السيسي يتابع مستجدات تنفيذ مسابقة "الأصوات" لاكتشاف الأفضل في تلاوة القرآن والابتهالات    "معًا بالوعي نحميها".. "أوقاف شمال سيناء" تشارك في ندوة توعوية    لأول مرة في تاريخها.. شبكة الكهرباء تستوعب أحمالا بلغت 39400 ميجاوات    رئيس الوزراء يلتقي رئيس شركة شل العالمية لأنشطة الغاز المتكاملة    الاثنين 28 يوليو 2025.. الذهب يتراجع 15 جنيها إضافيا وعيار 21 يسجل 4600 جنيه    السيسي: هناك كميات ضخمة من المساعدات جاهزة لدخول غزة والعائق الوحيد هو إغلاق المعبر من الجانب الفلسطيني    لليوم الثاني على التوالي.. محافظ شمال سيناء يتابع إدخال الشاحنات إلى قطاع غزة    مخالفا القانون.. نتنياهو يتولى مهام وزراء مستقيلين    مسئول أوروبي: اتفاق تجاري جديد يسمح بدخول السيارات الأمريكية إلى الاتحاد الأوروبي بدون رسوم جمركية    موسكو تبدأ رحلات مباشرة إلى كوريا الشمالية وسط تراجع الخيارات أمام السياح الروس    مصر في المجموعة الثانية ببطولة كأس الخليج للشباب تحت 20 عامًا    مران خفيف للاعبي المصري غير المشاركين أمام الترجي.. وتأهيل واستشفاء للمجموعة الأساسية    البوركينابي إيريك تراورى ينضم لمعسكر الإسماعيلي فى برج العرب    موعد إعلان النصر السعودي عن صفقة جواو فيليكس    عمار محمد يتوج بذهبية الكونغ فو فى دورة الألعاب الأفريقية للمدارس بالجزائر    فيديو.. الأرصاد تطمئن المواطنين: انخفاض طفيف في الحرارة غدا    اندلاع حريق فى أحد المطاعم بمنطقة المنتزه شرق الإسكندرية    بالأسماء والمجموع.. أوائل الثانوية العامة علمي رياضة في جنوب سيناء    مصرع شخص صدمته سيارة تقودها طفلة وشقيقتها بإمبابة    شمس الكويتية عن أغنيتها الجديدة «طز»: كلماتها تعبر عني.. وأوجهها لكل حاسد    الرئيس السيسي للمصريين: لا يمكن نقوم بدور سلبي تجاه أشقائنا الفلسطينيين.. إحنا دورنا محترم وشريف    الأعلى للإعلام: حفظ شكوى نقابة المهن الموسيقية ضد طارق الشناوي وخالد أبو بكر ومفيدة شيحة وسهير جودة    وزير الصحة يبحث سُبل استدامة تمويل التأمين الصحي الشامل ومقترحات تعديل المساهمة التكافلية    ضعف المياه بشرق وغرب بسوهاج غدا لأعمال الاحلال والتجديد بالمحطة السطحية    فريق جراحة الأورام بالسنبلاوين ينجح فى استئصال كيس ضخم من حوض مريضة    مهرجان الإسكندرية السينمائي يكرم فردوس عبد الحميد بدورته ال 41    التنظيم والإدارة يتيح الاستعلام عن نتيجة تظلمات مسابقة ألف إمام وخطيب    لمواجهة الكثافة الطلابية.. فصل تعليمي مبتكر لرياض الأطفال بالمنوفية (صور)    حملات الدائري الإقليمي تضبط 18 سائقا متعاطيا للمخدرات و1000 مخالفة مرورية    الفنان محمد رياض يودع السودانيين فى محطة مصر قبل عودتهم للسودان    ينطلق غدا.. تفاصيل الملتقى 22 لشباب المحافظات الحدودية ضمن مشروع "أهل مصر"    وزير الأوقاف: وثِّقوا علاقتكم بأهل الصدق فى المعاملة مع الله    ديمقراطية العصابة..انتخابات مجلس شيوخ السيسي المقاعد موزعة قبل التصويت وأحزاب المعارضة تشارك فى التمثيلية    نائب رئيس الوزراء : تدريب مجانى لتأهيل سائقى الأتوبيسات والنقل الثقيل وتوفير فرص عمل بالشركات    وزير الصحة: مصر الأولى عالميا في الحصول على التصنيف الذهبي بالقضاء على فيروس سي    مدبولي يستعرض استجابات منظومة الشكاوى الحكومية لعدد من الحالات بقطاعات مختلفة    المجلس التنفيذي لمحافظة مطروح يعقد اجتماعه الرابع للعام 2025 برئاسة اللواء خالد شعيب    الشرطة التايلاندية: 4 قتلى في إطلاق نار عشوائي بالعاصمة بانكوك    فرقة الآلات الشعبية وكورال السويس يتألقان في رابع أيام "صيف السويس"    الحوثيون يهددون باستهداف السفن المرتبطة بموانئ إسرائيلية    السّم في العسل.. أمين الفتوى يحذر من "تطبيقات المواعدة" ولو بهدف الحصول على زواج    حكم استمرار الورثة في دفع ثمن شقة بالتقسيط بعد وفاة صاحبها.. المفتي يوضح    الزمالك يدرس التعاقد مع صفقة رومانية.. وعائق وحيد يمنع حسمها    كريم رمزي: فيريرا استقر على هذا الثلاثي في تشكيل الزمالك بالموسم الجديد    محافظ المنيا: إزالة 744 حالة تعدٍ على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة    «الصحة» تحذر من الإجهاد الحراري وضربات الشمس وتوجه نصائح وقائية    إطلاق حملة لتعقيم وتطعيم الكلاب الضالة بمدينة العاشر من رمضان (صور)    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    أمين الفتوى: الصلاة بالبنطلون أو "الفانلة الداخلية" صحيحة بشرط ستر العورة    رئيس جامعة القاهرة يشهد تخريج الدفعة 97 من الطلاب الوافدين بكلية طب الأسنان    متحدثة الهلال الأحمر الفلسطيني: 133 ضحية للمجاعة فى غزة بينهم 87 طفلًا    وكيل الأمم المتحدة: الأزمة الإنسانية في غزة مدمرة    في مستهل زيارته لنيويورك.. وزير الخارجية يلتقي بالجالية المصرية    توفير السيولة وخلق كوادر شابة مفتاح نهوض شركات المقاولات التابعة للقابضة للتشييد    «تغير المناخ» بالزراعة يزف بشرى سارة بشأن موعد انكسار القبة الحرارية    هدى المفتي تحسم الجدل وترد على أنباء ارتباطها ب أحمد مالك    الكرتي يترك معسكر بيراميدز ويعود للمغرب    السيطرة على حريق بشقة سكنية في البلينا وإصابة 3 بحالات اختناق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السندريلا في قلبي : لكل منا قصته مع سعاد حسني !
نشر في صوت البلد يوم 10 - 09 - 2016


إلى رانيا اسطفان ..
تبدأ قصتي معها عندما رأيتها أول مرة وأنا طفلة صغيرة في فيلم «خللي بالك من زوزو»، لا أذكر التاريخ ولا مكان العرض، كل ما أذكره أنه كان يوماً مشمساً وكنت أرتدي ثوبي الأحمر الجديد، كما كانت العادة عند الذهاب إلى السينما في سبعينيات القرن الماضي، ربما كان طقس الأناقة هذا، هو الشيء الوحيد الذي كنت أستسيغه في الصالة المعتمة، والتي لم أكن رأيت فيها بعد إلا أفلام المطاردات ورعاة البقر.
ما زلت أذكر لحظة ظهور سعاد حسني في الفيلم، فقد رأيت أجمل وجه في حياتي، رغم أنني لصغر سني كنت عاجزة عن فهم الحوار والحبكة السينمائية داخله، ولكنني شعرت وكأنني أليس في بلاد العجائب، غادرت السينما حينها طفلة كما دخلتها، ولكن شيئاً ما تغير في داخلي:
صارت للموسيقى إشارات يترجمها الجسد رقصات، وصارت للغة كلمة جديدة وللقلب إحساس مختلف اسمه «الحب»، صحيح أن القلب الصغير لم يكن قادراً بعد على إدراك ماهيته، ولكنه كان يبدو إحساساً هائلاً لمجرد أن زوزو ترقص وتغني وتتألم وتنتشي من الحب.
ومنذ ذلك اليوم خرجت من عالم الصغار واقتفيت أثر سندريلا الكبار، التي لا تشبه سندريلا الأساطير سوى في أنها الفتاة الجميلة البائسة، التي يحلم بها كل شاب ويقع أسير جمالها، فسعاد حسني هي ابنة بيئة شعبية بسيطة، تعلمت القراءة والكتابة في سن متأخرة، ولكنها تعلمت الفن منذ نعومة أظفارها، وهي ابنة للفنان والخطاط السوري محمد حسني البابا.
وكأن فيها اختلط الدم السوري بالمصري واتحد الجمال السوري بخفة الدم المصرية، فكانت التجسيد الأجمل للوحدة بين البلدين كما يقول مطلع الأغنية:
أنا واقف فوق الأهرام وقدامي بساتين الشام…
جمال السندريلا:
أجمل وجه صورته الكاميرا «الفوتوجنيك»، كثيراً ما قيل إن سعاد حسني تعشقها الكاميرا وأنها في الحياة العادية فتاة متوسطة الجمال، وربما هنا يكمن السحر، فهي قد تشبه الكثير من الفتيات ولكن لا أحد يشبهها، ولا أحد بجمال سعاد حسني مهما تشابهت التقاطيع وتقاربت الألوان. فجمالها قريب من قلوب الناس، جمال ابنة الجيران القريب والبعيد، الممكن والمستحيل. الكاميرا تعشقها لأن نظرتها تلتقط الكاميرا قبل أن تلتقطها عدسة الكاميرا. نظرة قادرة على ترجمة أي إحساس، وتعابير وجه تستنطق حتى الصمت وفتنة وغواية من غير أدوات الغواية، فهي ليست شقراء كمارلين مونرو، ولا جسدها مستفز بأنوثته كهند رستم، ولا تملك عينين ملونتين كعيني نادية لطفي وليلى فوزي، ولا هي ممشوقة القد كممثلات هوليوود.
غوايتها في لمعة العينين وبحة الصوت وجاذبية التقاطيع الشرقية، وغوايتها في شقاوتها كما شقاوتها في غوايتها. هي المرأة المنمنمة الطول والتقاطيع ولكن المكتملة الأنوثة.
على سبيل المثال في مشهد من فيلم «أميرة حبي أنا» وفي بداية أغنية «بمبي»، تقف سعاد حسني وهي مرتدية قبعتها الحمراء وشعرها الأسود ينسدل على ظهرها، ترفع عينيها بغنج نحو الأعلى وتنظر لحبيبها وهي تبتسم، أستطيع أن أجزم أن هذه النظرة هي التعريف الأمثل للأنوثة وللإغراء بلا إسفاف أو ابتذال، من يستطيع غير السندريلا أن يختصر الأنوثة بنظرة كهذه؟
موهبة السندريلا:
هي الموهبة الفطرية والعبقرية السينمائية، التي تجعلك أحياناً تنسى الفيلم ومؤلفه ومخرجه وتتذكر عبارة نطقتها السندريلا أو مشهدا قامت بتمثيله وكأنها لا تمثل، سلاستها في الأداء وتقمصها للشخصية وكأنها تنبت في روحها، ثم أداؤها لكافة الشخصيات بحرفية عالية، تجعلك تنسى النجمة سعاد حسني وتتذكر زوزو أو أميرة أو ميرفت أونوال أو وفا، التي لشدة صدقها في تجسيدهن تفوقت بهن على ذاتها…
كثيرة هي الشخصيات والمشاهد والعبارات التي لا تغيب عن ذاكرتي كلما استحضرت السندريلا، أذكر منها مثلاً: زوزو في فيلم «خللي بالك من زوزو»، راقصة الأفراح والفتاة الجامعية التي تثور على الظلم الاجتماعي والتهميش الطبقي، والصورة النمطية للراقصة في مجتمعاتنا، مانحة الحياة والمعنى لما كتبه الرائع صلاح جاهين عندما تقول: «ذنب زوزو أنها شايلة وصمة أمها وذنب أمها أنها شايلة وصمة شارع محمد علي وذنب الشارع المسكين أنه شايل وصمة زمن متخلف راح ومضى».. أو عندما تقف وهي بكامل أناقتها وفي فستانها الأسود الطويل، لتنقذ والدتها من الإهانة وتقول: «دقي يا مزيكا»…ثم ترقص بكل عنفوان الأنثى وكبريائها.
وهي التي ترقص بكل الشقاوة وخفة الظل على أغنية «يا واد يا ثقيل» الشهيرة، أو ترقص بكل فتنة الأنثى على أغنية «خللي بالك من زوزو».. هي ثلاثة مشاهد راقصة للشخصية نفسها، وفي كل مشهد وفي كل رقصة أسلوب وتقنيات وتعابير مختلفة، وكأن الجسد يتكلم مئة لغة ولغة.
زوزو ربما تشبه ميرفت بطلة فيلم «بئر الحرمان» في امتلاكها لغواية الجسد، ولكن ميرفت «الشخصية الفصامية» تمارس إغراء الجسد كنوع من التفريغ النفسي والتعويض عن حرمان والدتها العاطفي، ورغم أنها شخصية شديدة التعقيد لكن سعاد حسني جسدتها باتقانٍ شديد، حتى باتت صورة المرأة اللعوب في ذهننا على شاكلة «ميرفت» بفستانها الأحمر وماكياجها الصارخ وهي تقول لأحد ضحايا فتنتها: «ماتعرفشي ميرفت مين؟ ميرفت يلي مجننة الرجالة كلها».
ومن منا ينسى مثلاً شفيقة في فيلم «شفيقة ومتولي وهي ترقص» على أغنية «بانوا»، وكأن المذبوح يرقص من الألم، هنا لا إغراء ولا إثارة، بل رقصة معقمة إلا من الألم والخيبة، وقدرة هائلة لفنانة شاملة تستخدم كل أدواتها كممثلة وراقصة ومغنية في تجسيد شخصية «شفيقة الغازية» ونحتها في الجسد والروح.
ويبقى فيلم «المتوحشة» أهم أفلامها الاستعراضية على الإطلاق، وفيه تظهر موهبتها الاستثنائية في التمثيل والغناء والرقص، حيث السيناريو والأغاني من توقيع صلاح جاهين، في هذا الفيلم تغني وترقص سعاد حسني وهي في أواخر الثلاثينيات من عمرها، وتؤدي حركات بهلوانية كفتاة سيرك محترفة، وتصاب على إثرها بعطب في عمودها الفقري، عطب سيرافقها حتى آخر أيامها. ولكن تبقى رقصتها الأخيرة في الفيلم على أغنية «شيكا بيكا» خالدة، فرغم وجهها المطلي بقناع المهرج الأبيض، لا نستطيع كمشاهدين إلا أن نرى قناع الحزن الأسود، وكأن المهرج لا يضحك من قلبه إلا لينسى الحزن، والراقص لا يحلق حقاً إلا عندما يراقص الألم…
وبعيداً عن الرقص ولكن قريباُ من المعاناة الإنسانية، يأتي فيلم «الكرنك» عن رواية لنجيب محفوظ، وفيه تجسد سعاد حسني شخصية زينب، الفتاة ذات التنورة السوداء التي لا تنزعها طيلة الفيلم، وهي فتاة رومانسية فقيرة تدرس الطب وتحلم بتغيير واقعها البائس، مؤمنة بمبادئ ثورة ستكون هي بالنهاية أولى ضحاياها…
نظرة زينب ووجهها الشاحب المكهرب بعد حادثة اغتصاب من قبل المخابرات، يصلحان برأيي للتدريس في معاهد السينما، ففيهما تتكثف كل معاني القهر والألم..
اختمار أداء وأنوثة سعاد حسني ربما يتجسد في أفلامها أواخر الثمانينيات، ولا سيما في فيلم «موعد على العشاء» مع المخرج محمد خان، هنا نحن على موعد مع الأنوثة والحب والخيبة والموت، هنا الثنائي الأجمل سعاد حسني وأحمد زكي، حيث الفن يجري في العروق كالأوكسجين…من منا يستطيع أن ينسى دمعة نوال «سعاد حسني» أمام المرآة وهي تنهمر رغماً عنها، ومصفف الشعر شكري «أحمد زكي» يحاول تصفيف شعرها، ولكنه ضمنياً يتمنى لو يستطيع أن يمسح دمعت، أو مشهد باب الزجاج يفصل فيما بعد بين الحبيبين نوال وشكري، ونظرة نوال العاشقة تعبر الزجاج ويدها تلامس يد شكري من ورائه.. وهي نوال نفسها في آخر مشهد من الفيلم تلتهم طبق المسقعة المسممة بكل نشوة الانتقام وبكل شهوة الموت بعد مقتل حبيبها شكري، وهنا لا شيء في العينين إلا الفراغ.
الفيلم الأخير للسندريلا كان «الراعي والنساء» مع أحمد زكي «ضرتها في التمثيل» كما كانت تسميه، ومن إخراج زوجها السابق علي بدرخان، هنا سعاد حسني في يأسها وألمها المبرح مع المرض.. سعاد حسني أو «وفاء» وبقايا من جمال، وكثير من حضور لم يستطع الزمن محوه، نجح الفيلم مهرجانياً وفشل جماهيرياً…
لم يتقبل الجمهور شكل نجمته المنهكة والمريضة وقد بدأت عوارض العمر والمرض تظهر عليها، فكيف يمكن لحلم أن يشيخ؟ حتى سعاد نفسها لم تحتمل شيخوختها على الشاشة الفضية، خطفت صورتها الأخيرة وهربت إلى لندن، وتركت صورة السندريلا التي لا تشيخ ولا تمرض ولا تتألم في ذاكرة عشاقها، انتهى مفعول السحر خلعت السندريلا تاجها، وعادت إلى وجهها الأول «وجه سعاد حسني»، وقد شاخ الأن وأنهكه المرض.
عشر سنوات من الموت البطيء، لترحل بعدها تاركة وراءها أكثر من ثمانين فيلماً، وتاركة عشاقها حائرين أمام موتها أو مقتلها أو انتحارها، موت أشبه ما يكون بنهاية درامية في فيلم بوليسي طويل.. وكأنها بكل ما عاشته أمام وخلف الكاميرا، كانت تجسد المرأة بكل فتنتها وألقها وعذاباتها وانكساراتها، وكأنها كانت تمثلنا جميعاً ولم تكن تمثل علينا. ولكنها لم تعش حياتها الحقيقية إلا أمام الكاميرا، هناك عشقت وأحبت وولدت أفلاماً، وجعلتنا كجمهور نحتار في اختيار شريكها السينمائي الأمثل، فلشدة صدقها وتقمصها لأدوارها كانت تشكل الثنائي الأجمل مع كل من شاركها أفلامها، من حسين فهمي وحسن يوسف إلى نور الشريف وأحمد زكي…وكأنها المرأة المفصلة على مقاس حلم أي رجل. في النهاية رحلت السندريلا ولكنها لم ترحل عن قلبي ولم تنتهِ حكايتي معها، في غرفتي علقت صورتها وهي غافية، أمامها أمر كل صباح على رؤوس أصابعي، خائفة ربما من أن تصحو من سباتها العميق، ولتبقى أسطورة من أساطير طفولتي حية وإن نامت، فلها أدين بحبي للسينما…
يكفي أحياناً أن أدير الموسيقى على أغنية «يا واد يا ثقيل»، حتى تعود عقارب الزمن إلى الوراء، وأعود أنا الطفلة الصغيرة بفستانها الأحمر، والسندريلا تمسك يدها لتعلمها أبجدية الرقص والحب والحياة.
إلى رانيا اسطفان ..
تبدأ قصتي معها عندما رأيتها أول مرة وأنا طفلة صغيرة في فيلم «خللي بالك من زوزو»، لا أذكر التاريخ ولا مكان العرض، كل ما أذكره أنه كان يوماً مشمساً وكنت أرتدي ثوبي الأحمر الجديد، كما كانت العادة عند الذهاب إلى السينما في سبعينيات القرن الماضي، ربما كان طقس الأناقة هذا، هو الشيء الوحيد الذي كنت أستسيغه في الصالة المعتمة، والتي لم أكن رأيت فيها بعد إلا أفلام المطاردات ورعاة البقر.
ما زلت أذكر لحظة ظهور سعاد حسني في الفيلم، فقد رأيت أجمل وجه في حياتي، رغم أنني لصغر سني كنت عاجزة عن فهم الحوار والحبكة السينمائية داخله، ولكنني شعرت وكأنني أليس في بلاد العجائب، غادرت السينما حينها طفلة كما دخلتها، ولكن شيئاً ما تغير في داخلي:
صارت للموسيقى إشارات يترجمها الجسد رقصات، وصارت للغة كلمة جديدة وللقلب إحساس مختلف اسمه «الحب»، صحيح أن القلب الصغير لم يكن قادراً بعد على إدراك ماهيته، ولكنه كان يبدو إحساساً هائلاً لمجرد أن زوزو ترقص وتغني وتتألم وتنتشي من الحب.
ومنذ ذلك اليوم خرجت من عالم الصغار واقتفيت أثر سندريلا الكبار، التي لا تشبه سندريلا الأساطير سوى في أنها الفتاة الجميلة البائسة، التي يحلم بها كل شاب ويقع أسير جمالها، فسعاد حسني هي ابنة بيئة شعبية بسيطة، تعلمت القراءة والكتابة في سن متأخرة، ولكنها تعلمت الفن منذ نعومة أظفارها، وهي ابنة للفنان والخطاط السوري محمد حسني البابا.
وكأن فيها اختلط الدم السوري بالمصري واتحد الجمال السوري بخفة الدم المصرية، فكانت التجسيد الأجمل للوحدة بين البلدين كما يقول مطلع الأغنية:
أنا واقف فوق الأهرام وقدامي بساتين الشام…
جمال السندريلا:
أجمل وجه صورته الكاميرا «الفوتوجنيك»، كثيراً ما قيل إن سعاد حسني تعشقها الكاميرا وأنها في الحياة العادية فتاة متوسطة الجمال، وربما هنا يكمن السحر، فهي قد تشبه الكثير من الفتيات ولكن لا أحد يشبهها، ولا أحد بجمال سعاد حسني مهما تشابهت التقاطيع وتقاربت الألوان. فجمالها قريب من قلوب الناس، جمال ابنة الجيران القريب والبعيد، الممكن والمستحيل. الكاميرا تعشقها لأن نظرتها تلتقط الكاميرا قبل أن تلتقطها عدسة الكاميرا. نظرة قادرة على ترجمة أي إحساس، وتعابير وجه تستنطق حتى الصمت وفتنة وغواية من غير أدوات الغواية، فهي ليست شقراء كمارلين مونرو، ولا جسدها مستفز بأنوثته كهند رستم، ولا تملك عينين ملونتين كعيني نادية لطفي وليلى فوزي، ولا هي ممشوقة القد كممثلات هوليوود.
غوايتها في لمعة العينين وبحة الصوت وجاذبية التقاطيع الشرقية، وغوايتها في شقاوتها كما شقاوتها في غوايتها. هي المرأة المنمنمة الطول والتقاطيع ولكن المكتملة الأنوثة.
على سبيل المثال في مشهد من فيلم «أميرة حبي أنا» وفي بداية أغنية «بمبي»، تقف سعاد حسني وهي مرتدية قبعتها الحمراء وشعرها الأسود ينسدل على ظهرها، ترفع عينيها بغنج نحو الأعلى وتنظر لحبيبها وهي تبتسم، أستطيع أن أجزم أن هذه النظرة هي التعريف الأمثل للأنوثة وللإغراء بلا إسفاف أو ابتذال، من يستطيع غير السندريلا أن يختصر الأنوثة بنظرة كهذه؟
موهبة السندريلا:
هي الموهبة الفطرية والعبقرية السينمائية، التي تجعلك أحياناً تنسى الفيلم ومؤلفه ومخرجه وتتذكر عبارة نطقتها السندريلا أو مشهدا قامت بتمثيله وكأنها لا تمثل، سلاستها في الأداء وتقمصها للشخصية وكأنها تنبت في روحها، ثم أداؤها لكافة الشخصيات بحرفية عالية، تجعلك تنسى النجمة سعاد حسني وتتذكر زوزو أو أميرة أو ميرفت أونوال أو وفا، التي لشدة صدقها في تجسيدهن تفوقت بهن على ذاتها…
كثيرة هي الشخصيات والمشاهد والعبارات التي لا تغيب عن ذاكرتي كلما استحضرت السندريلا، أذكر منها مثلاً: زوزو في فيلم «خللي بالك من زوزو»، راقصة الأفراح والفتاة الجامعية التي تثور على الظلم الاجتماعي والتهميش الطبقي، والصورة النمطية للراقصة في مجتمعاتنا، مانحة الحياة والمعنى لما كتبه الرائع صلاح جاهين عندما تقول: «ذنب زوزو أنها شايلة وصمة أمها وذنب أمها أنها شايلة وصمة شارع محمد علي وذنب الشارع المسكين أنه شايل وصمة زمن متخلف راح ومضى».. أو عندما تقف وهي بكامل أناقتها وفي فستانها الأسود الطويل، لتنقذ والدتها من الإهانة وتقول: «دقي يا مزيكا»…ثم ترقص بكل عنفوان الأنثى وكبريائها.
وهي التي ترقص بكل الشقاوة وخفة الظل على أغنية «يا واد يا ثقيل» الشهيرة، أو ترقص بكل فتنة الأنثى على أغنية «خللي بالك من زوزو».. هي ثلاثة مشاهد راقصة للشخصية نفسها، وفي كل مشهد وفي كل رقصة أسلوب وتقنيات وتعابير مختلفة، وكأن الجسد يتكلم مئة لغة ولغة.
زوزو ربما تشبه ميرفت بطلة فيلم «بئر الحرمان» في امتلاكها لغواية الجسد، ولكن ميرفت «الشخصية الفصامية» تمارس إغراء الجسد كنوع من التفريغ النفسي والتعويض عن حرمان والدتها العاطفي، ورغم أنها شخصية شديدة التعقيد لكن سعاد حسني جسدتها باتقانٍ شديد، حتى باتت صورة المرأة اللعوب في ذهننا على شاكلة «ميرفت» بفستانها الأحمر وماكياجها الصارخ وهي تقول لأحد ضحايا فتنتها: «ماتعرفشي ميرفت مين؟ ميرفت يلي مجننة الرجالة كلها».
ومن منا ينسى مثلاً شفيقة في فيلم «شفيقة ومتولي وهي ترقص» على أغنية «بانوا»، وكأن المذبوح يرقص من الألم، هنا لا إغراء ولا إثارة، بل رقصة معقمة إلا من الألم والخيبة، وقدرة هائلة لفنانة شاملة تستخدم كل أدواتها كممثلة وراقصة ومغنية في تجسيد شخصية «شفيقة الغازية» ونحتها في الجسد والروح.
ويبقى فيلم «المتوحشة» أهم أفلامها الاستعراضية على الإطلاق، وفيه تظهر موهبتها الاستثنائية في التمثيل والغناء والرقص، حيث السيناريو والأغاني من توقيع صلاح جاهين، في هذا الفيلم تغني وترقص سعاد حسني وهي في أواخر الثلاثينيات من عمرها، وتؤدي حركات بهلوانية كفتاة سيرك محترفة، وتصاب على إثرها بعطب في عمودها الفقري، عطب سيرافقها حتى آخر أيامها. ولكن تبقى رقصتها الأخيرة في الفيلم على أغنية «شيكا بيكا» خالدة، فرغم وجهها المطلي بقناع المهرج الأبيض، لا نستطيع كمشاهدين إلا أن نرى قناع الحزن الأسود، وكأن المهرج لا يضحك من قلبه إلا لينسى الحزن، والراقص لا يحلق حقاً إلا عندما يراقص الألم…
وبعيداً عن الرقص ولكن قريباُ من المعاناة الإنسانية، يأتي فيلم «الكرنك» عن رواية لنجيب محفوظ، وفيه تجسد سعاد حسني شخصية زينب، الفتاة ذات التنورة السوداء التي لا تنزعها طيلة الفيلم، وهي فتاة رومانسية فقيرة تدرس الطب وتحلم بتغيير واقعها البائس، مؤمنة بمبادئ ثورة ستكون هي بالنهاية أولى ضحاياها…
نظرة زينب ووجهها الشاحب المكهرب بعد حادثة اغتصاب من قبل المخابرات، يصلحان برأيي للتدريس في معاهد السينما، ففيهما تتكثف كل معاني القهر والألم..
اختمار أداء وأنوثة سعاد حسني ربما يتجسد في أفلامها أواخر الثمانينيات، ولا سيما في فيلم «موعد على العشاء» مع المخرج محمد خان، هنا نحن على موعد مع الأنوثة والحب والخيبة والموت، هنا الثنائي الأجمل سعاد حسني وأحمد زكي، حيث الفن يجري في العروق كالأوكسجين…من منا يستطيع أن ينسى دمعة نوال «سعاد حسني» أمام المرآة وهي تنهمر رغماً عنها، ومصفف الشعر شكري «أحمد زكي» يحاول تصفيف شعرها، ولكنه ضمنياً يتمنى لو يستطيع أن يمسح دمعت، أو مشهد باب الزجاج يفصل فيما بعد بين الحبيبين نوال وشكري، ونظرة نوال العاشقة تعبر الزجاج ويدها تلامس يد شكري من ورائه.. وهي نوال نفسها في آخر مشهد من الفيلم تلتهم طبق المسقعة المسممة بكل نشوة الانتقام وبكل شهوة الموت بعد مقتل حبيبها شكري، وهنا لا شيء في العينين إلا الفراغ.
الفيلم الأخير للسندريلا كان «الراعي والنساء» مع أحمد زكي «ضرتها في التمثيل» كما كانت تسميه، ومن إخراج زوجها السابق علي بدرخان، هنا سعاد حسني في يأسها وألمها المبرح مع المرض.. سعاد حسني أو «وفاء» وبقايا من جمال، وكثير من حضور لم يستطع الزمن محوه، نجح الفيلم مهرجانياً وفشل جماهيرياً…
لم يتقبل الجمهور شكل نجمته المنهكة والمريضة وقد بدأت عوارض العمر والمرض تظهر عليها، فكيف يمكن لحلم أن يشيخ؟ حتى سعاد نفسها لم تحتمل شيخوختها على الشاشة الفضية، خطفت صورتها الأخيرة وهربت إلى لندن، وتركت صورة السندريلا التي لا تشيخ ولا تمرض ولا تتألم في ذاكرة عشاقها، انتهى مفعول السحر خلعت السندريلا تاجها، وعادت إلى وجهها الأول «وجه سعاد حسني»، وقد شاخ الأن وأنهكه المرض.
عشر سنوات من الموت البطيء، لترحل بعدها تاركة وراءها أكثر من ثمانين فيلماً، وتاركة عشاقها حائرين أمام موتها أو مقتلها أو انتحارها، موت أشبه ما يكون بنهاية درامية في فيلم بوليسي طويل.. وكأنها بكل ما عاشته أمام وخلف الكاميرا، كانت تجسد المرأة بكل فتنتها وألقها وعذاباتها وانكساراتها، وكأنها كانت تمثلنا جميعاً ولم تكن تمثل علينا. ولكنها لم تعش حياتها الحقيقية إلا أمام الكاميرا، هناك عشقت وأحبت وولدت أفلاماً، وجعلتنا كجمهور نحتار في اختيار شريكها السينمائي الأمثل، فلشدة صدقها وتقمصها لأدوارها كانت تشكل الثنائي الأجمل مع كل من شاركها أفلامها، من حسين فهمي وحسن يوسف إلى نور الشريف وأحمد زكي…وكأنها المرأة المفصلة على مقاس حلم أي رجل. في النهاية رحلت السندريلا ولكنها لم ترحل عن قلبي ولم تنتهِ حكايتي معها، في غرفتي علقت صورتها وهي غافية، أمامها أمر كل صباح على رؤوس أصابعي، خائفة ربما من أن تصحو من سباتها العميق، ولتبقى أسطورة من أساطير طفولتي حية وإن نامت، فلها أدين بحبي للسينما…
يكفي أحياناً أن أدير الموسيقى على أغنية «يا واد يا ثقيل»، حتى تعود عقارب الزمن إلى الوراء، وأعود أنا الطفلة الصغيرة بفستانها الأحمر، والسندريلا تمسك يدها لتعلمها أبجدية الرقص والحب والحياة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.