مؤيدوه يقولون إنه «ليس سياسيا... فالسياسيون مكرهون ولايثق بهم أحد. وهذا سبب الالتفاف غير المتوقع حوله. مؤيدوه يقولون أنه «مليونير صنع ثروته من جهده»، ومن يدير شركة تحقق أرباحا يمكن أن يدير بلدا تحقق أرباحا. مؤيدوه يقولون إنه «من خارج المؤسسة» وبالتالى قادر على التغيير الذى تعد به المؤسسة ولا تقدمه. مؤيدوه يقولون إنه «وطني» وتعاديه النخب والأعلام وتتهمه بالعنصرية والعداء للأقليات وكراهية المهاجرين وتحقير النساء فقط لانه «يقول ما يريد الآخرون قوله لكنهم لايمتلكون الشجاعة للنطق به». هذا الكلام قيل حرفيا ومرارا عن رجلين من قارتين مختلفتين جمعتهما لحظة استثنائية يمر بها العالم، وهما نايجل فاراج زعيم التيار القومى اليمينى البريطانى «مهندس» خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ودونالد ترامب المرشح الجمهورى للرئاسة الامريكية الذى ترشح تقريبا رغما عن أنف الحزب لغياب البدائل، لكنه يتصرف حقيقة كمرشح ل«حزب الشاى» ما يعزز شعبيته بشكل خاص وسط اليمين الأمريكي. يجمع فاراج وترامب تشابه كبير فى الخلفية والصفات والايديولوجية، وتحالف واسع عابر للحدود والقوميات يتشكل من المحبطين والغاضبين والمهمشين واليائسين. هذا التحالف هو «تمرد سياسي» عبر صناديق الانتخابات قلب الأمور رأسا على عقب فى بريطانيا وقد يقلبها فى أمريكا. كما جمعتهما لقاءات عديدة وجها لوجه آخرها المناظرة الرئاسية الثانية بين مرشحة الحزب الديمقراطى للانتخابات الامريكية هيلارى كلينتون وترامب فى ولاية ميسوري، حيث دعا ترامب فاراج للجلوس فى الصف الأول. وكان فاراج قد توجه لامريكا مرارا لتوجيه نصائح إلى ترامب آخرها كان قبل أسبوع من المناظرة. كان المطلوب من فاراج واضحا وهو كيف يحسن ترامب أداءه فى المناظرة الثانية ويوسع قاعدته الشعبية ويصل لعدد أكبر من الناخبين؟. وجه فاراج نصائح عدة إلى ترامب من بينها: لاتتحدث إلى هيلاري، بل تحدث إلى الناخب مباشرة، أنظر فى الكاميرا كأنك ترى الناخب. لاتفقد هدوءك عندما تنتقدك هيلارى ولاتدخل معها فى «معارك قطط» لانها تظهرك كشخص لايحتمل الانتقادات، وأخبر الناخب لماذا أنت المرشح الذى يجلب التغيير؟. هذه النصائح اختتمها: ليس هناك متسع من الوقت أمامك، العب على الفقراء ومحدودى التعليم وركز على أن هيلارى «مرشحة المؤسسة» فى مواجهتك أنت «المرشح من خارج المؤسسة». وعلى مدار 90 دقيقة خلال المناظرة أمس الأول، ارتكز هجوم ترامب على هيلارى على ال «30 عاما» التى قضتها فى دهاليز الحكم فى واشنطن. نصائح فاراج إلى ترامب لم تكن غريبة عن استراتيجية ترامب. ففى كلمة له مؤخرا أمام بعض أنصاره فى نيفادا قال ترامب:«لقد فزنا مع الشباب، وفزنا مع كبار السن. فزنا مع المتعلمين جيدا. وفزنا مع محدودى التعليم. أنا أحب محدودى التعليم». حب ترامب لمحدودى التعليم ليس من طرف واحد. فمحدودو التعليم يحبون ترامب أيضا. فمجلة «اتلانتك» الأمريكية قالت فى مارس الماضى إن أعلى نسبة تأييد لترامب هى بين محدودى التعليم الذين غادروا المدرسة ولم يحصلوا على درجة جامعية. وحاليا يتقدم ترامب بفارق كبير عن هيلارى كلينتون وسط الشرائح الأقل تعلما أو التى لم تحصل على تعليم جامعى . فيما تتقدم كلينتون بفارق كبير على ترامب وسط الشرائح الأعلى تعليما والجامعيين. وفى آخر تلك الاستطلاعات كان ترامب يتقدم على كلينتون بنسبة 76% مقابل 19% وسط الرجال البيض بدون تعليم جامعي. كما انه يتقدم عليها وسط النساء البيض بدون تعليم جامعي. وإجمالا الشرائح الأكثر دعما لترامب هى «الرجال»، و«البيض» و«محدودى التعليم». التقسيم الحاد بين ميول الناخبين التصويتية على أساس التعليم ظاهرة تتعزز فى أوروبا. وفى الاستفتاء على خروج بريطانيا أو بقائها فى الاتحاد الأوروبى لعب التعليم دورا أساسيا فى تحديد توجهات التصويت. ففى الاستفتاء دعم 75% من خريجى الجامعات الاستمرار فى الإتحاد الأوروبي، فيما دعم 73% من غير الحاصلين على تعليم جامعى الخروج من أوروبا. ونسبة التصويت العالية وغير المسبوقة بين محدودى التعليم وسكان مدن الداخل التى تعانى الفقر والبطالة هو ما حسم نتيجة التصويت لمصلحة معسكر الخروج من أوروبا الذى ركز قادته وعلى رأسهم فاراج على ثنائية «رجل الشارع العادي» أمام «النخبة والخبراء»، و»العامل الفقير» أمام «الأثرياء» و«محدود التعليم» أمام «خريجى اكسفورد وكامبرديج». وفى امريكا حاليا لحظة مماثلة. فسكان المدن الفقيرة والمهمشة التى يطلق عليها «الحزام الصدئ» جاهزة للتصويت لأى مرشح يقول إنه من «خارج نخبة واشنطن الفاسدة. فمشاكل الفقر والحرمان والبطالة وسوء الخدمات وقلة الفرص دفعت أكثر الناس حرمانا فى امريكا إلى أكثر الخيارات ديماجوجية وشعبوية من حيث الخطاب والتوجهات. ترامب لم يخلق هذه اللحظة بل استفاد منها. فحلمه للرئاسة ليس شيئا جديدا. فمنذ نهاية الثمانينيات وهو يتحدث عن رغبته فى الترشح للرئاسة. وعام 1999 حاول الترشح عن حزب مستقل ثالث بزعامة رجل الأعمال روس بيرو، لكنه أدرك استحالة أن تأخذك الطبقة السياسية جديا ما لم تكن مرشحا عن الحزبين الكبيرين «الديمقراطي» أو «الجمهورى». بعبارة أخرى، ترامب نفسه «وليد للحظة». فالأمر لا علاقة له بكاريزميته من عدمها. الأمر كله مرتبط بالمزاج العام فى امريكا والعالم. فكيف يعبر ملياردير عاش حياته على ملاعب الجولف عن الطبقات الفقيرة؟. ربما تكمن الإجابة فى الولايات التى يتقدم فيها ترامب على هيلارى أو يتقاربان فيها جدا. فمثلا فى أوهايو، حيث يتقدم ترامب، اضمحلت الصناعات الامريكية خلال العقود الثلاثة الماضية وعلى رأسها صناعات الحديد التى أغلقت أبوابها ونقلت أعمالها إلى خارج أمريكا وخلفت وراءها مجتمعات تعانى الفقر وقلة الفرص، وطبقة عمالية تعانى البطالة وتشعر بخديعة نخبة المال والسياسة فى واشنطن. فعمال المصانع وناشطو النقابات الذين يصوتون تقليديا للحزب الديمقراطي، تشير استطلاعات الرأى إلى أنهم يتجهون للتصويت ليس بالضرورة للحزب الجمهوري، حزب الأثرياء ورجال الأعمال تقليديا، بل سيصوتون لترامب تحديدا الذى يتحدث لغتهم ويهاجم المؤسسة فى واشنطن ويركز على الوظائف والمال وعدم عدالة اتفاقيات التجارة الحرة التى وقعتها امريكا خلال العقود الثلاث الماضية. لكن الدعم لترامب ليس وسط الطبقات العمالية البيضاء فقط، بل وسط البيض فى الطبقة الوسطى الذين ليس لديهم سبب اقتصادى للغضب أو الاحباط، لكن لديهم عداء للأقليات والهجرة ويريدون مرشحا يعد كما وعد ترامب ببناء سور فاصل مع المكسيك وعدم استقبال لاجئين سوريين وعدم فتح الأبواب للمسلمين. إنه تصويت احتجاجى مماثل لتصويت بريطانيا خلال الاستفتاء. ويقول المعلق السياسى البريطانى روبرت مور: «كلما احتدم هجوم الإعلام على ترامب، تمسك أنصاره به بمنطق: لابد أنه مرشح التغيير القادم من خارج المؤسسة ولهذا تحاربه السلطة». ويواصل:»أعتقد ان ترامب سيفوز بأهاويو. هذا لا يعنى انه سيفوز بالبيت الابيض. لكن هذه الولاية مؤشر على المزاج العام فى امريكا. اوهايو صوتت للرئيس الفائز فى كل انتخابات منذ 1964». وينظر اليمين الأوروبى إلى الانتخابات الامريكية بالكثير من الترقب والحماسة. فزعيما اليمين النمساوى والايطالى مثلا التقيا ترامب مرارا فى امريكا للتعبير عن دعمهما له والتنسيق معه. وليس هناك مبالغة فى القول إن فوز ترامب سيحدث هزة سياسية فى أوروبا لمصلحة اليمين الأوروبى وقد يجبر المزيد من الأحزاب على انتهاج سياسات أكثر يمينية فيما يتعلق بالهجرة والاقتصاد والأقليات. فالحزبان الكبيران فى بريطانيا، «المحافظون» و»العمال» باتا عمليا أكثر تشددا فى قضايا الهجرة وأكثر حمائية ودعما للأبواب المغلقة وأكثر قومية منذ قرار الخروج من أوروبا وكل ذلك فى محاولات لكسب أصوات الفقراء والأقل تعليما الذين يشعرون بالتهميش إزاء «المركز». ويقول ماثيو جودين أستاذ العلوم السياسية فى جامعة «كنت» البريطانية إن فاراج «حقق كل ما كان يأمل فى تحقيقه وعلى رأس هذا الخروج من أوروبا. لكن الانجاز الأكبر هو أن أغلب أطروحاته يتم تبنيها من قبل الأحزاب السياسية فى البلاد». فنظام الهجرة الاسترالى الذى اقترح فاراج ان تعتمده بريطانيا بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، اقتبسه «المحافظون» و«العمال». وكرست تيريزا ماى رئيسة الوزراء البريطانية كلمتها فى مؤتمر حزب المحافظين الأسبوع الماضى فى مدينة برمنجهام العمالية والتى تعانى مشاكل فقر وبطالة، لشن هجوم حاد «على النخبة» مقابل «رجل الشارع»، وحمل خطابها ملامح شعبوية لم يعرفها خطاب حزب المحافظين منذ عقود. بينما رددت أمبر رود وزيرة الداخلية البريطانية خلال مؤتمر حزب المحافظين مرارا تعبير «الوظائف فى بريطانيا للبريطانيين»، ووجهت انتقادات للشركات البريطانية التى توظف «أجانب» ودعتها إلى أن تعلن عن أعداد الموظفين الأجانب لديها. هذه المواقف دعت زعيمة الحزب القومى الاسكتلندى نيكولا ستورجين إلى القول:»يبدو أننا استيقظنا على حكومة بزعامة اليمين القومى المتشدد (يوكيب)». الخطاب اليمينى الذى يشق طريقة حتى داخل الحزبين الكبيرين فى بريطانيا، أدى أيضا إلى تباين فى التوجهات حول المرشح المفضل للندن، ففى أى انتخابات أمريكية أخرى يتنافس فيها مرشحان مثل هيلارى كلينتون ودونالد ترامب، كان الخيار بينهما سيكون محسوما وسط السياسيين البريطانيين لمصلحة كلينتون. إلا هذه الانتخابات، فالأوراق اختلطت لدرجة أن الطبقة السياسية البريطانية باتت منقسمة إزاء المرشح الامريكى المثالى لتعزيز العلاقات بين واشنطنولندن. فبريطانيا «تخرج» من الاتحاد الأوروبي، وتريد شركاء تجاريين أقوياء من خارج الكتلة الأوروبية يمكن أن يشكلوا قوة موازية للاتحاد الأوروبي. ووجوه أقصى اليمين داخل حزب المحافظين البريطانى الحاكم الذين يقودون مفاوضات الخروج من أوروبا مثل ليام فوكس وبوريس جونسون وديفيد ديفيز يشعرون ان ترامب «حليف طبيعي» لهم. فهو دعم بحماس خروج بريطانيا من الاتحاد، وصبيحة النتائج يوم 24 يونيو الماضى جاء إلى لندن بنفسه لتهنئة البريطانيين على «القرار التاريخى الشجاع». فيما هيلارى كلينتون أخذت موقف الرئيس الامريكى باراك أوباما من ان «الخروج فكرة سيئة» وبريطانيا ستدفع ثمنه ب«الوقوف فى آخر الطابور فيما يتعلق بمفاوضات التجارة الحرة مع أمريكا». لكن من ناحية أخرى بريطانيا تحكمها إمرأة قوية من حزب المحافظين هى تريزا ماي. كما أن عددا من أبرز المناصب فى الحكومة تشغلها نساء مثل وزارة الداخلية والتعليم والبئية. ومن الصعب تصور دعم وسطهن لرجل دائما ما وجهه سهامه للنساء بفجاجة ترامب. وفى مؤتمر حزب المحافظين لم يكن من الصعب رؤية كيف تشغل الانتخابات الامريكية أعضاء حزب المحافظين وتقسمهم أيضا. فغالبية الأعضاء من النساء ومن الشباب المشاركين فى المؤتمر أعربوا عن دعمهم لكلينتون، فيما متوسطو العمر من الرجال أعربوا عن دعمهم لترامب، أما لأنهم «لا يثقون» فى هيلاري، أو يجدون صعوبة فى التصويت للحزب الديمقراطي، المعادل لحزب العمال البريطاني، ضد الحزب الجمهورى المعادل لحزب المحافظين البريطانى ومن بين هؤلاء مثلا النائب البارز جاكوب ريسموج الذى أعلن دعمه لترامب. لكن سواء فاز ترامب أو لم يفز وسواء أفادته نصائح فاراج أو لم تفده، هناك تنام لا يمكن ان تخطئه العين لصعود تيار يمينى دولى عابر للحدود والقوميات، وهذا الصعود ليس ظاهرة عابرة، بل مرشح للتنامي. كما تقول اليزابيث جرين أحدى الناشطات فى حزب المحافظين ل«الأهرام»:»أنا لا أريد ترامب. لكنه سيفوز للأسف. فهناك حاليا مشاعر انتحارية تنتاب بعض الشرائح والطبقات الاقتصادية التى تشعر انها لاتحصل على شيء من النظام الحاكم. هذه المشاعر تدفع الكثيرين للتصويت لخيارات انتحارية. وتصويت الخروج من بريطانيا يمكن قراءته بهذه الطريقة، فالشرائح الاجتماعية الأكثر حاجة والتى تشعر انه حتى القليل الذى لديها معرض للخطر قررت القفز فى الظلام والخروج من الاتحاد الاوروبى على أمل أن الوضع سيكون جيدا يوما ما. والشئ نفسه مع ترامب فالكثير من الامريكيين يشعرون ان أحوالهم لم تتحسن مع اوباما ولن تتحسن مع هيلارى كلينتون. هؤلاء يسمعون كلام ترامب حول انه المرشح من خارج المؤسسة ويقولون: دعونا ننتخبه ماذا يحدث أسوأ مما نحن فيه حاليا؟».