هو سور كبير ممتد... لا يمنحك للوهلة الأولى سوى انطباع بأنها قطعة أرض كبيرة جدا تنتمى لمالك هجرها منذ زمن. ومع هذا فهو لا ينسى ملكيته لها، ولا يريد حتى فى وجود الغاب والحشائش العملاقة أن يمنح الفرصة للص أو مدع لكى يستغلها و يضع عليها اسمه. ولكن أن تتصور أنها مدينة أثرية كاملة، بل وواحدة من أقدم مدن التاريخ التى لا تقل آهمية عن نخن و منف!. هنا توجد مسلة تبدو وكأنها تنتمى إلى زمن آخر. وعلى بعد أمتار أخرى يوجد كشك حراسة شديد التواضع حوله منطقة من الحشائش والغاب. أما السبب فى وجوده ، فهو وجود تمثال غير مكتمل لأبى الهول، وعلى أفراد الأمن القيام بمهمة فدائية فى ظروف صعبة. لا تتعجب إذا رأيت هذا المشهد ... فهنا فى المطرية تحديدا عاشت مدينة «أون» الفرعونية الشهيرة, المركز الروحى لبر مصر، والمهد الأسطورى للبيت الملكى. يقولون إن اخناتون فرعون التوحيد وكما جاء فى معجم الحضارة المصرية القديمة لجورج بوزنر قد أخذ عقيدته عن مذاهبها، وأنها ظلت صاحبة أهمية عظيمة فى عصر الرعامسة، رغم أن دخل أراضيها لم يبلغ سدس ممتلكات معبد آمون صاحب النفوذ فى ذلك الزمن. فهى صاحبة نظرية خاصة والعهدة على عالم الآثار الكبير سليم حسن - فكهنة هذه المدينة قد وضعوا صورة ذهنية لأصل العالم، وفى متون الأهرام ما يفيد أن الإله ظهر على تل أزلى، ووقف على حجر هرمى الشكل أطلق عليه المصريون لفظ «بنين»، ليصبح بعدها هذا الشكل الهرمى رمزا مقدسا عند المصريين، فبنى ملوك مصر الأوائل مقابرهم على هيئة هرم. كما كان لهذا الشكل الهرمى قاعدة توضع أمام المقابر فى الدولة المصرية القديمة، وأمام المعابد فى الدولتين الوسطى والحديثة ... وهى المسلات. ليست هذه هى القصة الوحيدة لمدينة الشمس «أون»،فحسب ما قالت د. سعاد ماهر فى كتابها «القاهرة القديمة وأحياؤها» جعل البطالمة اسمها هليوبولس، وأطلق عليها العرب اسم «عين شمس» لوجود عين ماء غلب اسمها على اسم المدينة، ووصفها ياقوت الحموى فى «معجم البلدان» بالقرية التى يستخرج منها الدهن الطبى، واعتبرها المؤرخ محمد رمزى صاحبة شجرة مريم ذات الرائحة الزكية. أما المؤرخ الكبير الفريد ج بتلر فى كتابه «فتح العرب لمصر» فقال إنها المدينة التى لم يعد باقيا من مجدها إلا أسوار مهدمة وتماثيل لأبى الهول نصفها مدفون فى الأرض والمسلة الشهيرة. كلام وتاريخ كبير يمكن أن يحكيه حى المطرية، ويمكن أيضا أن يكون افتتاحية بسيطة لواقع يشهد بمأساة يعيشها هذا المكان اليوم. خطة طموح يقول خالد أبو العلا مدير عام منطقة آثار المطرية: للمطرية طبيعة أثرية خاصة، وميدان المسلة على سبيل المثال بدأ تطويره منذ عام 2006، وامتد الاهتمام به إلى عام 2010. وكان مقررا أن تنتهى هذه الأعمال بافتتاح المتحف المفتوح. ولكن الآن يحيط به موقف سيارات عشوائى، كما أن هناك أرضا محيطة بالمتحف على مساحة 54 فدانا مملوكة للأوقاف، وتقوم وزارة الداخلية بزراعتها من قبل مصلحة السجون. كانت هذه الأرض تزرع، حتى صدر قرار بردم الترعة التوفيقية وهو ما جعلها تعرضت للتبوير، وبعدها فى وقت لاحق بدأ الأهالى فى رمى المخلفات فى هذه المنطقة. وهذا المكان له أهميته التاريخية وقد شهد فترات ازدهار حتى أواخر العصر الفرعونى، كان يضم معابد شاهقة يتفوق حجمها على حجم معابد الكرنك الشهيرة، وليس هذا مستغربا فهنا تأسست المؤسسة الدينية الأهم فى مصر التى ينسب لها نظرية نشأة الوجود، وأقدم جامعة تعلم بها أرسطاطاليس وأفلاطون، وكانت تدرس الدين والطب والفلك الذى كان من أهم علومها حتى إن لقب كبير الرأين أى المختص بالنظر إلى النجوم والكواكب ضمن ألقاب كبير الكهنة. ذكرت المدينة فى الكتب المقدسة وكتابات الرحالة مثل عبد اللطيف البغدادى وزارتها العائلة المقدسة. والمشكلة اننا كمهتمين بالآثار نقدم أفضل ما عندنا، خاصة أننا نشعر بأننا حراس على هذا المكان ولكن هذه العشوائية التى تحيط بالآثار تشعرنا بالإحباط الشديدة، وقد كنا نتمنى أن يحصل هذا المكان على فرصته على الخريطة السياحية فى مصر. فهذه آثار فرعونية داخل حدود القاهرة يمكن أن يتعرف عليها أهل مصر والسائحون. على مدد البصر ليست هذه القصة كاملة ، فالمشهد يمكن أن تراه كاملا عبر المرور على العديد من الشوارع والحارات المغلقة التى تتخللها مياه الصرف لبعض البيوت البسيطة التى ماتزال تحتفظ بمساحات ضيقة على الطوب الأحمر، نجد هذا السورا الكبير الذى تروى لنا إيمان رياض مدير عام ترميم آثار المطرية وعين شمس حكايته، فهو موجود منذ سنوات. ولكن يحدث أحيانا تعديات من الأهالى عند حواف هذا السور، كما أن وجود أكوام القمامة وارتفاع المياه الجوفية هو ما جعل هذا المشهد سيئا ومحبطا فى رحاب هذه المدينة الأثرية المهمة. صحيح أن لدينا مركزا للبحوث يتعامل مع الغاب والحشائش، خاصة مع بداية موسم الشتاء ومع وجود السدة الشتوية، ولكن مشكلة المياه الجوفية لابد لها من نظرة شاملة لأن الصرف إلى الآن يقوم على نظام الترنشات، كما توجد مفارقة بين استمرار عشش الصفيح، ووجود منطقة إسكان للشباب على بعد أمتار. فلابد من النظر إلى مسألة الصرف الصحى والتعامل مع المياه الجوفية، خاصة أن «أون» من أهم المدن المخططة تخطيطا سليما فى التاريخ المصرى، وهذه المدينة تبدو وكأنها مختبئة عن الأنظار وسط الحشائش العملاقة والنباتات الغريبة حتى إن مخازن الكهنة وكأنها تختفى. لهذا فالمعبد فى حاجة إلى مشروع إنقاذ. وتتفق معها فوقية أحمد مدير عام الترميم بموقع شجرة مريم حول ضرورة رفع الأثر ليكون أعلى من الأرض وبعيدا عن المياه الجوفية. والحل فى معالجة ضرورية للتربة وحقنها بمواد تمنع عودة الحشائش الضارة ،ووجود سور حديدى مرتفع يحيط بالمكان، وتحديد حرم للأثر، بالاضافة إلى التخلص من كل المخلفات والقمامة وتوعية الأهالى بأهمية المكان. حرم آثرى يصلح ميدان المسلة بداية أخرى لهذه القصة المحزنة. فوسط عربات مكدسة وشوارع غير منتظمة تطل علينا على استحياء مسلة سونسرت الأول، واحد من أهم ملوك الدولة الوسطى ، وهى المسلة التى أعتبرها الأثرى د. عبد الحليم نور الدين واحدة من عدد قليل من المسلات لا يزال فى موقعه الأصيل، وتكشف مدى إلمام المصرى القديم بعلم الميكانيكا، وعلاقة الكتلة بالفضاء المحيط بها.وهى أيضا ما يثبت اليوم وقائع إهمال التاريخ وسط مناطق حرق النفايات والقمامة. يبدو المشهد كاشفا، فهذا السور البسيط الذى يفصل مسلة سونسرت الأول، والتى تأخذ مكانها وسط متحف مفتوح, يبدو وكأنه يفصل ليس فقط بين زمن وزمن، ولكن أيضا بين مكان آخر يختلف تماما عن المنطقة المحيطة.وجود حرم للآثر يحل الكثير من المشكلات كما تشير هدى كامل مدير عام مسلة المطرية، فالمتحف المفتوح الذى يضم مسلة سونسرت الأول بحاجة إلى 50 مترا كحرم للأثر الذى بدأ يتأثر بأدخنة المخلفات والقمامة والعوادم والخردة. فمنذ بداية هذا العام ونحن فى انتظار الاستجابة لهذا المطلب الذى تقدمنا به بعد زيارة عدد من المسئولين للمكان. ورغم أننا نحافظ على كل التفاصيل التى يمكن أن تحمى الأثر فى داخل المتحف، إلا أن ما يحدث من تعديات بيئية على بعد مترين فقط من السور يمكن أن يؤثر بالسلب. صحيح أن هناك بناية مجاورة كان تصميمها يضم 14 دورا، قام المجلس الأعلى للآثار باستصدار قرار بعدم السماح بهذا الارتفاع، الا اننا مازلنا فى انتظار وجود الحرم الآمن المطلوب للمتحف. وهذا المتحف يضم مجموعة مهمة من الآثار بدءا من الدولة القديمة وحتى عصر محمد على، كما يضم أقدم مسلة تنتمى إلى الأسرة السادسة فى الدولة القديمة. وهناك تابوت ضخم من الحجر الجيرى ينتمى إلى الأسرة السادسة والعشرين. وتضيف: أعتبر نفسى لست فقط من محبى الآثار المصرية، فالمسألة ليست مجرد مهنة. بل ابنة لهذا الحى لا تضع حدودا فاصلة بين مهنتها وبيتها، وقد لزمت هذا المكان طوال أحداث ثورة 25 يناير وكان معى عدد من أهل الحى حتى نحافظ عليه ولا يتعرض للسلب والنهب من أى شخص غريب. رأى الحى ويوضح المهندس أسامة عبدالسلام القائم بأعمال رئيس حى المطرية أن هناك جهودا تبذل لمعالجة العديد من المشكلات الراهنة من خلال خطة لتطوير العشوائيات مع هيئة تطوير ألمانية، حيث تم الاستقرار على تطوير عدة مناطق مثل منطقة الليمون، وقد طرحنا وجود تسع مناطق والكلمة له وهى الأكثر احتياجا للتطوير مثل عرب الحصن والمسلة وعزبة الصفيح. وهناك احتياج لطرق ونظام صرف صحى، ودراسة بالمشاركة مع الأهالى للتعرف على احتياجاتهم. مكانة خاصة ويرى علاء الشحات مدير عام الادارة المركزية لآثار القاهرة والجيزة أن حى المطرية الذى يضم مدينة أون التاريخية له وضع خاص، ولكن المشكلة أن هذا المكان شهد تغيرات سلبية كبيرة منذ خمس سنوات. ويبدو الأمر سيئا بالنسبة للوضع البيئى ، فهناك أطنان من القمامة والعشوائيات التى لابد وأن تنحسر لأنها لم تكن موجودة بهذا الشكل منذ عدة سنوات. كما أن انتعاش السياحة يصاحبه وعى لدى المواطن، و يمكن أن يقدم حلا للكثير من المشكلات، خاصة أن كثيرا من المناطق قد تعرضت للاضرار الاقتصادية نتيجة غياب السياحة. ويقول د. عزت صليب مدير عام ترميم آثار ومتاحف القاهرة الكبرى: بالتأكيد لا يمكن أن نترك هذا المكان، ولدينا فى وزارة الآثار خطة طموح لإنقاذ المنطقة، فلابد من رفع المنطقة الأثرية لمسافة ستة أمتار على قاعدة خراسانية ثم ننقل المعابد عليها. وقد بدأنا المشروع بالفعل مع قطاع المشروعات بالوزارة ولكن تواجهنا مشكلة التمويل. ولهذا نتمنى مشاركة منظمات المجتمع المدنى لإنقاذ أقدم مدينة فى التاريخ، ووجود حملة لتوعية أهالينا فى المطرية وعين شمس لوقف التعديات على الآثار، فعند منطقة المسلة كان يوجد تعد على حرم الأثر بوجود عمارة تطلبت إزالتها سنة ونصف، أما منطقة عرب الحصن على سبيل المثال فتضم مجموعة من أروع الآثار المصرية القديمة. ولا ننسى مقبرة بحنسى فى عين شمس التى تعتبر من أكمل وأجمل المقابر الفرعونية والتى تعانى بشكل سافر من التعديات، فنحن نريد حملة شعبية للتوعية والمحافظة على هذا التراث الذى يعتبر ذاكرة الوطن. والقصة لم تنتهى عند هذا الحد.. ولشجرة مريم حكاية أخرى.