انتابتني حالة من الغثيان مصحوبة بشعور مقيت بالتقزز - استميحكم عذرا - وأنا أشاهد كليب «ياود ياتقيل» للمدعوة «ريما ديب»، من فرط الابتذال ورداءة الصوت الذي يشبه نعيق الغربان، ناهيك عن فيض وافر من البلاهة المستمدة من «عته منغولي واضح» أصاب هذه السيدة التي تتمتع ببلادة غير معهودة كي تدرك أنها فاقدة الإحساس بالكلمة والموسيقي، وهي على ما يبدو لا تعي تماما لمن تغني، إنها السندريلا «سعاد حسني» أيتها الحمقاء الساقطة في وحل الجهل، تلك التي كانت ترقص بكل الشقاوة وخفة الظل على أغنية «يا واد يا ثقيل»، فيتاطير شرر العواطف الصادقة ليغطي الخارطة العربية بحنو بالغ، أو هى نفسها حين ترقص بكل فتنة الأنثى على أغنية «خلي بالك من زوزو» لتعتصر ألما يلامس شغاف قلوبنا، وهى في كل مشهد وفي كل رقصة تستخدم أسلوبا وتقنيات وتعابير مختلفة، وكأن الجسد يتكلم مئة لغة ولغة. وهنا أتساءل في دهشة : من الذي سمح لهذه الحمقاء لتطل في صفاقة وتحد سافر بكل هذا القدر من العبث، لتجرفنا نحو حافة السقوط في وحل الإسفاف والتدني؟ أغلب الظن أننا أصبحنا أمام ظاهرة تجريف متعمد لتراثنا الفني، في غيبة من وعينا، حيث تطل تلك الغربان - في عز الظهر – مستغلة حالة الاستسلام اللذيذ لسحر الصورة، وتؤكد على عجزنا تماما عن تطبيق أبسط قواعد أومواد قانون الملكية الفكرية التي تنتصر للذائقة السليمة، والتصدي لتلك الظواهر الجنونية على منصات مايسمى بالحرية الجديدة، تلك التي تغري بالتبجح والتعدي على أجمل مافي حياتنا العربية من غناء يخاطب الروح والوجدان، ولعل شيئا من هذا قد حدث من قبل، عندما خرجت علينا راقصة مغمورة تدعى «برديس» - قبل عام تقريبا - لتغتال الراحلة «سعاد حسني» أيضا بنفس الأغنية، وقامت الدنيا ولم تقعد وقتها إلإ بعد أن حكم عليها بالحبس ستة أشهر مع الشغل والنفاذ، لقيامها بحركات جنسية وإباحية تثير الغرائز وتنشر الرذيلة، بمقتضى نص المادتين 178، 278 من قانون العقوبات وعملا بنص المادة 304 / 2 من القانون أيضا. وها نحن اليوم أمام واحدة جديدة تتسلل من بين أيدينا ، في لحظات انشغالنا بهموم السياسة القاتلة والاقتصاد العاصف بأيامنا، لتزيد علينا وطأة غياب «السندريلا» في بلاد الضباب، وفي تحد صارخ تغتال سيدة الأحلام الرقيقة، والتي يقول البعض إن مفاهيم الرقة والعذوبة والجمال ذهبت بلا رجعة بوفاتها، وبعد أن غابت عنا بقوامها الفلاحي الرشيق وشعرها الليلي وجمال حضورها الذي لم ينطفئ يوما بابتسامتها المتلألئة، وضحكتها التي مَسَت أسرار الهوى، وعينيها المدهشتين، وجسدها الذي تمايل غنوة في لحظة عشق تذيب قلوب العذارى في دنيا الهوى. قصتي مع السندريلا هى قصة كل أبناء جيلي ممن تحرك أو نبض في عرقهم على وقع خطواتها وهى تغني في دلال وتيه، فعندما رأيتها أول مرة في فيلم «خلي بالك من زوزو»، لا أذكر التاريخ ولا مكان العرض الآن ، كل ما أذكره أنه كان يوم عيد فطر مشمس بمدينتي الجميلة «المنصورة» ، وكنت أرتدي ثوبا جديدا ، كما كانت العادة عند الذهاب إلى السينما في سبعينيات القرن الماضي، ربما كان طقس الأناقة هذا، هو الشيء الوحيد الذي كنت أستسيغه في الصالة المعتمة ، والتي لم أكن رأيت فيها بعد إلا قليلا من أفلام المطاردات من كلاسيكيات زمن الفتوة الفنية المصرية. مازلت أذكر جيدا تلك اللحظة النورانية التي صاحبت ظهورها على الشاشة، يا إلهي: لقد رأيت أجمل وجه في حياتي، وعلى قدر ما كنت عاجزا عن فهم الحوار والحبكة السينمائية داخل سيناريو الفيلم لصغر سني - آنذاك - لكنني شعرت وكأنني أركب لتوي بساطا سحريا يجوب الآفاق في بلاد العجائب، غادرت السينما حينها طفلا كما دخلتها، ولكن صورتها ظلت معي طويلا، لقد تغير شيء ما في داخلي على وقع خطواتها: صارت للموسيقى إشارات يترجمها الجسد في صورة رقصات مذهلة ، وصارت في قاموس لغتي كلمة جديدة تداعب قلبي الغض الطري بإحساس مختلف اسمه «الحب» في تجلياته الأولى، صحيح أن قلب الفتى الصغير لم يكن قادراً بعد على إدراك ماهية الحب، ومع ذلك كان يبدو إحساساً هائلاً يعتريني، وتنتاب جسدي النحيل قشعريرة لذة عجيبة، لمجرد أن يمر طيف «زوزو» ترقص وتغني وتتألم وتنتشي من ذاك الحب المفاجئ. ليتنا عشنا في زمن السقوط، لنرى الهبوط صعودا، بدلا من أن نري الهبوط صعودا الآن، فمنذ ذلك اليوم الذي خرجت فيه من عالم الصغار واقتفيت أثر سندريلا الكبار، تلك الجنية السحرية التي لا تشبه سندريلا الأساطير سوى أنها مجرد فتاة جميلة بائسة، لكنها سلبت القلوب في عقر خدور الرجال والنساء على السواء، عندما صارت حلما ورديا لكل شاب يقع أسير جمالها من أول نظرة، حتى ولو كانت نظرة قادمة من خلف عتمة شاشة السينما، فسعاد حسني هي ابنة بيئة شعبية بامتياز، تعلمت القراءة والكتابة في سن متأخرة، ولكنها تعلمت الفن وأدركته بحس فطري منذ نعومة أظفارها، ليتفجر فيما بعد بركان موهبتها الطاغية، وهي ابنة للفنان والخطاط السوري «محمد حسني البابا» وكأنها قد اختلط فيها الدم السوري بالمصري، واتحد الجمال السوري بخفة الدم المصرية، لتصبح التجسيد الأجمل للوحدة بين البلدين، كما يقول مطلع الأغنية: «أنا واقف فوق الأهرام وقدامي بساتين الشام». لا أظن أنه قد مر - وربما لن يمر - على تاريخ السينما العربية وجه يضاهي أو يقترب من وجه نقي ومعبر كما صورته الكاميرا «الفوتوجنيك»، صحيح أن كثيرا من المخرجين الذين تعاملوا معها - داخل البلاتوه - قالوا إن سعاد حسني تعشقها الكاميرا، وأنها في الحياة العادية فتاة متوسطة الجمال، وربما هنا يكمن سحر خاص يصعب علينا تفسيره، فهي قد تشبه الكثير من الفتيات، ولكن لا أحد يشبهها في واقع الأمر، بل لا أحد يدنو بقرب من جمالها، مهما تشابهت التقاطيع وتقاربت الألوان، فجمالها الروحي كان سرا علويا يكمن في تقاسيم وجه ندي بعيون تبعث على الشجن، لذا كانت قريبة من قلوب الناس، تماما كجمال ابنة جيران الزمن الماضي، ذلك الجمال القريب إلى حد البعد، والممكن إلى حد المستحيل، أما غوايتها فكانت تكمن في لمعة العينين، وبحة الصوت، وجاذبية التقاطيع الشرقية في فتنة لا تنتهى، حتى أنه يمكنك القول وأنت لست مغاليا أن «غوايتها في شقاوتها كما شقاوتها في غوايتها»، فعلى قدر ماكانت امرأة منمنمة الطول والتقاطيع، ولكن تبدو في هيئة مكتملة الأنوثة الطاغية في بهاء وعذوبة لاتقوى عليها أعتى نجمات هذا الزمان. رحمة بالسندريلا .. فلا تغتالوها حية وميتة.