بخلاف جميع التوقعات واستطلاعات الرأي والصخب الذي صاحب حملته الانتخابية, فاز المرشح الجمهوري دونالد ترامب فوزا مريحا علي منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون صاحبة الخبرة السياسية, ليصبح الرئيس ال45 للولايات المتحدة مُحدثا دهشة أو صدمة لكل من تابع هذا السباق, إذ لم يؤخذ بجدية في البداية من الدوائر السياسية والإعلامية, واشتُهر بعفويته وتصريحاته النارية غير المحسوبة التي دفعت العديد من الشخصيات الجمهورية من داخل حزبه وفي مقدمتها رئيس مجلس النواب للتبرؤ منها, بل ودفعته هو ذاته لحذف البعض منها من علي موقعه الإلكتروني, واتُهم بعدم النزاهة الأخلاقية ومعاداته للنساء والأقليات رغم أن تركيبة المجتمع الأمريكي تقوم في الأساس علي التنوع والتعددية العرقية والثقافية كونه تشكل من المهاجرين, ورغم كل ذلك نجح. والسؤال الذي مازال يردده الكثيرون لماذا؟ جاء ترامب بخطاب جريء للتغيير متمردا علي كل المؤسسات السياسية والحزبية ودوائر صناعة القرار, واختار «السوشيال ميديا» بديلا عن القنوات التقليدية ليتوجه بها مباشرة للناخب الأمريكي دون وسيط, وبشعار وطني بسيط عن «عظمة الأمة الأمريكية» فكان جواز مرروه إلي قطاع لايُستهان به من المواطنين العاديين الذين لا تستهويهم السياسة بتعقيداتها المعروفة, ولكن الأهم من ذلك هو توجهه لتلك الشريحة من السكان البيض الأنجلوساكسون من الطبقة المتوسطة والعاملة وليس فقط الأثرياء, الذين مازالوا يشعرون بأنهم أصحاب البلاد الأصليين الذين جار المهاجرون علي فرصهم في الوظائف والرعاية الاجتماعية, ومن هذه النقطة كان مدخله للتركيز علي القضية المحورية التي تحظي باهتمام عموم الشعب علي مستوي السياسة الخارجية منذ أحداث 11 سبتمبر, وهي مواجهة الإرهاب الآتي مع الأجانب والمهاجرين واللاجئين من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا, فضلا عن انتقاده اللاذع لفشل الإدارة الديمقراطية في القضاء علي «داعش». هذا الخطاب, وفي كلمة واحدة, هو انعكاس لتيار اليمين الذي ينتمي إليه والمتجاوز للاتجاه المحافظ المعروف به حزبه الجمهوري, وهو نفس التيار الذي لاقي صعودا ملحوظا خلال الأعوام الماضية في أوروبا كرد فعل علي العمليات الإرهابية المكثفة ضد المدنيين في معظم عواصمها (وهو ما تكرر في بعض الولاياتالأمريكية) بحيث لم يعد هو ذلك التيار السياسي الهامشي أو المعزول كما كان في السابق, وإنما اكتسب أرضية ونفوذا في أوساط الرأي العام الغربي حتي من بين غير المنتمين أيديولوجيا أو حزبيا إليه, فحصد الأغلبية البرلمانية في النمسا وازداد حضوره السياسي في الدول الاسكندينافية (السويد والنرويج والدنمارك) وفي هولندا وألمانيا, وحقق فوزا في الانتخابات المحلية الفرنسية (6.7% بعدما كان أقل من 1%) وسجل رقما لا يمكن تجاهله داخل البرلمان الأوروبي (165 مقعدا من أصل 751) والأهم أن تأثير أفكاره بات أوسع بكثير من تلك النجاحات المباشرة, ففرنسا مثلا وفي ظل رئاسة أولاند ذي التوجه الاشتراكي- كانت السباقة لفرض قيود علي المهاجرين ووضع ضوابط علي تأشيرة الدخول الموحدة للأراضي الأوروبية «الشينجن», وبريطانيا, التي فاجأت الجميع بنتيجة الاستفتاء الشعبي لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي, عللته بالرغبة في حماية حدودها أيضا من اللاجئين والمهاجرين وأغلبهم من المسلمين خوفا من التطرف والعنف المسلح ، وكذلك كان حال المستشارة الألمانية ميركل التي لاقت قراراتها باستضافة العدد الأكبر منهم انتقادات شعبية وسياسية واسعة, وأخيرا تم إقرار قانون «جاستا» أو (العدالة في مواجهة رعاة الإرهاب) بأغلبية كاسحة من الديمقراطيين والجمهوريين علي السواء في أمريكا, ولا شك أن وصول ترامب إلي سدة الرئاسة في الدولة العظمي سيعطي قوة وزخما لهذا التيار تحديدا. ولذلك فالمواجهة مع جماعات الإسلام السياسي علي اختلاف مسمياتها ستكون هي العنصر الحاكم والجديد في سياسته وليس مجمل مواقفه من القضايا الدولية أو تلك المتعلقة بالشرق الأوسط, وهو ما سينسحب علي الموقف الأمريكي من جماعة الإخوان المسلمين, التي كانت سببا مباشرا لتوتر العلاقة مع مصر بعد ثورة 30 يونيو وممارسة ضغوط عسكرية (بتعليق جانب من المساعدات) أو سياسية ودبلوماسية عليها لإعادة إدماج الجماعة في الحياة السياسية, بل إنه أعلن صراحة أن «أجندة» نشر الديمقراطية والدفاع عن الحريات وحقوق الانسان في الدول الأخري يجب أن تُرفع من السياسة الأمريكية الخارجية, حتي إنه امتنع عن التعليق عن الإجراءت القمعية التي اتخذها أردوغان في تركيا باعتبارها شأنا داخليا لا يخص بلاده. باستثناء هذه الجزئية, والتي تعد فارقة بينه وبين من سبقوه, فإن كثيرا مما قاله أثناء حملته الانتخابية لم يخرج في الواقع عما سبق وتضمنه حديث الرئيس المنتهيه ولايته, الذي نُشر في مجلة «ذي أتلانتيك» أواخر فترة رئاسته, تحت عنوان «مذهب أوباما» وكأن ترامب جاء ليضعه محل التنفيذ أواستكمال ما جاء فيه، سواء في انتقاد أوباما حلفاءه وشركاءه الدوليين أو الإقليميين, الذين وصفهم براغبي الركوب المجاني للقطار الأمريكي، وهو ما دفع رئيس وزراء بريطانيا السابق ديفيد كاميرون للإعلان عن زيادة ميزانية دفاع دولته 2% في حلف الناتو, أو في مطالبته للسعودية بتحمل نفقات أعلي في الحرب علي الارهاب (وهو نفس ما يردده ترامب وبصورة أكثر حدة) و قبولها باقتسام النفوذ مع إيران في المنطقة, ورغم أنه شن هجوما علي الاتفاق النووي مع الأخيرة، إلا أنه قصره علي تشديد الرقابة علي أنشطتها في هذا المجال، وليس علي طموحاتها الإقليمية, إضافة إلي أنه وعد بتكثيف التعاون مع روسيا أي الحليف الدولي لطهران, وهذا بدوره أمر قائم بالفعل وجزء من الإستراتيجية الأمريكية الحالية. بعبارة أخري لم يبد الرئيس الجديد رغبة في حسم الصراعات الإقليمية بطابعها الطائفي والمذهبي وملفاتها المفتوحة في سوريا والعراق واليمن وليبيا انتصارا لطرف أو معسكر علي الآخر. وبالتالي ستظل الحروب المباشرة وبالوكالة مستمرة لحين استنزاف قوة أطرافها وقبولهم بتسويات سياسية. لمزيد من مقالات د . هالة مصطفى;