«نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيبٌ سوانا .. ونهجو ذا الزمانَ بغير ذنبٍ ولو نطق الزمان لنا هجانا.. وليسَ الذئبُ يأكلُ لحمَ ذئبٍ ويأكلُ بعضنا بعضاً عيانا«. تلك الأبيات الشعرية الخالدة التى قالها الإمام الشافعي، أحد أعلام الأمة والفقه الإسلامى منذ قرون عديدة تلخص ما نشاهده فى حياتنا اليومية من انفلات أخلاقى وغش وتدليس واحتكار وتلاعب بأقوات الناس، وغيبة للضمير وتراجع للقيم الإسلامية النبيلة التى تحث على العمل والإنتاج وتحرى الصدق والأمانة فى كل أقوالنا وأفعالنا. وإذا كان كثير من الناس يرصدون ويشخصون ولا يملون من تكرار الحديث عن كل تلك السلبيات التى أصابت الشخصية المصرية، فكيف يدعو للمعروف من ليس فاعله وكيف ينهى عن منكر من هو آتيه؟ ألم يسمع هؤلاء قول الشاعر: »لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتَأتيَ مِثلَهُ عارٌ عَلَيكَ إِذا فَعَلتُ عَظيمُ .. ابدأ بِنَفسِكَ وَانَهها عَن غِيِّها فَإِذا انتَهَت عَنهُ فَأَنتَ حَكيمُ«. أليس من الأولى أن نبدأ فى إصلاح وتهذيب أنفسنا وتطبيق القيم الأخلاقية فى حياتنا ومعاملاتنا قبل أن نوجه سهام النقد إلى الآخرين؟ ولماذا تناسينا قول الله تبارك وتعالي:«إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ«(الرعد:11)، وما بينه جل شأنه فى مواضع أخرى بالقرآن الكريم كقوله تعالي: »ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ« (الأنفال: 53). علماء الدين يؤكدون أن مجاهدة النفس والثورة عليها، هو أعلى مراتب الجهاد التى حث عليها الشرع الحنيف، وان الإيمان بالله تعالى ومراقبته لنا فى كل الأفعال ومحاسبة النفس أولا بأول، هى من أسلحة المؤمن فى مجاهدة النفس. وأوضح العلماء انه من الضرورى أن يقف الإنسان ويثور على نفسه الأمارة بالسوء ويراجعها ويوقفها عند حدها، حتى ينجو من سوء عاقبة أمرها، ويستقيم سلوكه، ويصبح إنسانا صالحا يدعو إلى الخير ويفعله، ويملأ الأرض رحمة ورفقا به وبالآخرين، بدلا من السعى فى الأرض فسادا، والترهيب والتخريب فى المجتمع. جهاد النفس ويقول الدكتور طه أبو كريشة، عضو هيئة كبار العلماء، إن جهاد النفس يعد جهادا أكبر، بل هو أعلى مراتب الجهاد، إذا قورن بجهاد الأعداء فى ميدان القتال، وذلك لأن جهاد الأعداء جهاد مؤقت بزمان ومكان وأسلحة متبادلة بين الطرفين، يعرف كل فريق قوة الآخر فيستعد لمقابلته بناء على هذه المعرفة، أما جهاد النفس فإنه جهاد دائم مستمر، لا يفارق الإنسان فى اى لحظة من اللحظات، وفوق ذلك فان عدو النفس الذى يقاتله الإنسان هو عدو غير منظور وغير مرئي، فالإنسان لا يرى الشيطان الذى يناصب له العداء، وكذلك الشهوات والغرائز لا يراها الإنسان، ومن هنا فإن جهاد هذه الأمور يعد جهادا اكبر، يستلزم قوة إيمانية عظيمة تعين الإنسان على الانتصار عليها، وتجعله دائما فى حالة تأهب قصوى لأن هذه الأعداء متربصة به مستعدة بأسلحتها، إذا وجدت ضعفا فى إيمان الإنسان فإنها لا تتوانى فى الوسوسة وفرض رغبتها فى كل طريق يؤدى بالإنسان إلى الغواية وفعل المعصية وارتكاب الموبقات، والسعى فى الأرض فسادا. مراقبة الله وأضاف: إن القوة الإيمانية فى الإنسان تحتاج دائما إلى ما يعينها على مجاهدة النفس والشيطان والهوى والدنيا، من خلال خوف الإنسان - دائما- من ربه ومراقبته، مراقبة تجعله يعلم علم اليقين، أن الله سبحانه وتعالى يراه وينظر إليه فى كل حركاته وسكناته،وكذلك يوقن بأن الله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، وان الله تعالى أقرب اليه من حبل الوريد، ويعلم أيضا ان الحفظة من الملائكة يسجلون عليه كل عمل يعمله، قال تعالي«وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَ الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا»، ومن هنا فإن الإنسان إذا كانت لديه قوة إيمانية قادرة على مجاهدة نفسه وشهواته ونوازغ الشيطان، فان ذلك يترجم فى سلوكه وتعامله مع الآخرين، فلا يسرق ولا يقتل ولا يغش و لا يخون ولا يغدر، ولا يفسد فى الأرض، ومن ثم يسعى إلى عمل الخير وعمارة الأرض وإسعاد الآخرين، ويهجر التخريب والتدمير وإرهاب الآخرين. الشخصية السوية وفى سياق متصل، يوضح الدكتور عبدالرحمن عباس سلمان الأستاذ المساعد بقسم العقيدة والفلسفة بكلية أصول الدين والدعوة بأسيوط، أن الثورة على النفس، جهاد يقصد به تهذيب نفس المسلم وتربيتها بالأخلاق الفاضلة التى تسهم فى بناء شخصية المسلم السوية، لتمكنه من معرفة غاياته وأهدافه ومقاصده، تلك الأخلاق هى روح ديننا الإسلامى الحنيف، فما كانت بعثة النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم إلا لتتمم مكارم الأخلاق، حيث قال صلى الله عليه وسلم «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». وأشار إلى أننا اليوم فى حاجة ماسة لاستكمال فضائل النفس وتهذيبها والارتقاء بها والسعى بها دائماً نحو الأفضل، لتقديم النموذج الإسلامى الصحيح فى إبراز الشخصية المسلمة العارفة بربها والمهتدية بهديه، والتى تشع نوراً فى جنبات الكون الذى نعيش فيه والذى كثرت مشكلاته وتعقدت على نحو لا تخطئه عين الرائى بحق، ولنخفف العبء عن كاهل مجتمعنا من السلبيات التى تقع فيه من الغش والاحتكار والتدليس والكذب والنفاق وشهادة الزور والفوضى فى نشر الشائعات الكاذبة والمغرضة، وكلها من أمراض النفوس. وأكد أنه بالنظر إلى أقوال السلف الصالح حول مجاهدة النفس، نجد أنهم وضعوها فى أعلى مراتب الجهاد، فها هو ابن المبارك يوضح معنى قوله تعالى «وجاهدوا فى الله حق جهاده»، هو جهاد النفس والهوي، وقال الإمام ابن القيم فى الفوائد: فى بيان قوله تعالى «والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا»، علق سبحانه الهداية بالجهاد، فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادا، وأفرض الجهاد جهاد النفس وجهاد الهوى وجهاد الشيطان وجهاد الدنيا، فمن جاهد هذه الأربعة فى الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد، وقال الإمام الجنيد: والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة لنهدينهم سبل الإخلاص، ولا يتمكن من جهاد عدوه فى الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنا، فمن نصر عليها نصر على عدوه ومن نصرت عليه نصر عليه عدوه، وهذه النصوص مجتمعة ومتعاضدة تبين لنا مرتبة جهاد النفس فى الإسلام وأهميتها بالنسبة لكل مسلم ومسلمة . مراتب الجهاد وعن مراتب الجهاد يقول هى أربع: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين، ويقول الله تعالى فى وصف الأمة الإسلامية أمة محمد صلى الله عليه وسلم،«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ« فكيف يدعو للمعروف من ليس فاعله وكيف ينهى عن منكر من هو آتيه؟، فالأصل والأساس هو جهاد النفس، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم« المجاهد من جاهد نفسه فى طاعة الله، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه«. وأشار إلى أن الناس قسمان، قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته وصار مطيعاً لها، وقسم ظفر بنفسه فقهرها حتى صارت مطيعة له، وقد ذكر الله القِسمين فى قوله تعالي: «فَأَمَّا مَن طَغَى: وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَي»، فالنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، قال تعالى «وما أبرئ نفسي، إنّ النفس لأمارة بالسوء»، والله يأمر عبده بخوفه ونهى النفس عن الهوي، والعبد إما أن يجيب داعى النفس فيهلك، أو يجيب داعى الله فينجو. أما كيف نحاسب أنفسنا؟ فالجواب عن هذا التساؤل هو من تمام المعرفة بجهاد النفس، فالله عز وجل الخالق الخبير هو وحده يعلم خفايا النفس الإنسانية وقد أنزل الله هذا القرآن من أجل هذه النفس ليزكيها ويعلمها ويصوبها إلى الطريق الموصل لنعيمه، وجهاد النفس يكون بمحاسبتها ومخالفتها، وفى الحديث: » الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأمانى » رواه الإمام أحمد، ومعني: » دان نفسه »: حاسبها، وعن سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم فى الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، قال تعالى »يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ«. وفى ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: جهاد النفس أربع مراتب: أحدها: أن تجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذى لا فلاح لها ولا سعادة فى معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها علمه شقيت فى الدارين، الثانية: أن تجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها، الثالثة: أن تجاهدها إلى الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله، والرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله ، فإذا استكمل العبد هذه المراتب الأربع صار من عباد الله بحق.