هناك ثلاثة مسارات تتحرك فى سوريا الحاضر والمستقبل مٌتَّخِذّة من الفعل الخاص بالفرد وبالجماعة وبالشعب مَدْخلا لتأكيد الوجود بالموت أو الحياة، فى حرب عبثية لن تكون نهايتها انتصار أيّ طرف، ولكنها ستجسّد بطولات الحاضر وهزائمه فى نصوص إبداعية هى فى الغالب أكبر وأقوى وأبقى من الفعل السياسي، ومن قرينه الفعل الدموي، وهذه ليست استرجاعاً لتاريخ سوريا من خلال مبدعيها ومفكريها وفقهائها عبر التاريخ فحسب، وإنما هى شهادة للأجيال المقبلة، وتوعية لمن تحركه نكبة سوريا اليوم، التى وإن طال ليلها فإن صُبْحَها بات قريبا. المسارات الثلاثة، تترافق، وتتعايش، وتتزامن، وتتعاصر، مع أنها فى حقيقتها مختلفة، وأقصد بها الفعل السياسى الراهن من حيث هو نوع من التيه بالنسبة للسلطة وللمعارضة أيضاٌ، والفعل الحركى الدموي، وهو فى كُنْهِهِ فعل اجتماعي، لأنه ورغم رفضه من قطاع واسع من الشعب، إلا أنه ما كان ليتوسع لولا تأييد شعبى له، ناهيك عن أننا نرى دعْمًهُ من أطراف تدور فى فلك النظام، ولذلك عمّر فى مواجهة الأزمة، والمرجَّح أنَّه سيُعمَّر أكثر حتى لو استمر فى طيشه وضلاله وتيهه، كما نَلْحَظ دعمه من قوى اجتماعية كثيرة مساندة للمعارضة لدرجة التضحية خاصة للجماعات الإسلامية العنيفة منها والسلمية، والفعل الإبداعي، الفكري، وهو الذى سيستمر بعد أن لا يبقى من الناس إلا خطاياهم. وإذا كنّا سواء بالاجماع أو بالغالبية، أو القلة نقدم مبررات عدّة عن عجزنا الواضح فى توقيف شلال الدم فى سوريا وهذا بالطبع يعتبر ابراء لذمة، وعدم تحمل للمسئولية، وهروبا من الواقع فإن قراءة الوضع الحالى سواء باستنطاق التاريخ أو باستحضاره من طرف أهله، تُمثِّل نوعاً من المساءلة التى لا ينفع معها موت الضمير، ومن هذه الزاوية يمكن قراءة رواية «عين الشرق هايبرثيميسيا21» للكاتب السورى المبدع «إبراهيم الجبين» والصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. فى هذه الرواية والقراءة هنا سياسية نسمع صوت المكان، صداه، نرى ذاكرته المقبلة من رحلة الزمن وعمق التجارب، وآهات التوجعات نتيجة الانكسار والهزائم، وضحكات الأفراح بعد الانتصارات، وتحقيق لأمنيات تعلَّقت بما وراء السماء فنالته، وصناعة لأمجاد ما استطاعت قوى الشر على فترات متباعدة وأخرى متقاربة أن تحول دون تجذرّها فى التراث والتاريخ، وكل ذلك فى نظرى نتاج الفعل السياسى (قرارات الحكام، ورد فعل المحكومين)، وإن كانت تفاصيل أحداث الرواية، وحركة شخوصها، تقدم لنا بعضا أو كُلاًّ، من شمس المعرفة، وإجابات الفلسفة، وتجليَّات الروحانيات، وجماليَّات الفن، وفضاء العمران، وتوثيق المنجز الفكري، واستحداث التشريعات وتطبيقها. المكان فى رواية عين الشرق هو دمشق، وآه منها، وهى اليوم تواجه ممثلة لسوريا كلها ومعها حلب ما يعجز عن وصفه أحمد شوقى لو بعث من جديد، فلم يعد الدمع هنا لا يكفف فقط (كما فى عام 1925)، بل الدماء لا تُوقف. شخوص الرواية تعبر الأزمنة المتراكمة على الأرض السورية، وهى تأتينا محملة بزاد معرفى عبر تجارب خاضها من صنعوا وصاغوا تاريخنا العربى هناك.. شخوص يجمع بينهم التاريخ المتراكم، لكنهم ليسوا معاصرين لبعضهم بعضا، فهناك من هو آت من زمن بعيد، ومنهم من أستحضره المؤلف ليعمق بوجوده عمله الإبداعي، مستنهضا أفكاره أو مُحفَّزاً لها، ومنهم من فرض وجوده الماضوى فى حاضر دمشق اليوم، بل فى حاضر سوريا والعرب، حين لجأت إليه أو استنجدت به جماعات التطرف الديني، والمذهبى والطائفى والعرقي، وقد نجح الجبين فى توظيفهم،. غير أن ذلك الاستحضار سيكون مخيفا لنا، إذا تجاوبنا أو آمنا بما استهل إبراهيم الجبين روايته، وهو زوَحْيٌ مِنْ جِهَةِ دِمَشْقَ: هُوَذَا دِمَشْقُ تُزَالُ مِنْ بَيْنِ الْمُدُنِ وَتَكُونُ رُجْمَةَ رَدْمٍ( سفر أشعيا الإصحاح السابع عشر الآية الأولى التوراة)، لكن بلا شك هو محق فى استهلاله الثاني، والذى يفسر عنوان الرواية حين كتب »20 حالة من مرض الهايبرثيميسيا فقط تمّ اكتشافها فى أنحاء العالم حتّى هذه اللحظة«. وبالعودة إلى التعريف العلمى لهذه الحالة، سنجد اسمها بالعربية هو »فرط الاستذكار« أو متلازمة فرط الاستذكار، أو الذاكرة السيرية الذاتية بالغة القوة،وهى حالة مرضية نادرة تجعل الشخص المصاب بها يتذكر كل لحظة فى حياته بكل تفاصيلها ولا ينسَى شيئاً مهما مرت السنوات، وعدم قدرة المصابين بهذه الحالة على نسيان تجاربهم الشخصية، تسبب لهم الكثير من القلق والتوتر الشديدين بسبب تذكرهم لكل تفاصيل حياتهم والتركيز على المؤلمة والمحرجة منها.. وقد يكون فى ذلك رمزية لتذكر دمشقوسوريا وكل المدن العربية، أى ذاكرة المكان، لكن مع غياب شبه تام لذاكرة الإنسان، وإن كانت الرواية تنتهى بنا إلى اعتراف كلى بأننا جزء من الانفجار السوري. لمزيد من مقالات خالد عمر بن ققه;