من أبرز الانتقادات التى توجه الى القانون الأمريكى والمسمى العدالة ضد رعاة الارهاب واختصارا «جاستا» انه يجعل قانونا محليا أمريكيا أعلى نفوذا من المعاهدات الدولية المنظمة للعلاقات الدبلوماسية، وبذلك يتجاوز حقوق السيادة وحصانة الدول التى تحول دول مقاضاة الدولة وممثليها. هذا الانتقاد يفترض أن سيادة الدولة، وأعنى أية دولة فى عالمنا المعاصر،هى محل احترام الآخرين، وأنها لا تتعرض لأية اختراقات مُقننة أو غير مُقننة، وأن مواطنيها يحصلون على الاحترام ذاته ما داموا لا ينخرطون فى أنشطة غير مشروعة. وهو افتراض وفى ضوء حقائق الحياة الراهنة لاسيما استخدامات شبكة الانترنت غير صحيح بالمرة. والنتيجة أننا بحاجة الى مراجعة شاملة لمفهوم السيادة، وإلى نقاش ذى طابع عالمى حول معنى جديد للسيادة يراعى كل التطورات التكنولوجية التى تحيط بنا ولم نعد نستطيع الاستغناء. وللأسف لا يوجد الآن من يمكنه أن يفعل ذلك لاداخل الأممالمتحدة أو خارجها. ومن الواضح أن كل الدول المتقدمة تقنيا فى مجال المعلومات كالولاياتالمتحدة وروسيا والصين وبريطانيا والهند واسرائيل والى حد ما إيران لا تريد مثل هذا النقاش العالمى لأنه قد ينتهى بوضع معايير جديدة تقيد قدرة هذه الدول على اختراق الدول الأخرى الأقل تطورا معلوماتيا. والثابت هنا أنه حتى هذه الدول ورغم تطورها فى تقنيات المعلومات فهى أيضا معرضة للاختراق، وحين سُئلت المرشحة الرئاسية هيلارى كلينتون فى المناظرة الاولى التى جمعتها مع منافسها دونالد ترامب عن أمن الولاياتالمتحدة فى مجال الأمن المعلوماتى والحرب فى الفضاء الالكترونى اعتبرت الامر بمثابة تحدٍ ضخم أمام الولاياتالمتحدة، وأن على الذين يهاجمون المؤسسات الأمريكية الحكومية أو الشركات والبنوك للحصول على المعلومات لغرض الحصول على الأموال أو الإضرار بمصالح البلاد، عليهم أن يعرفوا أن قدرات أمريكا فى هذا المجال هى الأفضل والاكبر، ولكنها لم تعطينا فكرة عن ماذا يمكن لهذه القدرات الأفضل والأكبر أن تفعل لحماية الدولة الامريكية من الاختراق. وكذلك فعل المنافس ترامب ولم يوضح تصوره فى مجال حماية الدولة الامريكية وسيادتها على معلوماتها ومعلومات مواطنيها. غير أن السيدة كلينتون فى إجابة أخرى حول مواجهة خطر تنظيم داعش فى مجال الانترنت أوضحت أن لديها خطة تتضمن ضربات عسكرية مكثقة وإنهاء قدرات داعش فى الأنترنت. والمهم فى إجابة إشارتها بوضوح إلى نيتها الطلب من الشركات الأمريكية العاملة فى مجال الانترنت أن تكون جزءا من هذه المواجهة لمصلحة الدولة الأمريكية. أى أن تعمل هذه الشركات للسيطرة على حركة كل من يعتبر عدوا للولايات المتحدة. والمثير هنا هو أن تكون هذه الشركات، وهى أمريكية نشأة ولكنها عالمية من حيث الدور كجوجل وميكروسوفت وأبل وفيس بوك، جزءا من استراتيجية لاختراق سيادة الحكومات جميعها وخصوصية الأفراد على مستوى العالم لمصلحة مؤسسة الحكم الأمريكية. والواقع أن هذه الشركات تقوم بالفعل باختراق خصوصيات الأفراد فى العالم بأسره، لكن برضائهم التام، فهى تقدم خدمات التجوال الحر فى شبكة الانترنت واستخدام شبكات التواصل الاجتماعى بدون مقابل، ولكنها تطلب بل تفرض على كل مستخدم أن يوافق على استخدام بياناته الشخصية فى أغراض تخص الشركة بهدف تطوير الخدمة المقدمة له مجانا فى صورة برنامج الدخول على الانترنت،أو البريد الالكترونى أو التخزين السحابى، وتوظيف هذه المعلومات فى مجال الإعلانات التى تمثل مصدر الدخل الرئيسى لهذه الشركات حسب التبريرات التى تُقدمها علانية. وفى حال رفض المستخدم فإنه لا يستطيع أن يحصل على برنامج التشغيل أصلا. هذا الأمر يجعل هذه الشركات أكبر نفوذا وتأثيرا من أى اتفاقات عالمية أو دساتير محلية تنظم وتحفظ خصوصيات الأفراد، ويمكنها أن تتحدى الحكومات ببساطة. وحين طلبت الحكومة الهندية من شركة «فيس بوك» التى استحوذت على خدمة «الواتس آب» الشهيرة أن توقف العمل بجمع ونشر المعلومات الخاصة للأفراد المستخدمين لهذه الخدمة، رفضت إدارة «الفيس بوك» بسهولة واعتبرت الطلب تدخلا فى عملها. وقد لا يهتم كثيرون، وهو الحادث بالفعل، بمثل هذا الأمر ويعتبرون أن معلوماتهم الشخصية ليست ذات قيمة إن أعُيد نشرها للعموم، أو أعُيد توظيفها من قبل جهات معروفة أو غير معروفة سواء فى داخل دولتهم أو خارجها. وغالبا فإن نسبة كبيرة للغاية من مستخدمى خدمة «الواتس أب» و «الفيس بوك» على مستوى العالم كله ليست لديهم فكرة عن هذه الطريقة التى تستخدم بها معلوماتهم الشخصية، والتى قد تتضمن الكثير من أسرار العمل الخاصة بهم سواء حكومية أو غير ذلك. ما يحدث مع الأفراد يحدث بالقطع مع الحكومات والجيوش والشركات، ولكن بصورة أكثر تنظيما، ففى كل الجيوش وأجهزة استخبارات الدول الكبرى وحدات خاصة بالحرب المعلوماتية، وعملها يتضمن شقين؛ الأول دفاعى وهو تأمين شبكات المعلومات الخاصة بالدولة من اية اختراقات خارجية، والثانى هجومى يعنى القيام باختراقات لأنظمة معلومات الدول الأخرى. وقد يحدث الاختراق من قبل مؤسسة رسمية أو من قبل مجموعة قراصنة يوجهون لهذا العمل. والنتيجة ببساطة أن الحالة السلمية التى تبدو عليها علاقات الدول لا تعنى أنها خالية من اختراق السيادة والضغوط المحسوبة فى مجال المعلوماتية، بل كثيرا ما تحدث هذه الاختراقات دون الإعلان عنها، وإن عُرفت تظل المعلومات المنشورة حولها مليئة بالثغرات ومُعرضة للشكوك. لمزيد من مقالات د. حسن أبو طالب