السفارات المصرية في 18 دولة تفتح أبوابها لاستقبال الناخبين في جولة الإعادة بمجلس النواب    محافظ قنا يهنئ الرئيس السيسي بمناسبة العام الميلادي    الجامعة المصرية بكازاخستان تحتفل بتخريج الدفعة الأولى من مركز "تراث"    بدء صرف الدفعة الثانية من الأسمدة الشتوية لمزارعي الجيزة عبر كارت الفلاح    موسكو تعلن تقدما ميدانيا شمال شرق أوكرانيا.. وبوتين يأمر بتوسيع المنطقة العازلة    زد يستدرج حرس الحدود في كأس عاصمة مصر    4 قضايا أمام الإسماعيلى لرفع إيقاف القيد بعد إزالة مساعد جاريدو    أمم أفريقيا 2025| التشكيل المتوقع للجزائر وغينيا الاستوائية في لقاء اليوم    نظر جلسة محاكمة 3 فتيات بتهمة الاعتداء على الطالبة كارما بالتجمع بعد قليل    فتح التقديم بالمدارس المصرية اليابانية للعام الدراسى 2026/ 2027 غدا    القبض على المتهمين بسرقة محل بلايستيشن فى مدينة 6 أكتوبر    الأمل فى 2026 التحليل النفسى لأبراج العام الجديد    الليلة... نجوم الطرب في الوطن العربي يشعلون حفلات رأس السنة    108 دقة جرس كيف يحتفى العالم برأس السنة كل عام؟    "هتعمل إيه في رأس السنة"؟.. هادعي ربنا يجيب العواقب سليمة ويرضي كل انسان بمعيشته    طبيبة تحسم الجدل| هل تناول الكبدة والقوانص مضر ويعرضك للسموم؟    «ماء الموز» موضة غذائية جديدة بين الترطيب الحقيقي والتسويق الذكي    لماذا ترتفع معدلات الأزمات القلبية في فصل الشتاء؟ 9 إرشادات طبية للوقاية    الصحة تؤكد أهمية تطعيم الحمى الشوكية لطلاب المدارس للوقاية من الالتهاب السحائي    إيمري يقلل من أهمية عدم مصافحة أرتيتا بعد مواجهة أرسنال وأستون فيلا    ليلة استثنائية.. نجوم الأوبرا وعلاء عبد السلام يفتتحون عام 2026 بأغانى الخلود    الحكومة تصدر قرارًا جديدًا بشأن الإجازات الدينية للأخوة المسيحيين| تفاصيل    الإمارات تستجيب لطلب السعودية وتنهي وجودها العسكري باليمن    «اتصال» وImpact Management توقعان مذكرة تفاهم لدعم التوسع الإقليمي لشركات تكنولوجيا المعلومات المصرية    التضامن: إلزام الأسر المستفيدة بالمشروطية التعليمية ضمن برنامج تكافل وكرامة    مطار الغردقة الدولي يستقبل 19 ألف سائح على متن 97 رحلة طيران احتفالا بليلة رأس السنة    محمد جمال وكيلاً لوزارة الصحة ومحمد زين مستشارا للمحافظ للشؤون الصحية    تجديد حبس عاطلين قتلا مالك كافيه رفض معاكستهما لفتاة في عين شمس    اليوم.. نظر محاكمة 5 متهمين بخلية النزهة الإرهابية    تعرف على سعر الدينار البحريني أمام الجنيه في مصر اليوم الأربعاء 31-12-2025    أسعار البيض اليوم الأربعاء 31 ديسمبر    اليوم.. نظر محاكمة المتهم في قضية «صغار الهرم»    دميترييف يسخر من تمويل أوروبا المتحضرة للمنظمات غير الحكومية لغسل أدمغة الناس    وفاة إيزايا ويتلوك جونيور نجم مسلسل "The Wire" الشهير عن 71 عاما    نتنياهو: عواقب إعادة إيران بناء قدراتها وخيمة    نخبة الإعلام والعلاقات العامة يجتمعون لمستقبل ذكي للمهنة    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخيرًا بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الأربعاء 31 ديسمبر    وخلق الله بريجيت باردو    طقس رأس السنة.. «الأرصاد» تحذر من هذه الظواهر    توتر متصاعد في البحر الأسود بعد هجوم مسيّرات على ميناء توابسه    زيلينسكي يناقش مع ترامب تواجد قوات أمريكية في أوكرانيا    "25يناير."كابوس السيسي الذي لا ينتهي .. طروحات عن معادلة للتغيير و إعلان مبادئ "الثوري المصري" يستبق ذكرى الثورة    د.حماد عبدالله يكتب: نافذة على الضمير !!    «مسار سلام» يجمع شباب المحافظات لنشر ثقافة السلام المجتمعي    خالد الصاوي: لا يمكن أن أحكم على فيلم الست ولكن ثقتي كبيرة فيهم    تموين القاهرة: نتبنى مبادرات لتوفير منتجات عالية الجودة بأسعار مخفضة    استشهاد فلسطيني إثر إطلاق الاحتلال الإسرائيلي الرصاص على مركبة جنوب نابلس    الأمم المتحدة تحذر من أن أفغانستان ستظل من أكبر الأزمات الإنسانية خلال 2026    "البوابة نيوز" ينضم لمبادرة الشركة المتحدة لوقف تغطية مناسبات من يطلق عليهم مشاهير السوشيال ميديا والتيك توكرز    المحامى محمد رشوان: هناك بصيص أمل فى قضية رمضان صبحى    رضوى الشربيني عن قرار المتحدة بمقاطعة مشاهير اللايفات: انتصار للمجتهدين ضد صناع الضجيج    قبل المباراة المقبلة.. التاريخ يبتسم لمصر في مواجهة بنين    هل يجب خلع الساعة والخاتم أثناء الوضوء؟.. أمين الفتوى يجيب    هل تبطل الصلاة بسبب خطأ فى تشكيل القرآن؟ الشيخ عويضة عثمان يجيب    جامعة عين شمس تستضيف لجنة منبثقة من قطاع طب الأسنان بالمجلس الأعلى للجامعات    خالد الجندى: القبر محطة من محطات ما بعد الحياة الدنيا    الأهلي يواجه المقاولون العرب.. معركة حاسمة في كأس عاصمة مصر    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 30-12-2025 في محافظة الأقصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السندريلا في قلبي : لكل منا قصته مع سعاد حسني !
نشر في صوت البلد يوم 10 - 09 - 2016


إلى رانيا اسطفان ..
تبدأ قصتي معها عندما رأيتها أول مرة وأنا طفلة صغيرة في فيلم «خللي بالك من زوزو»، لا أذكر التاريخ ولا مكان العرض، كل ما أذكره أنه كان يوماً مشمساً وكنت أرتدي ثوبي الأحمر الجديد، كما كانت العادة عند الذهاب إلى السينما في سبعينيات القرن الماضي، ربما كان طقس الأناقة هذا، هو الشيء الوحيد الذي كنت أستسيغه في الصالة المعتمة، والتي لم أكن رأيت فيها بعد إلا أفلام المطاردات ورعاة البقر.
ما زلت أذكر لحظة ظهور سعاد حسني في الفيلم، فقد رأيت أجمل وجه في حياتي، رغم أنني لصغر سني كنت عاجزة عن فهم الحوار والحبكة السينمائية داخله، ولكنني شعرت وكأنني أليس في بلاد العجائب، غادرت السينما حينها طفلة كما دخلتها، ولكن شيئاً ما تغير في داخلي:
صارت للموسيقى إشارات يترجمها الجسد رقصات، وصارت للغة كلمة جديدة وللقلب إحساس مختلف اسمه «الحب»، صحيح أن القلب الصغير لم يكن قادراً بعد على إدراك ماهيته، ولكنه كان يبدو إحساساً هائلاً لمجرد أن زوزو ترقص وتغني وتتألم وتنتشي من الحب.
ومنذ ذلك اليوم خرجت من عالم الصغار واقتفيت أثر سندريلا الكبار، التي لا تشبه سندريلا الأساطير سوى في أنها الفتاة الجميلة البائسة، التي يحلم بها كل شاب ويقع أسير جمالها، فسعاد حسني هي ابنة بيئة شعبية بسيطة، تعلمت القراءة والكتابة في سن متأخرة، ولكنها تعلمت الفن منذ نعومة أظفارها، وهي ابنة للفنان والخطاط السوري محمد حسني البابا.
وكأن فيها اختلط الدم السوري بالمصري واتحد الجمال السوري بخفة الدم المصرية، فكانت التجسيد الأجمل للوحدة بين البلدين كما يقول مطلع الأغنية:
أنا واقف فوق الأهرام وقدامي بساتين الشام…
جمال السندريلا:
أجمل وجه صورته الكاميرا «الفوتوجنيك»، كثيراً ما قيل إن سعاد حسني تعشقها الكاميرا وأنها في الحياة العادية فتاة متوسطة الجمال، وربما هنا يكمن السحر، فهي قد تشبه الكثير من الفتيات ولكن لا أحد يشبهها، ولا أحد بجمال سعاد حسني مهما تشابهت التقاطيع وتقاربت الألوان. فجمالها قريب من قلوب الناس، جمال ابنة الجيران القريب والبعيد، الممكن والمستحيل. الكاميرا تعشقها لأن نظرتها تلتقط الكاميرا قبل أن تلتقطها عدسة الكاميرا. نظرة قادرة على ترجمة أي إحساس، وتعابير وجه تستنطق حتى الصمت وفتنة وغواية من غير أدوات الغواية، فهي ليست شقراء كمارلين مونرو، ولا جسدها مستفز بأنوثته كهند رستم، ولا تملك عينين ملونتين كعيني نادية لطفي وليلى فوزي، ولا هي ممشوقة القد كممثلات هوليوود.
غوايتها في لمعة العينين وبحة الصوت وجاذبية التقاطيع الشرقية، وغوايتها في شقاوتها كما شقاوتها في غوايتها. هي المرأة المنمنمة الطول والتقاطيع ولكن المكتملة الأنوثة.
على سبيل المثال في مشهد من فيلم «أميرة حبي أنا» وفي بداية أغنية «بمبي»، تقف سعاد حسني وهي مرتدية قبعتها الحمراء وشعرها الأسود ينسدل على ظهرها، ترفع عينيها بغنج نحو الأعلى وتنظر لحبيبها وهي تبتسم، أستطيع أن أجزم أن هذه النظرة هي التعريف الأمثل للأنوثة وللإغراء بلا إسفاف أو ابتذال، من يستطيع غير السندريلا أن يختصر الأنوثة بنظرة كهذه؟
موهبة السندريلا:
هي الموهبة الفطرية والعبقرية السينمائية، التي تجعلك أحياناً تنسى الفيلم ومؤلفه ومخرجه وتتذكر عبارة نطقتها السندريلا أو مشهدا قامت بتمثيله وكأنها لا تمثل، سلاستها في الأداء وتقمصها للشخصية وكأنها تنبت في روحها، ثم أداؤها لكافة الشخصيات بحرفية عالية، تجعلك تنسى النجمة سعاد حسني وتتذكر زوزو أو أميرة أو ميرفت أونوال أو وفا، التي لشدة صدقها في تجسيدهن تفوقت بهن على ذاتها…
كثيرة هي الشخصيات والمشاهد والعبارات التي لا تغيب عن ذاكرتي كلما استحضرت السندريلا، أذكر منها مثلاً: زوزو في فيلم «خللي بالك من زوزو»، راقصة الأفراح والفتاة الجامعية التي تثور على الظلم الاجتماعي والتهميش الطبقي، والصورة النمطية للراقصة في مجتمعاتنا، مانحة الحياة والمعنى لما كتبه الرائع صلاح جاهين عندما تقول: «ذنب زوزو أنها شايلة وصمة أمها وذنب أمها أنها شايلة وصمة شارع محمد علي وذنب الشارع المسكين أنه شايل وصمة زمن متخلف راح ومضى».. أو عندما تقف وهي بكامل أناقتها وفي فستانها الأسود الطويل، لتنقذ والدتها من الإهانة وتقول: «دقي يا مزيكا»…ثم ترقص بكل عنفوان الأنثى وكبريائها.
وهي التي ترقص بكل الشقاوة وخفة الظل على أغنية «يا واد يا ثقيل» الشهيرة، أو ترقص بكل فتنة الأنثى على أغنية «خللي بالك من زوزو».. هي ثلاثة مشاهد راقصة للشخصية نفسها، وفي كل مشهد وفي كل رقصة أسلوب وتقنيات وتعابير مختلفة، وكأن الجسد يتكلم مئة لغة ولغة.
زوزو ربما تشبه ميرفت بطلة فيلم «بئر الحرمان» في امتلاكها لغواية الجسد، ولكن ميرفت «الشخصية الفصامية» تمارس إغراء الجسد كنوع من التفريغ النفسي والتعويض عن حرمان والدتها العاطفي، ورغم أنها شخصية شديدة التعقيد لكن سعاد حسني جسدتها باتقانٍ شديد، حتى باتت صورة المرأة اللعوب في ذهننا على شاكلة «ميرفت» بفستانها الأحمر وماكياجها الصارخ وهي تقول لأحد ضحايا فتنتها: «ماتعرفشي ميرفت مين؟ ميرفت يلي مجننة الرجالة كلها».
ومن منا ينسى مثلاً شفيقة في فيلم «شفيقة ومتولي وهي ترقص» على أغنية «بانوا»، وكأن المذبوح يرقص من الألم، هنا لا إغراء ولا إثارة، بل رقصة معقمة إلا من الألم والخيبة، وقدرة هائلة لفنانة شاملة تستخدم كل أدواتها كممثلة وراقصة ومغنية في تجسيد شخصية «شفيقة الغازية» ونحتها في الجسد والروح.
ويبقى فيلم «المتوحشة» أهم أفلامها الاستعراضية على الإطلاق، وفيه تظهر موهبتها الاستثنائية في التمثيل والغناء والرقص، حيث السيناريو والأغاني من توقيع صلاح جاهين، في هذا الفيلم تغني وترقص سعاد حسني وهي في أواخر الثلاثينيات من عمرها، وتؤدي حركات بهلوانية كفتاة سيرك محترفة، وتصاب على إثرها بعطب في عمودها الفقري، عطب سيرافقها حتى آخر أيامها. ولكن تبقى رقصتها الأخيرة في الفيلم على أغنية «شيكا بيكا» خالدة، فرغم وجهها المطلي بقناع المهرج الأبيض، لا نستطيع كمشاهدين إلا أن نرى قناع الحزن الأسود، وكأن المهرج لا يضحك من قلبه إلا لينسى الحزن، والراقص لا يحلق حقاً إلا عندما يراقص الألم…
وبعيداً عن الرقص ولكن قريباُ من المعاناة الإنسانية، يأتي فيلم «الكرنك» عن رواية لنجيب محفوظ، وفيه تجسد سعاد حسني شخصية زينب، الفتاة ذات التنورة السوداء التي لا تنزعها طيلة الفيلم، وهي فتاة رومانسية فقيرة تدرس الطب وتحلم بتغيير واقعها البائس، مؤمنة بمبادئ ثورة ستكون هي بالنهاية أولى ضحاياها…
نظرة زينب ووجهها الشاحب المكهرب بعد حادثة اغتصاب من قبل المخابرات، يصلحان برأيي للتدريس في معاهد السينما، ففيهما تتكثف كل معاني القهر والألم..
اختمار أداء وأنوثة سعاد حسني ربما يتجسد في أفلامها أواخر الثمانينيات، ولا سيما في فيلم «موعد على العشاء» مع المخرج محمد خان، هنا نحن على موعد مع الأنوثة والحب والخيبة والموت، هنا الثنائي الأجمل سعاد حسني وأحمد زكي، حيث الفن يجري في العروق كالأوكسجين…من منا يستطيع أن ينسى دمعة نوال «سعاد حسني» أمام المرآة وهي تنهمر رغماً عنها، ومصفف الشعر شكري «أحمد زكي» يحاول تصفيف شعرها، ولكنه ضمنياً يتمنى لو يستطيع أن يمسح دمعت، أو مشهد باب الزجاج يفصل فيما بعد بين الحبيبين نوال وشكري، ونظرة نوال العاشقة تعبر الزجاج ويدها تلامس يد شكري من ورائه.. وهي نوال نفسها في آخر مشهد من الفيلم تلتهم طبق المسقعة المسممة بكل نشوة الانتقام وبكل شهوة الموت بعد مقتل حبيبها شكري، وهنا لا شيء في العينين إلا الفراغ.
الفيلم الأخير للسندريلا كان «الراعي والنساء» مع أحمد زكي «ضرتها في التمثيل» كما كانت تسميه، ومن إخراج زوجها السابق علي بدرخان، هنا سعاد حسني في يأسها وألمها المبرح مع المرض.. سعاد حسني أو «وفاء» وبقايا من جمال، وكثير من حضور لم يستطع الزمن محوه، نجح الفيلم مهرجانياً وفشل جماهيرياً…
لم يتقبل الجمهور شكل نجمته المنهكة والمريضة وقد بدأت عوارض العمر والمرض تظهر عليها، فكيف يمكن لحلم أن يشيخ؟ حتى سعاد نفسها لم تحتمل شيخوختها على الشاشة الفضية، خطفت صورتها الأخيرة وهربت إلى لندن، وتركت صورة السندريلا التي لا تشيخ ولا تمرض ولا تتألم في ذاكرة عشاقها، انتهى مفعول السحر خلعت السندريلا تاجها، وعادت إلى وجهها الأول «وجه سعاد حسني»، وقد شاخ الأن وأنهكه المرض.
عشر سنوات من الموت البطيء، لترحل بعدها تاركة وراءها أكثر من ثمانين فيلماً، وتاركة عشاقها حائرين أمام موتها أو مقتلها أو انتحارها، موت أشبه ما يكون بنهاية درامية في فيلم بوليسي طويل.. وكأنها بكل ما عاشته أمام وخلف الكاميرا، كانت تجسد المرأة بكل فتنتها وألقها وعذاباتها وانكساراتها، وكأنها كانت تمثلنا جميعاً ولم تكن تمثل علينا. ولكنها لم تعش حياتها الحقيقية إلا أمام الكاميرا، هناك عشقت وأحبت وولدت أفلاماً، وجعلتنا كجمهور نحتار في اختيار شريكها السينمائي الأمثل، فلشدة صدقها وتقمصها لأدوارها كانت تشكل الثنائي الأجمل مع كل من شاركها أفلامها، من حسين فهمي وحسن يوسف إلى نور الشريف وأحمد زكي…وكأنها المرأة المفصلة على مقاس حلم أي رجل. في النهاية رحلت السندريلا ولكنها لم ترحل عن قلبي ولم تنتهِ حكايتي معها، في غرفتي علقت صورتها وهي غافية، أمامها أمر كل صباح على رؤوس أصابعي، خائفة ربما من أن تصحو من سباتها العميق، ولتبقى أسطورة من أساطير طفولتي حية وإن نامت، فلها أدين بحبي للسينما…
يكفي أحياناً أن أدير الموسيقى على أغنية «يا واد يا ثقيل»، حتى تعود عقارب الزمن إلى الوراء، وأعود أنا الطفلة الصغيرة بفستانها الأحمر، والسندريلا تمسك يدها لتعلمها أبجدية الرقص والحب والحياة.
إلى رانيا اسطفان ..
تبدأ قصتي معها عندما رأيتها أول مرة وأنا طفلة صغيرة في فيلم «خللي بالك من زوزو»، لا أذكر التاريخ ولا مكان العرض، كل ما أذكره أنه كان يوماً مشمساً وكنت أرتدي ثوبي الأحمر الجديد، كما كانت العادة عند الذهاب إلى السينما في سبعينيات القرن الماضي، ربما كان طقس الأناقة هذا، هو الشيء الوحيد الذي كنت أستسيغه في الصالة المعتمة، والتي لم أكن رأيت فيها بعد إلا أفلام المطاردات ورعاة البقر.
ما زلت أذكر لحظة ظهور سعاد حسني في الفيلم، فقد رأيت أجمل وجه في حياتي، رغم أنني لصغر سني كنت عاجزة عن فهم الحوار والحبكة السينمائية داخله، ولكنني شعرت وكأنني أليس في بلاد العجائب، غادرت السينما حينها طفلة كما دخلتها، ولكن شيئاً ما تغير في داخلي:
صارت للموسيقى إشارات يترجمها الجسد رقصات، وصارت للغة كلمة جديدة وللقلب إحساس مختلف اسمه «الحب»، صحيح أن القلب الصغير لم يكن قادراً بعد على إدراك ماهيته، ولكنه كان يبدو إحساساً هائلاً لمجرد أن زوزو ترقص وتغني وتتألم وتنتشي من الحب.
ومنذ ذلك اليوم خرجت من عالم الصغار واقتفيت أثر سندريلا الكبار، التي لا تشبه سندريلا الأساطير سوى في أنها الفتاة الجميلة البائسة، التي يحلم بها كل شاب ويقع أسير جمالها، فسعاد حسني هي ابنة بيئة شعبية بسيطة، تعلمت القراءة والكتابة في سن متأخرة، ولكنها تعلمت الفن منذ نعومة أظفارها، وهي ابنة للفنان والخطاط السوري محمد حسني البابا.
وكأن فيها اختلط الدم السوري بالمصري واتحد الجمال السوري بخفة الدم المصرية، فكانت التجسيد الأجمل للوحدة بين البلدين كما يقول مطلع الأغنية:
أنا واقف فوق الأهرام وقدامي بساتين الشام…
جمال السندريلا:
أجمل وجه صورته الكاميرا «الفوتوجنيك»، كثيراً ما قيل إن سعاد حسني تعشقها الكاميرا وأنها في الحياة العادية فتاة متوسطة الجمال، وربما هنا يكمن السحر، فهي قد تشبه الكثير من الفتيات ولكن لا أحد يشبهها، ولا أحد بجمال سعاد حسني مهما تشابهت التقاطيع وتقاربت الألوان. فجمالها قريب من قلوب الناس، جمال ابنة الجيران القريب والبعيد، الممكن والمستحيل. الكاميرا تعشقها لأن نظرتها تلتقط الكاميرا قبل أن تلتقطها عدسة الكاميرا. نظرة قادرة على ترجمة أي إحساس، وتعابير وجه تستنطق حتى الصمت وفتنة وغواية من غير أدوات الغواية، فهي ليست شقراء كمارلين مونرو، ولا جسدها مستفز بأنوثته كهند رستم، ولا تملك عينين ملونتين كعيني نادية لطفي وليلى فوزي، ولا هي ممشوقة القد كممثلات هوليوود.
غوايتها في لمعة العينين وبحة الصوت وجاذبية التقاطيع الشرقية، وغوايتها في شقاوتها كما شقاوتها في غوايتها. هي المرأة المنمنمة الطول والتقاطيع ولكن المكتملة الأنوثة.
على سبيل المثال في مشهد من فيلم «أميرة حبي أنا» وفي بداية أغنية «بمبي»، تقف سعاد حسني وهي مرتدية قبعتها الحمراء وشعرها الأسود ينسدل على ظهرها، ترفع عينيها بغنج نحو الأعلى وتنظر لحبيبها وهي تبتسم، أستطيع أن أجزم أن هذه النظرة هي التعريف الأمثل للأنوثة وللإغراء بلا إسفاف أو ابتذال، من يستطيع غير السندريلا أن يختصر الأنوثة بنظرة كهذه؟
موهبة السندريلا:
هي الموهبة الفطرية والعبقرية السينمائية، التي تجعلك أحياناً تنسى الفيلم ومؤلفه ومخرجه وتتذكر عبارة نطقتها السندريلا أو مشهدا قامت بتمثيله وكأنها لا تمثل، سلاستها في الأداء وتقمصها للشخصية وكأنها تنبت في روحها، ثم أداؤها لكافة الشخصيات بحرفية عالية، تجعلك تنسى النجمة سعاد حسني وتتذكر زوزو أو أميرة أو ميرفت أونوال أو وفا، التي لشدة صدقها في تجسيدهن تفوقت بهن على ذاتها…
كثيرة هي الشخصيات والمشاهد والعبارات التي لا تغيب عن ذاكرتي كلما استحضرت السندريلا، أذكر منها مثلاً: زوزو في فيلم «خللي بالك من زوزو»، راقصة الأفراح والفتاة الجامعية التي تثور على الظلم الاجتماعي والتهميش الطبقي، والصورة النمطية للراقصة في مجتمعاتنا، مانحة الحياة والمعنى لما كتبه الرائع صلاح جاهين عندما تقول: «ذنب زوزو أنها شايلة وصمة أمها وذنب أمها أنها شايلة وصمة شارع محمد علي وذنب الشارع المسكين أنه شايل وصمة زمن متخلف راح ومضى».. أو عندما تقف وهي بكامل أناقتها وفي فستانها الأسود الطويل، لتنقذ والدتها من الإهانة وتقول: «دقي يا مزيكا»…ثم ترقص بكل عنفوان الأنثى وكبريائها.
وهي التي ترقص بكل الشقاوة وخفة الظل على أغنية «يا واد يا ثقيل» الشهيرة، أو ترقص بكل فتنة الأنثى على أغنية «خللي بالك من زوزو».. هي ثلاثة مشاهد راقصة للشخصية نفسها، وفي كل مشهد وفي كل رقصة أسلوب وتقنيات وتعابير مختلفة، وكأن الجسد يتكلم مئة لغة ولغة.
زوزو ربما تشبه ميرفت بطلة فيلم «بئر الحرمان» في امتلاكها لغواية الجسد، ولكن ميرفت «الشخصية الفصامية» تمارس إغراء الجسد كنوع من التفريغ النفسي والتعويض عن حرمان والدتها العاطفي، ورغم أنها شخصية شديدة التعقيد لكن سعاد حسني جسدتها باتقانٍ شديد، حتى باتت صورة المرأة اللعوب في ذهننا على شاكلة «ميرفت» بفستانها الأحمر وماكياجها الصارخ وهي تقول لأحد ضحايا فتنتها: «ماتعرفشي ميرفت مين؟ ميرفت يلي مجننة الرجالة كلها».
ومن منا ينسى مثلاً شفيقة في فيلم «شفيقة ومتولي وهي ترقص» على أغنية «بانوا»، وكأن المذبوح يرقص من الألم، هنا لا إغراء ولا إثارة، بل رقصة معقمة إلا من الألم والخيبة، وقدرة هائلة لفنانة شاملة تستخدم كل أدواتها كممثلة وراقصة ومغنية في تجسيد شخصية «شفيقة الغازية» ونحتها في الجسد والروح.
ويبقى فيلم «المتوحشة» أهم أفلامها الاستعراضية على الإطلاق، وفيه تظهر موهبتها الاستثنائية في التمثيل والغناء والرقص، حيث السيناريو والأغاني من توقيع صلاح جاهين، في هذا الفيلم تغني وترقص سعاد حسني وهي في أواخر الثلاثينيات من عمرها، وتؤدي حركات بهلوانية كفتاة سيرك محترفة، وتصاب على إثرها بعطب في عمودها الفقري، عطب سيرافقها حتى آخر أيامها. ولكن تبقى رقصتها الأخيرة في الفيلم على أغنية «شيكا بيكا» خالدة، فرغم وجهها المطلي بقناع المهرج الأبيض، لا نستطيع كمشاهدين إلا أن نرى قناع الحزن الأسود، وكأن المهرج لا يضحك من قلبه إلا لينسى الحزن، والراقص لا يحلق حقاً إلا عندما يراقص الألم…
وبعيداً عن الرقص ولكن قريباُ من المعاناة الإنسانية، يأتي فيلم «الكرنك» عن رواية لنجيب محفوظ، وفيه تجسد سعاد حسني شخصية زينب، الفتاة ذات التنورة السوداء التي لا تنزعها طيلة الفيلم، وهي فتاة رومانسية فقيرة تدرس الطب وتحلم بتغيير واقعها البائس، مؤمنة بمبادئ ثورة ستكون هي بالنهاية أولى ضحاياها…
نظرة زينب ووجهها الشاحب المكهرب بعد حادثة اغتصاب من قبل المخابرات، يصلحان برأيي للتدريس في معاهد السينما، ففيهما تتكثف كل معاني القهر والألم..
اختمار أداء وأنوثة سعاد حسني ربما يتجسد في أفلامها أواخر الثمانينيات، ولا سيما في فيلم «موعد على العشاء» مع المخرج محمد خان، هنا نحن على موعد مع الأنوثة والحب والخيبة والموت، هنا الثنائي الأجمل سعاد حسني وأحمد زكي، حيث الفن يجري في العروق كالأوكسجين…من منا يستطيع أن ينسى دمعة نوال «سعاد حسني» أمام المرآة وهي تنهمر رغماً عنها، ومصفف الشعر شكري «أحمد زكي» يحاول تصفيف شعرها، ولكنه ضمنياً يتمنى لو يستطيع أن يمسح دمعت، أو مشهد باب الزجاج يفصل فيما بعد بين الحبيبين نوال وشكري، ونظرة نوال العاشقة تعبر الزجاج ويدها تلامس يد شكري من ورائه.. وهي نوال نفسها في آخر مشهد من الفيلم تلتهم طبق المسقعة المسممة بكل نشوة الانتقام وبكل شهوة الموت بعد مقتل حبيبها شكري، وهنا لا شيء في العينين إلا الفراغ.
الفيلم الأخير للسندريلا كان «الراعي والنساء» مع أحمد زكي «ضرتها في التمثيل» كما كانت تسميه، ومن إخراج زوجها السابق علي بدرخان، هنا سعاد حسني في يأسها وألمها المبرح مع المرض.. سعاد حسني أو «وفاء» وبقايا من جمال، وكثير من حضور لم يستطع الزمن محوه، نجح الفيلم مهرجانياً وفشل جماهيرياً…
لم يتقبل الجمهور شكل نجمته المنهكة والمريضة وقد بدأت عوارض العمر والمرض تظهر عليها، فكيف يمكن لحلم أن يشيخ؟ حتى سعاد نفسها لم تحتمل شيخوختها على الشاشة الفضية، خطفت صورتها الأخيرة وهربت إلى لندن، وتركت صورة السندريلا التي لا تشيخ ولا تمرض ولا تتألم في ذاكرة عشاقها، انتهى مفعول السحر خلعت السندريلا تاجها، وعادت إلى وجهها الأول «وجه سعاد حسني»، وقد شاخ الأن وأنهكه المرض.
عشر سنوات من الموت البطيء، لترحل بعدها تاركة وراءها أكثر من ثمانين فيلماً، وتاركة عشاقها حائرين أمام موتها أو مقتلها أو انتحارها، موت أشبه ما يكون بنهاية درامية في فيلم بوليسي طويل.. وكأنها بكل ما عاشته أمام وخلف الكاميرا، كانت تجسد المرأة بكل فتنتها وألقها وعذاباتها وانكساراتها، وكأنها كانت تمثلنا جميعاً ولم تكن تمثل علينا. ولكنها لم تعش حياتها الحقيقية إلا أمام الكاميرا، هناك عشقت وأحبت وولدت أفلاماً، وجعلتنا كجمهور نحتار في اختيار شريكها السينمائي الأمثل، فلشدة صدقها وتقمصها لأدوارها كانت تشكل الثنائي الأجمل مع كل من شاركها أفلامها، من حسين فهمي وحسن يوسف إلى نور الشريف وأحمد زكي…وكأنها المرأة المفصلة على مقاس حلم أي رجل. في النهاية رحلت السندريلا ولكنها لم ترحل عن قلبي ولم تنتهِ حكايتي معها، في غرفتي علقت صورتها وهي غافية، أمامها أمر كل صباح على رؤوس أصابعي، خائفة ربما من أن تصحو من سباتها العميق، ولتبقى أسطورة من أساطير طفولتي حية وإن نامت، فلها أدين بحبي للسينما…
يكفي أحياناً أن أدير الموسيقى على أغنية «يا واد يا ثقيل»، حتى تعود عقارب الزمن إلى الوراء، وأعود أنا الطفلة الصغيرة بفستانها الأحمر، والسندريلا تمسك يدها لتعلمها أبجدية الرقص والحب والحياة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.