أكتب عن علاء الديب. وأعترف من البداية بأنى مقصر فى حقه. وأذهب أبعد من ذلك فأعترف بأنى لا أكتب عنه لأوفيه حقه فحسب، بل لأتخفف من إحساسى نحوه بالتقصير، ولأتخلص من شعورى بالوحشة بعد رحيله، ولأستحضر صور الأيام والأعمال التى جمعتنا. ولهذا اخترت أن تكون سيرته الذاتية هى موضوع هذا الحديث. لقد عشت حياة شبيهة بالحياة التى عاشها علاء الديب. وعاصرت الأحداث الكبرى التى عاصرها، ودخلت التجارب التى دخلها. ومارست مهنة الكتابة التى مارسها، وضمتنا دار روز اليوسف بروحها المتحررة، وتقاليدها التى كانت تشد لها الكتاب والفنانين الطليعيين وتزودهم بمزاج خاص يتوافق مع هذه التقاليد ويطبع تفكيرهم وسلوكهم، ويجعلهم أسرة واحدة يجمع بين أبنائها الكثير، ويبقى لكل منهم مايتميز به عن سواه. لقد تزاملنا سنوات وسنوات. لكنى أعترف بأنى أكتشف الآن علاء الديب من جديد. كنت أقرأ له بالطبع كتاباته الصحفية. لكنى لم أقرأ من أعماله الروائية إلا «زهر الليمون». وهأنا أقرأ له ثلاثيته وسيرته الذاتية التى كتبها قبل عشرين عاما بعنوان «وقفة قبل المنحدر من أوراق مثقف مصر 1952 1982». كان فى ذلك الوقت قد بلغ السادسة والخمسين من عمره وأصبحت حياته ماضيا يحن إليه ويخشى مايمكن أن يقع له فى المستقبل الذى رآه منحدرا !! وفى هذا الموقف الصعب الذى أصبحت فيه الحياة ذكريات لا يمكن أن تستعاد وكوابيس لابد أن تتحقق كتب علاء الديب سيرته وأختار لها هذا العنوان الفاجع وقال عنها «هذه أوراق حقيقية. دم طازج ينزف من جرح جديد. كتابتها كانت بديلا للانتحار». ماالذى يمكن أن نفهمه من هذه العبارة الأخيرة ؟ نحن نفهم منها أنه سكت طويلا على ما كان يجب أن يصرح به. وأن سكوته كان عبئا أخلاقيا أنقض ظهره. وأنه أنقذ نفسه من الانتحار بالاعتراف. ماالذى أعترف به علاء الديب ؟ الذى اعترف به علاء الديب هو أن الحياة التى عاشها وعشناها معه كانت حافلة بالأكاذيب فعلينا جميعا أن نراجع هذه الحياة وأن نراها على حقيقتها. وإذن فالسيرة التى كتبها علاء الديب ليست سيرته وحده، وإنما هى سيرتنا معه. سيرتنا من الظاهر وسيرتنا من الباطن. الأحداث التى توالت علينا خلال العقود الثلاثة التى حددها فى العنوان وبدأت باستيلاء ضباط يوليو على السلطة وانتهت باغتيال السادات. وهذا ليس مجرد استنتاج أو قراءة للعنوان، وإنما هو الواقع الذى يقدمه لنا علاء الديب فى سيرته التى أقرأها فيخيل لى كأنى أقرأ سيرتى التى لم أكتبها بنفسى وإنما كتبها علاء الديب بقلمه. والسيرة كما نعرف جميعا، سواء كانت سيرة ذاتية مكتوبة بقلم صاحبها أو كانت تاريخا لحياة شخصية من الشخصيات كتبه كاتب أو مؤرخ هى سرد لأحداث وقعت فى الماضى كما نجد فى «الأيام» لطه حسين، وفى «زهرة العمر» لتوفيق الحكيم، وفى «حياتى» لأحمد أمين، وفى «أوراق العمر» للويس عوض وغيرها. وهى إذن ماض يستدعيه الكاتب ويتذكر أحداثه ويرويها لنا ولنفسه ويحولها بالتالى إلى حاضر أو إلى وعى بالماضى الذى نحتاج لاستعادته فى الحاضر وإلا سقط من ذاكرتنا وضاع. نحن لا نتذكر دائما ماضينا، ولا نعرفه دائما على حقيقته، لأن الروايات التى تقدم عنه ليست دائما واحدة، وليست دائما صادقة. ولهذا نحتاج لإعادة اكتشافه وفهمه. وربما رأينا فى بعض جوانبه ما لم نكن نراه من قبل. والسيرة الذاتية إذن ليست مجرد أخبار وتسجيلات، وليست صوراً فوتوغرافية نطبعها على الورق،وإنما هى وعى جديد بحياة كانت أياما متتابعة وحوادث متقطعة أصبحت كياناً واحداً ووصلت الى غايتها أو اقتربت منها وصار بوسعنا أن نراها فى وحدتها واكتمالها وفيما ظهر منها وما بطن، وفى علاقتها بالزمان وبالامكان، وفى علاقتها بالآخرين وعلاقتها بنفسها. وبهذا الفهم كتب علاء الديب سيرته الذاتية فحولها إلى نص روائى، كما كتب بعض رواياته فحولها إلى سير ذاتية. إنه يتحدث عن نفسه فى السيرة كأنه يتحدث عن شخصية متخيلة. وهو فى رواياته يعتمد قبل كل شىء على ذكرياته وتجاربه حتى لتبدو لنا روايته «زهر الليمون» سيرة ذاتية ليس معنى هذا أن علاء لا يرى إلا نفسه أو أن علاء الديب الانسان هو وحده موضوع علاء الديب الكاتب. لا، فنحن نرى أنفسنا فى أعماله. ليس فقط فى رواياته، وإنما نحن موجودون حتى فى سيرته الذاتية التى يتحدث فيها عنا من خلال حديثه عن نفسه. ذلك لأنه وهو يتذكر حياته ويعيد النظر فيها ويفسر أحداثها يكتشف ويجعلنا نكتشف أن حياته هى فى عمقها البعيد حياتنا، لأننا ننتمى لواقع واحد جمعت بيننا أحداثه وتحولاته الكبرى، حتى ولو كانت تجاربنا الفردية مختلفة. لكن قدرة علاء الديب على أن يرينا أنفسنا فى أعماله تتمثل قبل كل شىء فى لغته التى ثقفها وطوعها لكل الأشكال الأدبية التى كتب فيها. إنه روائى متمكن. لكنه فى رواياته وقصصه شاعر متمكن أيضا قادر على أن يجعل الرواية شبكة ينشرها على نثر الحياة ليصطاد بها الشعر. وهو ينسج الحوادث ويرسم الشخصيات ليدفع بها دفعاً إلى المواقف التى لا يمكن لغير الشعر أن يعبر عنها. إنه يصف رحلة قام بها بعض أبطاله إلى النوبة فى جنوب مصر حيث يكون للطبيعة حضور جسدى طاغ يفرض الصمت على الجميع فيقول إنهم كانوا «يراقبون الشمس والقمر والنيل الرابض الضخم، يتحركون فى هدوء كأنهم يحاذرون من إزعاج الصمت» ! غير أن النثر فى كتابات علاء الديب ليس مجرد مصيدة للشعر، وإنما هو صورة الحياة الأخرى. إنه الواقع الذى يستدعى الحلم. وهو الحاضر الذى نعانيه فى صراعه مع الماضى الذى نحن إليه. وقدرة علاء الديب على اكتشاف الواقع واصطياده ليست أقل من قدرته على اصطياد الشعر. لمزيد من مقالات أحمد عبدالمعطى حجازى