بضاحية سيدى بوسعيد شمالى العاصمة وكذا العديد من المقاهى التى اختارت تشغيل القناة الوطنية الأولى ممن تغالبهم الدموع . ناهيك عن قاعة الاستماع نفسها فى مقر «نادى عليسة».وهو مكان يبدو أن اختياره لم يكن أيضا اعتباطا حيث انه ارتبط فى الذهنية الشعبية هنا بانشطة وحفلات زوجة الرئيس المخلوع السابق «ليلى الطرابلسى» وبحياة مخملية دارت حول العائلة الرئاسية وحاشيتها . وباستثاء الدموع التى تلمحها فى العيون بين الحين والآخر هنا وهناك، ثمة فى «نادى عليسة» وبدءا من أسواره وبواباته المحروسة باجراءات امنية مشددة على الوجوه ومسحة من الرهبة .وأيضا صمت وإنصات يتبديان على ملامح الجميع، بما فى ذلك مراقبون وصحفيون أجانب جاء معظمهم من الضفة الأخرى للمتوسط حيث القارة الأوروبية . واللافت هو هذا الحضور القوى للمرأة التونسية فى هذه المرحلة من مسار العدالة الانتقالية . فالعديد من النساء يدلين بشهاداتهن العلنية سواء كن أمهات أو زوجات شهداء ومعتقلين ، ناهيك عن رئاسة الحقوقية سهام بن سدرين لهيئة الحقيقة والكرامة التى كلفها الدستور الجديد بملف العدالة الانتقالية . ويلفت النظر أيضا هذا الحرص مع اطلاق جلسات الشهادات العلنية على التنوع فى هويات الضحايا السياسية و فترات حدوث الانتهاكات . علما بأن القانون توسع فى الفترة الزمنية لعمل هيئة الحقيقة والكرامة كى يبدأ من عام 1955 أى مع تأسيس دولة الاستقلال والى عام 2013 .أى بعد الثورة بعامين وكى يغطى انتهاكات جرت فى عهد الحكومات الانتقالية ، بما فى ذلك حكومة الترويكا برئاسة حزب النهضة الإسلامي. ماوصف بأنه «حدث تاريخى» يتوج جهد عامين للهيئة غطى على اللغط الذى يحيط بغياب الرئاسات الثلاث «الجمهورية والبرلمان والحكومة» عن انطلاق الجلسات العلنية . وهو غياب يخضع لتفسيرات متعددة أبرزها كون أن الشكاوى والملفات المقدمة والشهادات السرية لاتستثنى فى اتهاماتها وتحمليها المسئولية رجالا فى مواقع السلطة الآن أو القول بأن رئيسة الهيئة دخلت فى خصومات علنية وتراشق إعلامى وصراع مفتوح مع الرئيس السبسى وقيادات حزبه «نداء تونس». بل كانت وظلت محل اتهام بموالاتها النهضة رغم ماضيها اليسارى الحقوقى.ولاشك أن «الدساترة» «رجال عهد بورقيبة» و«التجمعيين» «رجال عهد بن على» قد تغيبوا تماما عن اطلاق جلسات الشهادات العلنية ، فيما حضر بكثافة فى القاعة وصفوفها الأولى رموز الأحزاب السياسية من اليمين الى اليسار. وهذا باستثناء حضور وزير خارجية عهد بن على «كمال مرجان» الجلسة الأولى «الخميس الماضى» وجلوسه الى جانب راشد الغنوشى رئيس النهضة ، وهذا الأمر قرأه مراقبون كرسالة على المصالحة والتسامح،وإن كان من المعلوم ان مرجان يرأس حزب «المبادرة» وله أربعة نواب فى البرلمان الحالى وشريك فى حكومة «الوحدة الوطنية». الاحصاءات التى اتاحتها هيئة الحقيقة والكرامة تفيد أنها نظمت 12 ألف جلسة استماع سرية وتلقت نحو 62 ألف شكوى وملفا قبل اطلاق الشهادات العلنية .وانتهت الهيئة الى قبول نحو 50 ألفا .وخلصت الى أن حملت الدولة مباشرة مسئولية 36 ألف انتهاك واشخاص تصرفوا باسم الدولة أو تحت حمايتها أكثر من ستة آلاف آخرين . كما انتهت الى توثيق 603 حالات قتل و61 حالة اعدام دون محاكمات عادلة و355 حالة اغتصاب وعنف جنسى و أكثر من عشرة آلاف حالة تعذيب و194 اختفاء قسرى وأكثر من 13 ألف اعتقال ، ناهيك عن أكثر من 15 ألف حالة انتهاك للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بما فى ذلك الاعتداء على حق العمل والارتزاق والدفع الى الهجرة خارج البلاد. ومن تابع جلسات الشهادات العلنية الأولى يمكنه أن يلاحظ قوة حضور الوقائع السوداء فى ذاكرة الضحايا رغم مرور السنوات . ولكن فى الوقت نفسه هناك ندرة فى التصريح باسماء منتهكى الحقوق .ويقول أحد الشهود ل «الأهرام» ملتزما بعدم التصريح باسمه انه مضى شهر كامل بعد الإدلاء بالشهادة العلنية أن اسماء الجلادين جرى توثيقها فى الشهادات السرية وعمل عليها قضاة تحقيق للتثبت منها ومن الوقائع وقال ان شهادته هو ذاتها اخضعتها الهيئة الى تحقيق استعانت فيه للتثبت من الوقائع بنحو 150 شاهدا.وأشار الى ان هيئة الحقيقة والكرامة تتوافر على كفاءات من مؤرخين وعلماء واطباء نفسيين و قانونيين ومحققين .وفسر المصدر امتناعه عن التصريح باسماء جلاديه بأنه «خيار انسانى» كى لايحرج عائلاتهم وذويهم ويجعل هذه العائلات تدفع ثمن جرائم لم تشارك فيها .وأضاف ان هناك جلادين اعتذروا فى الجلسات السرية .لكن المسار طويل بعد حتى نصل الى الاعتذارات العلنية . ويذكر أنه من المتوقع أن يستمر الاستماع الى الشهادات العلنية عاما كاملا . لكن هذه الجلسات العلنية التى وصفت بأنها تاريخية ولم يعرفها البلد من قبل تكشف عن انقسام ما فى المجتمع مع اقتراب مرور ست سنوات على الثورة حول الماضى وحضوره فى راهن تونس ومستقبلها .ويكفى أن صحيفة «الصباح» صدرت السبت الماضى بعناوين فى صيغة استفهام :ب هل نحن قادرون على تضميد جراح الماضى؟«وهل الجلسات توظيف سياسى أم خطوة نحو المصارحة ثم المصالحة ؟». ولا يخلو حديث مراقبين فى تونس العاصمة من اتهام الشهادات بالمبالغة أو التحذير من تهديد هذه الشهادات العلنية للمصالحة الوطنية بين التونسيين وافتقادها الى اعداد الضحايا على نحو كاف من أجل التصالح والغفران .ناهيك عن اعتبار رئيسة هيئة الحقيقة والمصالحة غير محايدة لأنها كانت هى ذاتها من ضحايا عهد بن علي. وفى هذا السياق ليس من الواضح بعد ماذا سيكون عليه الحال مع طرح قضايا تاريخية من شأنها اثارة حساسيات جغرافية ومناطقية كامنة مثل ملف بورقيبة واليوسفيين والقوميين وبخاصة من أهل الجنوب فى ستينيات القرن الماضى ؟. لكن بالمقابل هناك تيار قوى داخل المجتمع يرى أن فتح جراح الماضى وتطبيبها خير وسيلة لوحدة وطنية ناضجة . وفى هذا السياق خرجت صحيفة «المغرب» أكثر الصحف رصانة بعنوان هو : «الكرامة قبل الخبز». وجاء تحته فى مقال افتتاحى لرئيس التحرير زياد كريشان: من الخطأ والخطر اعتبار ان كشف الصفحات المؤلمة والمظلمة فى ماضينا هو ضرب لوحدتنا الوطنية الحالية لأنه يعنى بكل بساطة أن البعض فينا مازال يعتبر مواصلة نفس سياسة الاهانة والاذلال ونفى انسانية الانسان. والى جانب هذين الاتجاهين يقول لنا الشاب رمزى الأجنف «36 سنة» وهو صاحب متجر للخردوات بوسط العاصمة :الشعب التونسى فى معظمه يعرف جيدا ما الذى كان يحدث .. وما عرضته الجلسات الأولى ليس سوى 10 فى المائة مما كان .. لكن السؤال الأهم فى الشارع الآن هو: ماذا بعد؟ .. هل ستأتى العدالة أم أن هناك اتفاقات خلف الستار بين الزعماء السياسين. إلا أن هناك من يرى فى هذه الجلسات العلنية خطوة أخرى تتوج عرقلة مشروع قانون المصالحة الاقتصادية مع رجال أعمال بن على وسد الطريق على تمريره فى البرلمان.