الديمقراطية هذا المصطلح العجيب ، بات فى تركيا الأردوغانية فقط يكتسب معانى فريدة ودلالات شبه أسطورية ، فمنذ المحاولة الانقلابية الفاشلة فى يوليو الماضى، اكتسحت تلك المفردة الساحرة فضاء الأناضول، وعلى أرضه طغت على كل الأبجديات ، تلوكها بشكل خاص وحميم ألسنة النخبة الحاكمة ومن يدور فى فلكها ليلا ونهارا دون كلل أو ملل ، وبالطبع تكون مصحوبة بأهازيج الفرح ، لأنها تكرست وترسخت فى ربوع البلاد وإلى الأبد . المثير فى الأمر ، أن أى تحليل للخطاب الرسمى سيجد المراقب معه صعوبة بالغة بل استحالة ، إذا اراد حصر المرات التى تكررت فيها هذه الكلمة الخالدة ، ولازالت ولن تتوقف . فقبل مغادرته إلى نيوريوك لم يجد الرئيس رجب طيب اردوغان أدنى غضاضة فى القول ، انه وعلى منصة الأممالمتحدة ، سيوضح للدنيا بأسرها وفى افتخار ، كيف انتصر الشعب التركى على الانقلابيين وأنه قدم أبناءه فداء ودفاعا عن ديمقراطيته التى لم تزدهر إلا فى عهده هو وحزبه القائد قدر تركيا. وخلال حواراته وتصريحاته مع وسائل الإعلام العالمية أعاد ذات الجمل الأثيرة إلى قلبه وقلوب ما يفترضهم بالملايين ليس من قبل مواطنيه فحسب بل الإنسانية جمعاء ، فالأخيرة عليها أن تسجد لله حمدا ، لهذا النصر الديمقراطى المظفر الذى أبلاه ورثة الإمبراطورية العثمانية ضد الذين ارادوا اغتصاب إرادة الشعوب الحرة التى اختارت زعيمهم عبر الانتخابات لأول مرة فى مسيرة الجمهورية ، والمعنى واضح فالكماليون (نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك) لم يعدوا هم النموذج الذى يجب أن يحتذي، وتتوالى المشاهد فى إفراطها المذهل ، ودون مبالغة وصلت إلى حد الهوس ، بحيث جعلت مراقبو الداخل قبل الخارج فى حيرة من أمرهم ، ولأنهم لا يعتقدون وربما لا يصدقون فيما يروج لهم ويرونه زيفا وأكاذيب ، راح يتساءلون عن هذا الذى يحدث فى بلادهم ؟ ومنهم من لجأ إلى السخرية حتى لا يزج بهم فى غياهب السجون حيث نعتوا أنفسهم بأنهم هم الفاشيون الاستبداديون واردوغان ومناصروه هم الديمقراطيون الوحيدون على كوكب الارض ، وبدواخلهم هم على يقين أن تركيا لم يعد فيها صوت يعلو على صانع القرار فى القصر الرئاسى الابيض المسيطر على التلفاز والراديو والصحافة ، وتلك ربما سمحت بأن تشذ عنها صحيفة أو صحفيتان ولكن فى حدود والدليل على ذلك انهما بالكاد يتنفسان وزعيم معارضة يفرد له ساعة كل اسبوع كذر رماد فى العيون إنها بحق ديمقراطية لا تليق سوى بالرئيس رجب طيب اردوغان. لكن هناك من يصر على كسر التابو فالروائى البارز أورهان باموك أكد أن حرية التفكير لم تعد موجودة، فى بلاده التى تبتعد بأقصى سرعة عن دولة القانون وتتجه إلى حكم الإرهاب. جاء ذلك فى مقالة تم نشرها فى الصفحة الأولى لجريدة لا ريبابليكا الإيطالية على خلفية اعتقال الصحفى البارز أحمد ألتان وشقيقه محمد ألتان الأكاديمى والاقتصادى الشهير وكلاهما لا علاقة لهما لا بما بات يوصف بمنظمة الكيان الموازى الإرهابية والتى يتزعمها رجل الدين فتح الله جولين الذى تتهمة السلطات بأنه مدبر المحاولة الانقلابية ، اللهم سردهما تعليقات عشية الانقلاب 14 يوليو فى برنامج توك شو على أحدى شبكات الفضائية فسرتها دولة البصاصين بأنها موالية لجولين باموك قال ايضا ان كل من يتحدث بحرية وينتقد الحكومة ولو بشكل طفيف يتم القبض عليه ووضعه خلف القضبان وأضاف قائلا إن عملية القمع تحركها كراهية متوحشة. ومن الخطأ تصديق ادعاءات رجل الدين فتح الله جولين ، الذى يصور للعالم أنه بريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب ، وللدفاع عن نفسه ها هو يصول ويجول بتصريحاته عبر وسائل الإعلام الدولية ، منددا بالأكاذيب والافتراءات التى تلصقها بلاده ضده ، ويدعو قادة أوروبا لأن يهبوا جميعا ويتخذوا مواقف حاسمة وواضحة ضد ما تقوم به الحكومة التركية من إجراءات قمعية سجنت وعزلت الآلاف من الأتراك وطردتهم من أعمالهم ومناصبهم . غير أن السؤال الذى تبادر إلى ذهن الكثيرين بمن فيهم المناوئون للرئيس رجب طيب اردوغان : أين كان السيد جولين من حمالات الاعتقلات والإقصاء التى طالت المئات من عسكريين ومثقفين وقضاة وصحفيين واكاديميين ، على خلفية ماعرف بمحاولات الاطاحة بحكومة العدالة والتنمية والتى أصطلح على تسميتها بقضيتى الارجينكون والمطرقة ، وسيثبت بعد خمس سنوات كاملة ، أنها كيدية وكاذبة ، ولماذا لم يناشد أهل الفرنجة من الغرب الذى يريد الآن الاحتماء به ، بالتدخل وأنقاذ من وضعوا ظلما وراء القضبان بإتهامات ملفقة لأنه ببساطة كان هو من دبرها واعدها كى ينفذها اردوغان عندما كان رئيسا للوزراء . وهكذا تظهر العملة بوجهيها الظلاميين فكلاهما جزء لا يتجزأ من حالة الفوضى المكتومة ودفع البلاد دفعا إلى أتون من الاستقطابات والاحتقانات فلم يعد هناك شك فى سعى اردوغان ونظامه لهدم العلمانية رغم ما يدعيه وتكريس حكم سلطوى من منطلقات دينية أمام تلك المحاولات الممنهجة شرعت فصائل يطلقون على أنفسهم الاتاتوركيون فى العمل من أجل الحفاظ على ميراث الجمهورية ، يستثمرون فى ذلك حالة الغضب المتنامية فى صفوف المواطنين الذين بدءوا يتكشفون تدريجيا نوايا رئيسهم الحقيقية خصوصا بعدما تبين لقطاع عريض منهم أن المئات من اقرانهم اتهموا ظلما بأنهم من أتباع جولين. هذه المظاهر المشوشة والمضطربة والتى فقدت بوصلتها تنعكس على الاوضاع الحياتية للملايين من الشعب وما قالته مؤسسة التصنيف الائتمانى موديز مؤخرا عن إخفاقات يعانى منها الاقتصاد التركى ما هو إلا نذر يسير ولا زالت ردة فعل الحكومة على محاولة الانقلاب الفاشلة فى 15 يوليو والتى عرقلت مسيرة الإصلاحات المتوقعة بعد اعتقال الآلاف فى قطاع التعليم والمؤسسة العسكرية والقضاء والإعلام مستمرة غير عابئة بالعواقب ولا يبدو فى الأفق ما يشير إلى أنها ستعدل مسيرتها بيد إصرارها المزمن على أن تركيا قوية واقتصادها متين راسخ ، فقط الأعداء وخونة الداخل هم الذين يريدون تدميرها .. ولن يتمكنوا !!