استقبلت عيناها صباحا جديدا لم تختلط سماؤه بعد بخيوط الشمس. جاء ثقيلاً على جفونها, لم يحثها بالقدر الكافى على النهوض، لكنها سرعان ما انتبهت لذلك الصوت الإلكترونى ذى المحبة الخاصة فى قلبها فصارت تردد: «علها رسالة جديدة، وربما ارتفعت الحصيلة طوال الليل...فلنر إذن ماذا ينتظرني». رغم أن ليلها لم يكن واسع الكرم؛ فضن عليها بقليل من النوم, وقلب ذهنها بين صفحات ماض زاخر وحاضر ماكر ومستقبل متأرجح، إلا أن تلك الرسائل ذات الإشارة الخضراء على هاتفها الذكي, القادرة على اجتذاب اليد والمشاعر معاً، كانت سبباً كافياً لنهوضها, بعدما حددت وجهتها تجاه تلك الطاولة التى بات هاتفها ليلته عليها. هى تلك الجميلة التى أنهكتها الحياة, واستلبت منها التكنولوجيا الحديثة دفء علاقات ولقاءات كانت يوماً حقيقية, قبل أن يجذبها بدهاء عميق ذلك العالم الافتراضي. فبدلاً من استعداء تلك التكنولوجيا والبكاء على أطلال ذلك الدفء المفتقد، قررت «هى» أن تلقى بنفسها فى أحضان العالم الافتراضي, حتى صار تطبيق «الواتساب» صديقها الأول وونيسها المنشود وسبيلها للحصول على فرحة لحظية وإضفاء بهجة قلبية على من تحب. بعد انتشار سريع وتقريب للمسافات وتداول لأخبار وقضاء مصالح وإصلاح علاقات وبناء غيرها وفتور أخري، وصل عدد مستخدمى تطبيق «واتساب» حول العالم حتى شهر إبريل الماضى حوالى 800 مليون مستخدم, مع توقع بالوصول لمليار مستخدم حتى نهاية عام 2015. وفى العالم العربى تقاسم تطبيق «الواتساب» وموقع فيسبوك الصدارة فى أكثر وسائل التواصل الاجتماعى استخداماً بين العرب وفق تقرير «وسائل التواصل الاجتماعى فى العالم العربي» الصادر على هامش فعاليات قمة رواد التواصل الاجتماعى التى أقيمت فى مارس الماضى بمركز دبى التجارى العالمى بمشاركة أكثر من 1500 من المؤثرين والخبراء بمجال التواصل الاجتماعي. والمتأمل فى كل بيت مصرى باختلاف أحواله، سيجد دوماً هناك «هي»: سيجد تلك السيدة التي, كبر عمرها أو صغر، وجدت عزاء لها, وبديلاً عن تواصل جاف المشاعر فى الحياة الملموسة, فى تواصل «الواتساب» الافتراضى الذى صار ينقل فى أحيان كثيرة مشاعر صادقة بين مستخدميه ولغة متبادلة ربما لا يقوون على التعبير عنها وجها لوجه بالبراعة ذاتها. كثير من السيدات صرن يستخدمن «الواتساب» فى أنواع مختلفة من التواصل: فهناك مجموعات لتبادل الآراء السياسية، وأخرى لبيع وشراء منتجات منزلية، وغيرها لتبادل المعرفة الدينية والأدعية والأمنيات بلغة عربية فصحى تلامس قلوب ذوى المشاعر المرهفة، وأخرى لمجرد الكلام وتبادل النكات والتعليقات الساخرة من واقع ساخر بطبعه... وغيرها من المجموعات التى تضم- مثلاً- أولياء الأمور لأبناء مدرسة ما، وهذه لوصفات الأكل الشهية... حياة كاملة تتخفى وراء تلك الشارة الخضراء للواتساب, حتى صارت تلك الحياة الافتراضية ترسم أحياناً ملامح اللقاء الحقيقى بين «هي» وأخواتها, فيصير جانب كبير من حديثهن حول : «شفتى النكتة اللى بعتتها فريدة.....أنا بعَتّ لك الفيديو الأخرانى ده بتاع... لا لا لا لازم تشوفى دي.... بصى مها بعتتلى إيه...». «هي» لم تستسلم لذلك الجفاء المحيط؛ «هي» تحايلت على غربة واقعها باحتفاظها بذلك الدفء الكامن فى قلبها ونقله عبر هاتفها لمن تحبهم حتى وإن ضنوا عليها باجتماع فى مكان واحد؛ «هي» لاتزال حائرة بين تلك الإيجابيات الوقتية لذلك الانسحاب التدريجى من الواقع الملموس لحيز الخيال وسلبياته طويلة المدي؛ «هي», وحتى ننتبه لسيطرة التكنولوجيا على مسار حياتنا ونحاول جاهدين الخروج من شرنقتها، لن تقف ساكنة فى انتظارنا, بل ستظل تتجه للجانب المضيء وتسطر حكايتها افتراضياً واضعةً عنواناً لها: «هى والواتساب».