(1) أتشرف هذا الأسبوع أن أتنازل عن المساحة المقررة لأحد كبار رجال الطب فى مصر، الأستاذ الدكتور «صلاح نصار» أحد أكبر وأهم أساتذة طب الأطفال فى مصر، والذى شرفنى ببحث مطول – أنشر منه ما تيسر- عن الدكتور إبراهيم شوقى صنايعى و مؤسس طب الأطفال فى مصر. (2) شهدت السنة الفائتة ”2015م“ مرور 90 عاما على إنشاء قسم طب الأطفال بكلية طب قصر العينى - جامعة القاهرة . ويطيب لأهل هذا القسم تسميته ”البيت المصرى الكبير لطب الأطفال“، فهو- قولا واحدا- «الأب الشرعي» لكل أطباء وأقسام ووحدات طب الأطفال فى مصر،وهو «الأب الروحي» لكل الأطباء والأقسام والوحدات التى أسهم – وما زال يسهم - فى إنشائها داخل وخارج مصر. (3) انتقلت مصرعام 1925م من مرحلة الرعاية الصحية للأطفال بمفهومها وإمكاناتها المحدودة فى ذلك الوقت، إلى مرحلة التعليم الأكاديمى الشامل لطب الأطفال بمعناه الشامل من تعليم، وتدريب مهني، وبحث علمي، وخدمات صحية، وخلافه . وترتبط هذه المرحلة ارتباطا وثيقا بالمرحوم الأستاذ الدكتور إبراهيم شوقى باشا الذى أنشأ أول قسم أكاديمى لطب الأطفال فى مصر بكلية طب قصر العينى بالجامعة المصرية ”الحكومية“ وقت إنشائها عام 1925م، واستطاع هو وثلاثة آخرون من الرواد الأوائل «الأساتذة الدكاترة أحمد خليل عبد الخالق، ومصطفى الديوانى ومحمد عطية عبود» من وضع اللبنة الأولى لطب الأطفال فى مصر، وبذلوا جهودا مضنية فى سبيل إبرازه بالصورة المشرقة والمتقدمة التى نراه عليها الآن، والتى استحق بها هذا القسم قولا وعملا لقب «البيت المصرى الكبير لطب الأطفال» ، كما استحق شوقى باشا لقب «صنايعي» ذلك «البيت» . كان إبراهيم شوقى باشا شخصية فريدة توقف الزمان والتاريخ عندها طويلا . ولد فى مصر فى 17 من مايو عام 1890م ، وتخرج فى مدرسة الطب المصرية عام 1913م . أوفد إلى إنجلترا للتخصص فى أمراض الأطفال ، ولما عاد أدخل فى مدرسة الطب مادة علم أمراض الأطفال، وتولى إعداد جيل جديد من المتخصصين فى هذا الفرع الدقيق الحيوى والمهم من فروع الطب ، والذى كان وقتذاك تابعا لتخصص الأمراض الباطنة العامة، وغير معترف به كتخصص دقيق مستقل . تقلد إبراهيم شوقى باشا بعد عودته من الخارج عديدا من المناصب الجامعية العليا، فأثرى بخبرته وحسه الوطنى الحياة الجامعية . أنشأ وأسس قسم طب الأطفال بكلية طب قصر العينى فى الجامعة المصرية «حاليا جامعة القاهرة» ، وظل رئيسا لهذا القسم 19 عاما «حتى عام 1944م» حين اختير عميدا لكلية طب قصر العينى جامعة فؤاد الأول، وفى عام 1947م اختير مديرا لجامعة فؤاد الأول، ليصبح بذلك ثالث مدير مصرى لجامعة القاهرة بعد الدكتور أحمد لطفى السيد بك «1925-1941م» ، ثم الدكتور على باشا إبراهيم «1941-1947م» فى ينايرعام 1952م أختير إبراهيم شوقى باشا وزيرا للمعارف العمومية ، ثم أختير وزيرًا للصحة العمومية لفترة وجيزة «من 24 يوليو إلى 7 سبتمبر عام 1952م» فى أول وزارة تشكلت بعد ثورة 1952م برئاسة على ماهر باشا . انتخب ابراهيم شوقى نقيبا لأطباء مصر، ورئيسا للجمعية الطبية المصرية، كما أسس”الجمعية المصرية لطب الأطفال“ عام 1933م وهو نفس العام الذى أنشيء فيه البورد الأمريكى لطب الأطفال، وكان ذلك قبل ثلاث سنوات فقط من إنشاء الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال عام 1930م . كما نقل شوقى باشا طب الأطفال وسائر فروع الطب الأخرى فى مصر إلى المستوى العالمى بإرساله البعثات إلى الخارج، ودعوته كبار الأطباء فى العالم لزيارة مصر والعمل بها . (4) ويرتبط تاريخ شوقى باشا ارتباطا وثيقا بإنشائه مستشفى ”أبو الريش للأطفال“ باعتباره أقدم وأعرق مستشفى لطب الأطفال فى الشرق الأوسط،، فهو المدرسة الأولى التى تخرج فيها الكثير من العلماء فى هذا التخصص فى مصر وغيرها من الدول، وقد بدأ العمل بالمستشفى بالطابق الأول عام 1934م الذى كان معدا ومجهزا بثلاثة وستين سريرا، واستكمل البناء بطابق آخر تم افتتاحه عام 1940م ليصبح عدد الأسرة 150 سريرا، ثم أخذ عدد الأسرة فى الازدياد حتى بلغ عام 1992م 210 أسرة . وظل مستشفى «أبو الريش» هوالمستشفى التخصصى الوحيد للأطقال فى مصر، حتى أنشأت جمعية رعاية الأطفال المصرية مستشفى آخر بمنطقة الدمرداش عام 1947م، وقامت باهدائه إلى كلية الطب جامعة عين شمس عام 1952م . (5) حصل إبراهيم شوقى باشا على العديد من الجوائز المحلية والعالمية، لعل من أهمها أن منحته الحكومة الفرنسية وسام الفارس الأول الفرنسي، ووسام جوقة الشرف الفرنسى . ومنحه الملك فاروق الأول ملك مصر «رتبة الباشاوية» فى 15 ديسمبرعام 1949م، وذلك «... نظرا لما عهدناه فيك من كريم السجايا وحميد المناقب وما أديته من جليل الأعمال ...» ، كما منح الرئيس الراحل أنور السادات فى 7 مارس عام 1981م أسرة شوقى باشا بعد وفاته وشاح النيل باسمه «... من رفيع المزايا وما قدمه للطب من جليل الخدمات» ، وفى عام 2008م أصدرت الجمعية المصرية لطب الأطفال فى مناسبة الاحتفال بمرور 75 عاما على إنشائها «العيد الماسى للجمعية» ميدالية تذكارية ذهبية باسمه كمؤسس وأول رئيس لها على مدى 11 عاما «1933-1844م» . (6) عند بلوغه سن الستين عام 1950م أحيل شوقى باشا إلى المعاش ، ولم يكن معمولا وقتذاك بنظام الأساتذة المتفرغين بعد بلوغ سن المعاش . ومنذ ذلك الحين انقطعت صلته بالجامعة والكلية والقسم الذى أنشأه وأسسه ورعاه، وكان آخر منصب تولاه وزير الصحة العمومية فى سبتمبر عام 1952م . وانقطع الاتصال مع شوقى باشا حتى فاضت روحه إلى بارئها فى صمت عام 1980م عن عمر ناهز90 عاما ، تاركا وراءه ملحمة تاريخية قل أن يجود الزمان بمثلها، الأمر الذى يستحق معها أن يذكره التاريخ دائما بأنه «صنايعى البيت المصرى الكبير لطب الأطفال» . وشوقى باشا - الذى كان شخصية فريدة توقف الزمان والتاريخ عندها طويلا أصابته لعنة الإهمال، فألقينا به وبتاريخه، بل وبأهم ”لقطة“ فى تاريخ طب الأطفال فى مصر، فى صندوق النسيان . لقد أصابتنا الغفلة والكسل معا عن تسجيل وتخليد التاريخ العريق لهذا العملاق الفريد، وليس ذلك مستغربا، فمعظمنا منذ الصغر يكره الجغرافيا والتاريخ ، كما ان مصر كلها منذ منتصف القرن الماضى وحتى وقتنا هذا - وباعتراف مسئوليها - أصبحت أمة بلا ذاكرة !!! . ورحم الله الإمام على بن أبى طالب طيب الله ثراه الذى قال: «آفة النجاح الكسل» !!! . لا يتصور أحد أنه لا يوجد فى ”البيت الكبير“ الذى أرسى دعائمه شوقى باشا أى أثر يدل عليه، اللهم سوى صورة له فى إطار معلق على الحائط مع صور أخرى لخلفائه من رؤساء الأقسام! لا يذكر اسمه فى أى مؤتمر من المؤتمرات، ولا يحتفل به فى أى مناسبة كانت! ولا يوجد له تمثال نصفي، أو جدارية، أو مجرد صورة فى مدخل المستشفى الذى بناه منذ1928م! ، بل إن المدهش هو أن 90% على الأقل من أهل البيت لا يعرفونه، أو حتى لا يسمعون عنه. ولكن لعل روح شوقى باشا تستشعر بعضا من الراحة والهدوء حين ترفرف على المكان وترى ”بيته الصغير“ الذى افتتحه عام 1934م بسعة 40 سريرا أصبح الآن مدينة علمية، مجمعا متكاملا لطب الأطفال. .............................................................................. المصادر: «بوابة جامعة القاهرة ، مدحت فتحى شعبان العقيلى «تأريخ ونشأة قصر العينى والمستشفيات الجامعية فى مصر» ، صلاح نصار: كتيب «البيت المصرى الكبير لطب الأطفال: قسم طب الأطفال بكلية طب قصر العينى جامعة القاهرة» .
