منذ أسابيع عندما ظهر الفيديو الشهير لحديث دونالد ترامب الفظ عن تحرشه الجنسى بالسيدات تصورت مثل الكثيرين أن علينا أن نستعد للرئيس هيلارى كلينتون. ولكن لتجاربى العديدة فى متابعة الانتخابات الأمريكية أبديت بعض التردد وقلت فى أحد تعليقاتي: «إن الانتخابات انتهت مالم تظهر مفاجأة كارثية لهيلاري». والحقيقة أنها بتأثير ذلك الفيديو زادت أسهمها بشكل كبير وتفوقت على ترامب فى استطلاعات الرأى العام بما يتجاوز عشر نقاط، وصار الحديث المتداول بين النخبة مرتبطا فى الأساس بحجم خسارة ترامب وما إذا كان سيجر معه قوائم المرشحين الجمهوريين الآخرين للكونجرس والمناصب الأخري. فماذا حدث؟ بالتأكيد سيقف المحللون والخبراء كثيرا لدراسة أسباب هذا الانهيار المفاجئ لحملة هيلارى وهى التى تملك أقوى الآلات الانتخابية فى أمريكا، مع محاولة تفسير الأخطاء الكبيرة التى وقعت فيها مؤسسات قياس الرأى العام. لكن هنا يمكن رصد بعض العوامل: أولا: قد تكون تلك المفاجأة الكارثية التى أشرت إليها تتمثل فى خطاب مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية جيمس كومى للكونجرس حول إمكانية فتح التحقيق مرة أخرى فى قضية الإيميلات التى لاحقت هيلارى منذ تركها وزارة الخارجية وانتهت بعدم توجيه اتهام جنائى لها. صحيح أن كومى أرسل خطابا تاليا لصالح كلينتون، إلا أنه لم يعالج الأثر المدمر للخطاب الأول، وانهار الفارق بينها وبين ترامب من أكثر من عشر نقاط إلى نقطة أو اثنتين. والمؤكد أن التاريخ سيقف بالكثير من التحليل والنقد عند سلوك كومى وما إذا كان فعل ذلك متعمدا بما أقحم جهاز تحقيقات غير مسيس فى قلب العملية الانتخابية للتأثير فى نتيجتها فى الوقت الحاسم. ثانيا: ربما كان أحد أهم العبارات التى استوقفتنى فى تفسير المفاجأة ماقيل عن أن وسائل الإعلام كانت تأخذ كلام ترامب حرفيا، لكنها لم تأخذه بجدية بينما كان العكس يحدث مع بقية فئات المجتمع التى أخذته بجدية بينما لم تأخذ كلامه حرفيا. هذا يفسر تجاوز مؤيديه عن كثير من عباراته البذيئة ووعوده التى يبدو أنها صعبة التحقيق مثل بناء حائط على حدود المكسيك أوأنها ستدفع ثمنه. لكن مثل هذا الكلام أعطى إحساسا بالجدية على الأقل فى معالجة هذه المشاكل. ثالثا: أعتقد أن هذه الانتخابات ستدخل التاريخ باعتبارها الصيحة الأخيرة للبيض خاصة الرجال للتمسك بأمريكا التى يعرفونها والتى يخشون مما يحدث فيها من تغيير بزحف الأقليات العرقية والدينية لتشكل موزايك ربما يكون السبب فى قوة أمريكا واقعيا، لكنه يمثل تهديدا لفئات أقل تعليما وأكثر عزلة من البيض بعيدا عن المدن الكبري. هذه الفئات ربما أزعجها أيضا انتخاب رئيس أسود، وقدم لهم ترامب الحافز للخروج بقوة إلى صناديق الاقتراع. لكنى أقول إنها الصيحة الأخيرة، لأن الواقع الديموجرافى يفرض نفسه بالفعل وسيزداد تأثيره مع مرور الوقت. رابعا: لايمكن التقليل من حجم الشعور بالقلق لدى أعداد كبيرة من البيض من أبناء الطبقة العاملة الذين يخشون تأثير العولمة ونقل وظائفهم إلى الصينوالمكسيك وغيرها من الدول. هنا جاء ترامب ليقول لهم إنه لن يقبل باتفاقات التجارة مالم تضمن حقوقهم، بل ووقف أمام مصانع للسيارات وقال للمديرين إنهم لوأغلقوها ونفذوا خططهم بنقلها للمكسيك فسيفرض جمارك عليهم تصل إلى 35٪ بحيث لايتمكنون من بيع منتجاتهم فى أمريكا. كلام يجد صدى لدى هؤلاء العمال رغم أنه هو نفسه يمتلك مصانع خارج أمريكا، لكنه يتحدث بلغة بسيطة تصل مباشرة لجمهوره المستهدف. المدهش أنه ولد وفى فمه ملعقة ذهبية لكنه كان أكثر قدرة على الوصول لهذه الفئات المطحونة من كل منافسيه على ترشيح الحزب الجمهورى ثم هيلارى كلينتون فى الانتخابات العامة. وقد اختارت هذه الفئات شخصا من خارج المؤسسات الرسمية من أجل تغيير واشنطن بشكل كامل بعد أن خذلهم السياسيون التقليديون. خامسا: لم تتمكن هيلارى من الحفاظ على مايسمى ب «تحالف أوباما» الذى يعتمد على تحفيز الأقليات والشباب تحت 35 سنة على التصويت، فكانت نسبة من أدلوا بأصواتهم من السود أقل، وحصلت على نسبة تأييد 88٪ وهى كبيرة لكنها تظل أقل من 93٪ لأوباما. وقد ارتفعت نسبة أصوات الهيسبانيك (من أمريكا اللاتينية) بين الناخبين قليلا لكن هيلارى حصلت على نحو 65٪ منها بما يقل 6٪ عن أوباما. الأمر نفسه ينطبق على صغار السن والبيض حيث لم تحصل على نسب التأييد التى حققها أوباما حتى من أصوات المرأة، ففازت بفارق 12٪ فقط عن ترامب رغم تركيز حملتها على معاملة ترامب السيئة للنساء ولم تستفد من البعد التاريخى لكونها أول امرأة تقترب من كسر السقف الزجاجى الذى يحول دون الوصول لأعلى منصب فى البلاد. سادسا: بقيت قضية دقة استطلاعات الرأى العام، وقد قرأت تغريدة للخبير الشهير مايك ميرفى الذى أدار العديد من الحملات الانتخابية قال فيها: «إننى وثقت فى البيانات والإحصاءات الانتخابية لثلاثين عاما، لكن ذلك انتهى اليوم، بعد أن وقعت فى أكبر الأخطاء»، وهو ماسيحتم إعادة النظر فى الأدوت المستخدمة وطريقة حساب الأرقام ووضع الاحتمالات. كانت أغلب الاستطلاعات تعطى هيلارى تقدما معقولا فى نسبة التصويت الشعبى وكذلك فى المجمع الانتخابى واستمر ذلك لأسابيع بما أوحى باستقرار السباق على هذا النحو، حتى إن ترامب نفسه لم يذهب لولاية مثل ويسكونسين لاعتقاد حملته بصعوبة الفوز بها وهو ماحدث بالفعل. لكن كان هناك خبراء من أمثال نات سيلفر الذى نبه أكثر من مرة إلى وجود أمرين: الأول أن الفارق يظل داخل هامش الخطأ وبالتالى يظل احتمال المفاجأة قائما. الثانى هو استمرار وجود نحو 12٪ ممن لم يقرروا كيفية الإدلاء بأصواتهم لوقت متأخر، وغالبا ماتتجه هذه النوعية من الناخبين إلى مرشح ثالث أو الأكثر تعبيرا عن التغيير وهو فى تلك الحالة دونالد ترامب، خاصة أن 70٪ من الأمريكيين يعتقدون بأن البلاد تسير فى الاتجاه الخاطئ. كل هذه الأسباب وغيرها ستكون موضع بحث من الخبراء لشهور وربما سنوات لاستخلاص الدروس مما حدث من أخطاء. لكن الانتخابات انتهت فى كل الأحوال، ولم يعد يكفى ترامب استخدام عبارات شعبوية وديماجوجية، بل لابد من ترجمة وعوده إلى سياسات حاكمة، فهذا هو الامتحان الصعب، وعندها يُكرم ترامب أو يُهان.