«أنت عربة يركبها كل أسلافك«.. مقولة صادقة كاشفة مختصرة لعلم النفس الحديث.. تعنى أنك لست مولودا خارجا من برنس الأم داخل رحمها إلى العالم الخارجى مفردا مسلحا بلا شيء.. بل انك تحمل داخلك فى الرأس والدم والخلايا شفرة خطواتك المقبلة على الأرض متوارثة عن الأجداد الخفيين الذين يركبون عربة «اللاشعور» داخلك.. ويوجهونك أحيانا دون أن تدرى سبب تصرفك.. اللاشعور إذن يحركك دون أن تشعر ومن هنا سمى «اللاشعور» انه بمنزلة مهندس تخطيطى خفى يوكل أعمال الفعل إلى المهندس التنفيذى «الشعور» لإخراج النص إلى حيز الوجود. وأثناء كتابة احدى مسرحياتى بحثت عن الجذور الأولى لظاهرة الأخذ بالثأر فى الصعيد.. هل هى الرغبة العارمة فى الانتقام من القاتل أو أحد أفراد أسرته الأقربين.. وهذا هو الشائع «الانتقام حتى تبرد النار»؟ ووجدت أن السبب الحقيقى الخفى ليس كذلك وانما هو الرغبة فى إراحة «القتيل» المظلوم فحسب المعتقد الخفى أن روح القتيل تظل هائمة على الأرض.. قلقة.. معذبة.. ولا تصعد إلى السماء إلا بأخذ القصاص من القاتل.. أى أن الهدف ليس الانتقام من القاتل وانما راحة القتيل ولعل هذا هو السبب فى انهم لا يقيمون له سرادق عزاء إلا بعد الأخذ بالثأر له وصعوده للسماء. وقد اتيح لى أخيرا أن أقرأ كتابا أدبيا فى أسلوبه علميا محيطا عن المرأة باسم «نساء يركضن مع الذئاب» من وضع ولا أقول تأليف العالمة النفسية.. كلاريسا بنكولا وهى أمريكية الجنسية ذات أصول مكسيكية وإسبانية وكذلك مجرية بالتبنى وكرست من عمرها عشرين عاما فى الدراسة والمقارنة والتحليل لتخرج لنا هذا الكتاب «نساء يركضن مع الذئاب» والكتاب من ترجمة: مصطفى محمود (والطبيب النفسى أو العالم السيكولوجى شيء والعالم الروحانى شيء آخر تماما.. فالأول يدرس الطب أولا وتشريح الإنسان والدخول عمليا إلى خريطته العجيبة ثم يكمل دراسته فى فروع العلم الأخري.. أى أن له أساسا متينا من العلم والدراسة بينما العالم الروحانى كما يطلق على نفسه «دكتور روحاني» انما هو رجلا كان أو امرأة يعتمد على تهويمات خيالية لا أساس لها من الواقع ليصل إلى نتائج وعقاقير غالبا ما تعتمد على الخرافات أيضا والقانون يعتبره مشعوذا). تتبع الدكتورة كلاريسا بنكولا الحاصلة على الدكتوراه والممارسة للطب مدرسة العالم النفسى الفذ «كارل يونج» الذى تخصص فى النفاذ إلى «العقل الجمعي» للإنسان حيث المنطقة المظلمة الحية والمتوارثة منذ الإنسان الأول فى الغابة.. متتبعا حياة الشعوب بداية من فجر العقل البشرى حين كان يحاول تفسير الظواهر الغامضة للكون حوله حسب خياله ومن خلال القوى الخفية كأرواح الأجداد.. والحيوان.. والشجر والريح والشمس.. الخ.. وفى سبيل دراستها عن مكنون المرأة تلجأ الطبيبة إلى الأسطورة قصص الخيال الأولى وترى أنها كامنة ومطمورة داخل الشريط الوراثى للمرأة وهذا علميا صحيح من أمثال أسطورة «امرأة الهيكل العظمي» عند الاسكيمو.. و«ذات الرداء الأحمر» و«جلد الفقمة» وغيرها من أساطير الشعوب والتى تكاد تكون متشابهة فى معظم شعوب العالم.. لتكون فى النهاية «لاشعورا» أو «لا وعيا» متقاربا بينها جميعا. وكمعلومة تدعو للتأمل والدهشة فان العقل البشرى يحتوى على مئات المليارات رقم مخيف من الخلايا العصبية التى تعمل كمنظومة واحدة لتخزين وتوصيل المعلومات إلى كل أجزاء الحس بالجسم للتصرف فى «لازمن» تقريبا.. أو بحسب التعبير العلمى الحديث فى «فيمتو ثانية». هذا العقل البشرى هو اعجوبة الأعاجيب «للذين يتفكرون».. وأما ما تعنيه الدكتورة الدارسة فى الكتاب القيم هو دراسة تاريخ عقل وجسم وغرائز المرأة عبر ترسباتها الجيولوجية فى الجسد والعقل والنفس.. تلك التى تحركها وتشكلها وتعطيها حريتها غير المحاصرة نفسيا طفلة وفتاة.. وناضجة وأما وراعية للأطفال ومورثة لهم جيناتها وأفكارها للمستقبل وهذه خطورة المرأة التى قد لا تكون نصف المجتمع وانما المجتمع كله! والمقصود بالعنوان «نساء يركضن مع الذئاب» العودة للمنابع الأولى للمرأة منذ أيام الغابة.. حين كانت الحياة وحشية قريبة من حياة الذئاب حيث حياة الذئاب جماعية.. وتنطوى فيما بينها على صفات الجماعة والتعاون والوفاء ورعاية الصغار والتكافل التام فيما بينها. الإنسان ليس مجموع أجزائه ولا مجموع ذراته ولا أسير خلاياه وغرائزه ونزواته.. وانما الإنسان أعلى من ذلك .. فهو يملك «الوعي» ميزته الكبري.. الراقية والمحيرة معا.. يملك ادراك «الأنا» فلا يتوه عن نفسه إلا ان فقد عقله أو أصيب فيه كما يحدث فى حالات «الزهايمر».. ويظل العقل البشرى مجالا للدراسة.. يكتشف فيه العلماء أسراره كلما تقدم العلم.. وهى مهمة صعبة جدا.. لكن حب المعرفة لا يتوقف.. فمن كان يصدق أن العلم سيعمل خريطة للخيط داخل الخلية ذاك الذى يحل الجينات كبطاقة شخصية أو رقمية لكل فرد.. أو امكانية تغيير أحد الجينات داخل تلك البطاقة لهدف ما أو الوقوف ضد مرض ما..نحن فى عصر «العلم».. والعلم أكثر ابهارا من الأدب والفن.. فيكفى أن تصور قطرة ماء ساقطة فى زمن سريع لترى التاج الملكى الكامل الذى تشكله لحظة سقوطها.. والذى يعجز الفن التشكيلى عن تصويره.. أو حتى رؤية الفيروس القاتل تحت الميكروسكوب الالكترونى الحديث.. هذا القاتل الذى يملك شكلا جميلا لا يصدق.. لماذا ولأى هدف لا أحد يعرف! العالم مليء بالأسرار.. والعلم هو مركبتنا الفضائية إلى داخل هذا العالم.. والتكنولوجيا هى وسائل المواصلات الحديثة.. ويتبقى السؤال.. ماذا يريد الإنسان فى النهاية؟ المترجم: الأستاذ مصطفى محمود الذى يشترك مع الدكتور مصطفى محمود صاحب العلم والإيمان فى اسمه.. وفى المعرفة الموسوعية لكل منهما وان اختلفا فى زاوية الرؤية.. وترتقى ترجمات مصطفى محمود صاعدة كل درجات سلم المعرفة الإنسانية بدءا من الأسطورة وحتى آخر النظريات العلمية الحالية والمستقبلية فقد صدر له أخيرا كتاب «قضايا علمية تشغل العالم» عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.. وهو واع لاختياراته فيما يترجمه هادفا لاستنارة العقول. لمزيد من مقالات بهيج اسماعيل