لم يكن ينقصنا فى هذا العالم شديد الاضطراب سوى ترامب الذى أوجد فوزه دوامات من القضايا لابد من تحديد موقعنا منها، والقضية الأولى تخص أمثالى من المتخصصين فى علم السياسة فقد أجهز فوز ترامب على البقية الباقية من صدقية استطلاعات الرأى العام التى تكرر فشلها اللافت فى سوابق عديدة تكررت بوتيرة سريعة أخيرا كما فى التنبؤ بهزيمة نيتانياهو فى الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة وبقاء بريطانيا فى الاتحاد الأوربى وأخيراً هزيمة ترامب ، وصحيح أن جزءاً من تفسير هذا الفشل المتكرر يمكن أن يُعزى إلى تأثير إعلان نتائجها على السلوك اللاحق للناخبين لكن إمعان النظر أفضى إلى فضح القصور المنهجى فى إجرائها وهو ما يعنى ضرورة إفساح الطريق لمنهجية جديدة قد لا تكون كمية بالضرورة تتجاوز الأرقام والنسب إلى التحليل المتعمق للاتجاهات ، ومن ناحية ثانية كرر فوز ترامب الإساءة للديمقراطية كمثالية سياسية بمعنى أن هذا الفوز أشار إلى أن الديمقراطية قد لا تأتى بالضرورة بأفضل البدائل كما كان الحال فى نتيجة الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربى ، وتذكرنا المظاهرات المناهضة لترامب بعد إعلان فوزه بالمظاهرات المتمسكة بالبقاء فى الاتحاد بعد اختيار الخروج ، ولا يعنى هذا بحال المساس بالمثالية الديمقراطية وإنما ضرورة البحث فى مواطن الخلل فيها ، ويأتى فشل النخبة التى أجمعت على حتمية هزيمة ترامب كملاحظة ثالثة واجبة ، ومن الطريف أن تظهر بعد فوز ترامب كتابات تدعى الحكمة بأثر رجعى وتقول إن الأمر لا ينطوى على أى مفاجأة فقد استنفرت نتائج العولمة وتيارات الهجرة ورئاسة أوباما قطاعات من البيض والعمال المهمشين وأولئك الذين فقدوا وظائفهم ومعها ثقتهم فى مؤسسة الحكم الأمريكية لجمودها وفسادها واستطاع الخطاب السياسى لترامب أن يستقطب كل هؤلاء فحقق الفوز ، ولا بأس فى هذا كله ولكن المشكلة أنه ظهر بعد أن وقعت الواقعة وليس قبلها مما يشير إلى قصور ما إما فى منهجية التحليل أو أدواته أو إلى تحيز القائمين به وكلها مشكلات على المشتغلين بعلم السياسة التصدى لحلها . ويتعلق باقى القضايا بأمور بالغة الأهمية تخص الولاياتالمتحدة والعالم برمته ، ولقد تفتح وعينا مثلاً على فكرة ا الحلم الأمريكى ا حيث الولاياتالمتحدة بلد الفرصة المتاحة للجميع وبوتقة الصهر للأعراق والأجناس كافةً بدليل هجرة الملايين من شتى بقاع العالم إليها فإذا بنتيجة الانتخابات تخبرنا بأن قطاعاً واسعاً من البيض قد صوت لترامب لعدم رضاه عن الهجرة والمهاجرين بل وعن تولى رئيس أسود لثمانى سنوات، كما كان التحالف الأمريكى مع أوروبا الغربية إبان الحرب الباردة ومع الاتحاد الأوربى الواسع بعد نهايتها من بديهيات العلاقات الدولية فإذا بالجدل بعد فوز ترامب وعلى ضوء أفكاره عن التحالفات الدولية للولايات المتحدة يشتعل حول مستقبل حلف الأطلنطى وضرورة التفكير الجدى فى أن يكون للاتحاد ذراعه الدفاعية الذى تجمد مشروعه منذ عقود طويلة اكتفاءً بحلف الأطلنطى، كما أصابنا صداع مزمن من الحديث عن العولمة وطغيانها الشامل على الجميع فإذا بالمرشح الذى أسس حملته على بناء الجدران وتقييد التجارة الدولية مجدداً يفوز ويُقال فى تفسير ذلك أن فرص العمل المتاحة للأمريكيين قد تقلصت بفعل العولمة . توفيما يتعلق بنا فإن القائمة طويلة بداية بموقف ترامب المقارب لموقفنا تجاه ما يُسمى بالإسلام السياسى والتغير المحتمل من ثم فى الموقف الأمريكى من دور حركاته التى يصفونها بالاعتدال فى معادلة المستقبل فى المنطقة وكذلك فى السياسة الأمريكية تجاه الصراع السورى الذى لم يدع ترامب مجالاً لشك إبان حملته وبعد فوزه فى أن القضاء على الإرهاب وليس إسقاط الأسد هو أولويته مما يفتح المجال لتسوية هذا الصراع خاصة على ضوء الموقف الإيجابى لترامب من الرئيس الروسى ثم يأتى موقفه من إيران والاتفاق النووى معها والذى يُفترض أن يكون مواتياً لمخاوفنا من مشروع الهيمنة الإيرانى لكن المسألة بالغة التعقيد لأن الاتفاق ليس أمريكياً - إيرانياً حتى يلغيه ترامب وقد يكون البديل أسوأ وأخيراً وليس آخراً يأتى موقفه من المسلمين المرفوض كلياً ، ويقول البعض إن ترامب المرشح لن يكون ترامب الرئيس لأن المؤسسة سوف تتولى تهذيبه وهذا صحيح جزئياً لكنه سوف يكون من السذاجة أن نفترض أن أفكار ترامب وتوجهاته التى بنى عليها انتصاره سوف تتوارى إلى الخلف لمجرد أنه أصبح رئيساً خاصة وقد أكد بعضاً من أهمها بعد فوزه ، كما أن البعض ينتقد الذين فرحوا لفوز ترامب لما يتوقعونه من مواقف تفيدهم كما فى موقفه تجاه ما يُسمى بالإسلام السياسى أو الصراع السورى وهو انتقاد يفتقر إلى المنطق السياسى وكأن المفروض أن أضيع فرصة لتدعيم موقفى لحساب مواقف أخرى أو كأنى مطالب بتبنى مواقف ترامب بالكامل دون تمييز ، والحقيقة أن النهج الأمثل تجاه ترامب وسياساته هو أن نحاول المشاركة فى صنعها فيما يتعلق بقضايانا بدلاًً من الاكتفاء بإصدار الأحكام عليها . لمزيد من مقالات د. أحمد يوسف أحمد