هناك كثيرون كلما قرأوا كلمة تطبيع أشهروا أقلامهم استعدادا لنزول معركة سياسية مفتوحة. تبدو البداية فيها معروفة وتظل النهاية مجهولة. وفي كل مرة يجري السباق في هذا الميدان بين فريقين ويطوي دون معرفة الفائز أو الخاسر. وعلي هذا المنوال يتجدد النقاش من وقت لآخر ثم يتواري ويذهب إلي طي النسيان. خلال الأيام الماضية راج مسلسل التطبيع, عبر مشاهد جاءت من ثلاث دول عربية مختلفة. الأول, الإعلان عن إقامة مباراة في كرة القدم بين منتخب مصر الأوليمبي ونظيره الفلسطيني بالقدسالمحتلة ثم تم إلغاؤها دون معرفة أسباب الدعوة إليها. والثاني, إعلان الاتحاد البحريني لكرة القدم عن خوض المنتخب الوطني لمباراة ودية مع المنتخب الفلسطيني بالقدسالمحتلة. ورغم التحفظ الشعبي عليها, إلا أن موعدها تحدد في28 مايو المقبل. والثالث, إعلان الداعية السعودي محمد العريفي مقدم برنامج' ضع بصمتك' علي قناة' إقرأ' الفضائية تصوير حلقة مساء الجمعة الماضية من البرنامج في القدسالمحتلة, وتحت ضغوط رسمية ودينية متباينة جري التراجع عن ذلك. لم تمر هذه المشاهد مرور الكرام, بل صاحبها ولا يزال جدل واسع. استخدمت فيه المفردات والعبارات ذاتها التي يتم ترديدها عندما تطفو علي السطح كلمة تطبيع. المؤيدون, دافعوا عن وجهة نظرهم, استنادا إلي ضرورة مؤازرة القضية الفلسطينية ودعم المقاومة الوطنية وكسر آلة الحصار الاسرائيلية. وغيرها من المبررات التي تصب في صالح إطلاق صراح الزيارات إلي الأراضي المحتلة. والرافضون, دافعوا عن الاستمرار في برنامج المقاطعة بكل صورها وأشكالها, للحفاظ علي الثوابت القومية وقطع الطريق علي أي محاولات اسرائيلية لجني ثمار الزيارات العربية( الشعبية). وفي الحالتين دخلت العوامل السياسية في خضم المساعي الرياضية والدينية, وتم توظيفها لحساب أهداف بعيدة عن خدمة القضية الفلسطينية, التي يستخدمها البعض كمطية لتحقيق أغراض شخصية أو جس نبض الشارع تجاه ظواهر سياسية خفية. بدأ الكلام يتزايد بحماس عن التبادل الرياضي الفلسطيني والعربي, عقب تولي جبريل الرجوب رئاسة الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم. وبصرف النظر عن علاقة هذا السياسي بالرياضة, فإنه كان حريصا علي تسييس دور الاتحاد الذي يرأسه, إما لتأكيد حضوره ونفوذه علي الساحة الفلسطينية, بعد أن خبا نجمه لفترة طويلة, أو أن لديه مهمة محددة في مجال كسر بعض الحواجز التقليدية. ربما يكون الرجل محقا في دعوته المتكررة للفرق العربية, لكنه تغافل عن قصد أو بدونه أن الخسائر السياسية المتوقعة للتبادل الرياضي أكبر من المكاسب الآنية, لأن دخول القدس وغيرها من أراضي الضفة الغربيةالمحتلة يستلزم تصاريح دخول اسرائيلية. وهنا تتأثر المقاطعة العربية و تستفيد قوات الاحتلال, حيث ستوحي الزيارات بمرونتها وتقدم صورة مغايرة لما هو معروف عنها من انتهاكات وأعمال اجرامية. وفي النهاية تتولد حالة من المعارك الكلامية, تؤدي إلي زيادة الشروخ العربية والفلسطينية. تقود هذه الشروخ إلي الدخول في دهاليز وخلافات كثيرة, تضاعف الحساسيات وتباعد المسافات بين الفصائل الفلسطينية. كأن تتم المقارنة بين الضفة الغربية وقطاع غزة والجهة التي تحكم سيطرتها علي كل منطقة. ففي الحالة الأولي ترتفع قبضة الاحتلال الاسرائيلي لتصبح هي الأقوي من السلطة الفلسطينية, بينما في الحالة الثانية( غزة) تسيطر وتحكم حركة حماس, فلماذا لا يتم الذهاب إلي الأخيرة لإقامة تظاهرة كروية ؟. يتجاهل هذا النوع من الأسئلة المحرجة ثلاث حقائق رئيسية. الأولي, أن قطاع غزة لا يزال رسميا في معية الاحتلال وأي تعامل مستقل ومنفرد مع غزة يعفيه من مسئوليته القانونية. كما أن زيارات المجتمع المدني لتقديم المساعدات أضحت حلالا علي غزة حراما علي الضفة الغربية. والثانية, أن المقارنة الرياضية والانسانية تكرس الانقسام السياسي والجغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة ولا تفيد في مساندة المصالحة الوطنية. فقد رأينا تلميحات متعددة تؤيد زيارة الوفود الرياضية لغزة وتطالب بمقاطعتها للضفة. والثالثة, انقسام الفلسطينيين أنفسهم حول مشروعية زيارة الوفود الشعبية العربية للقدس المحتلة, حيث جعلها البعض فريضة دينية وضرورة سياسية ووسيلة لدعم القضية الفلسطينية, واعتبرها آخرون مرادفا للتطبيع المباشر مع اسرائيل. بالتالي يجب إخراج هذه المسألة من باب التخوين الصاخب وادخالها في باب الاجتهاد الهاديء الذي يخطيء ويصيب. الحاصل أن للحديث عن التطبيع مواسم, تتخذ شكلا رياضيا تارة ودينيا تارة أخري وكلاها لا يهم, لكن المهم هو المعني والمغزي والتوقيت السياسي الذي يحمله كلاهما. فالملاحظ أن المشاهد الثلاثة السابقة جاءت وسط مؤشرات كانت تتفاءل بالجهود الأمريكية وتعول علي قرب انطلاق قطار المفاوضات الاسرائيلية_ الفلسطينية. وأحد شروط التحركات الغربية بشكل عام أن يصبح اختراق ملف التطبيع' عربون' جدية ومكافأة عربية لاسرائيل, مقابل ما يعتقد كثيرون في الغرب أنه بمثابة تنازل من جانبها لحلحلة القضية الفلسطينية. لكن ردود الأفعال السلبية تجاه ما تردد حول الزيارات الرياضية ودغدغة المشاعر الدينية( الافتراضية) كانت مخيبة للآمال. وأثبتت صعوبة التلاعب بملف التطبيع وزحزحته لخدمة أهداف سياسية, حتي لو كان من خلال قنوات خادعة, ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب. ناهيك عن التصرفات الاسرائيلية التي نسفت الكثير من أسس عملية التسوية وأحرجت معظم الجهات الاقليمية والدولية التي دافعت عنها. الأمر يجعل التحايل أو المقايضة علي ملف التطبيع يعرض أصحابه لانتكاسات سياسية. إذا كان المتفائلون وأصحاب النوايا الحسنة جادين في مسألة دعم الأشقاء في القدس, عليهم اختصار المسافات وحض رموز المجتمع المدني علي الالتفاف حول مبادرة جماعية وحاشدة لمساندة سكان المناطق الفلسطينية تحت الاحتلال. ففي القدس تتعرض المدينة للتهويد وسكانها لأشد عمليات التهجير. وفي غالبية مدن وقري الضفة الغربيةوغزة يواجه المواطنون أقسي علامات التنكيل. وتخدم الزيارات الفردية والنوعية الدعاية الاسرائيلية وتضر بالثوابت العربية. كما أن المقاومة ليست بحاجة إلي بشر بقدر حاجتها للحجر. وبدلا من الانهماك في بحر الحديث عن مزايا وعيوب الزيارات, من الواجب حض القيادات العربية علي الوفاء بالاستحقاقات التي أقرتها قمة سرت الأخيرة وغيرها من القمم العربية لدعم القدس ووقف طوفان التهويد.