الحياة لا تسير في أي بلد من البلدان, أستاذ القانون الدولي ومنها بالطبع مصرنا العزيزة المحروسة علي وتيرة واحدة قوامها السلام والأمن والهدوء, بل تفاجئها بين الفينة والفينة, بعض من النوازل والحوائج والنوائب, تحدثها الحروب أو الثورات أو الاضطرابات الداخلية, تجتاز خلالها أوقاتا عصيبة تتعرض فيها سلامتها وأمنها لأشد الاخطار إلي الحد الذي تقصر معه التشريعات العادية عن مواجهة هذا الظرف الاستثنائي, ويكون من المتعين معه الالتجاء إلي مواجهة ذلك الظرف باتخاذ إجراءات استثنائية تمكنها من السيطرة علي زمام الأمن في البلاد, وتساعدها علي المحافظة علي كيانها وسلامتها. ويجمع القاصي والداني في مصر, أن الأوضاع السياسية, والأمنية, والاقتصادية, وغيرها منذ إقصاء النظام السلطوي المستبد البائد, وبعد ثورة25 يناير المجيدة قد تغيرت بشكل كبير, مما استلزم علي المؤسسات الدستورية في البلاد, ومنها البرلمان, والمجلس الأعلي للقوات المسلحة أن يصدرا قانونا يعدل مباشرة الحقوق السياسية والمدنية في مصر, والذي يعرف شعبيا بقانون العزل السياسي, وقد تعلل نفر من المعارضين لذلك القانون, بأن القانون المشار إليه ينتهك الحقوق الأساسية للإنسان والتي تأتي حقوقه السياسية في الاقتراع والترشح للمناصب السياسية وغيرها, موقع القلب والجوهر من هذه الحقوق, وتشدق هؤلاء بأن مصر إحدي الدول الأطراف في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والذي يكفل للأفراد في دولهم ذات السيادة الحق في مباشرة الحقوق المشار إليها. ناصر هؤلاء البعض الذين زعموا بأن المحكمة الدستورية العليا ذاتها سبق وأن قضت بتنفيذ الحقوق الأساسية للإنسان التي كفلها الدستور واعترافها أيضا بالقيم والأعراف العليا العالمية, التي تفوق الأحكام الدستورية في مجال حقوق الإنسان, فضلا عن أن سيادة القانون تعد أساسا للشرعية الدستورية, وضرورة خضوع جميع الجهات في الدولة لسيادة القانون, بيد أن هؤلاء المتشبثين بعموم نصوص العهد أغفلوا عمدا النصوص الصريحة المباشرة لذلك العهد, وتحديدا المادة الرابعة منه والتي تنص علي أنه: في حالات الطوارئ الاستثنائية التي تتهدد حياة الأمة, والمعلن قيامها, رسميا, يجوز للدول الأطراف في هذا العهد أن تتخذ تدابير لا تتقيد بالالتزامات المترتبة عليها بمقتضي هذا العهد, شريطة عدم منافاة هذه التدابير للالتزامات الأخري المترتبة عليها بمقتضي القانون الدولي وعدم انطوائها علي تمييز يكون مبرره الوحيد هو العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الأصل الاجتماعي. ولقد حدد العهد الحقوق الأساسية للإنسان التي لا يجوز للدول أطرافه أن تقوم بتقييدها, وليس من بين هذه الحقوق: الحق في مباشرة الحقوق السياسية والمدنية, حيث تحدث عن الحق في الحياة, والتحرر من التعذيب, والتحرر من العبودية, وحرية العقيدة. ما من شك أن الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مصر الجديدة بعد ثورة52 يناير المجيدة قد تبدلت وتطورت, وقد يكون ما قضت به المحكمة الدستورية العليا بالأمس لا يتناسب ولا محالة مع ظروف اليوم, فإذا كانت المحكمة الدستورية العليا في ظروف الأمس أي ما قبل ثورة52 يناير قد انحازت وبحق للحقوق الأساسية للإنسان والحريات العامة لجميع المواطنين المصريين, بيد أن الأمر جد مختلف مع ظروف اليوم, أي الظروف الأمنية والسياسية في المقام الأول, والتي أصبحت تتهدد مع استمرار بقايا النظام البائد القديم التي تعيث في الأرض فسادا, ولا تهنأ بأي استقرار أو سلم أو أمن لهذا الوطن الحبيب, مما يستدعي المحكمة أن تعدل عن بعض أحكامها القديمة التي أصبحت لا تواكب التطورات الثورية, والظروف الاستثنائية الحاصلة والمتغيرة الآن في مصر الجديدة. جلي أن مصر ليست من الدول التي يقرر نظامها القانوني مبدأ حجية السابقات القضائية والمعروف في النظام القانوني الأنجلوسكسوني, ومن ثم فليس هناك ما يحول دون مراجعة بعض المبادئ التي قررتها الأحكام السابقة للمحكمة, والتي كانت قد قررتها وسنتها في ظروف عادية طبيعية, لا تمت بأي صلة لواقع الحال الآن في مصر, فالحاجة ماسة إلي مراجعة الأحكام السابقة للمحكمة الموقرة, والوضع في الاعتبار ما طرأ بعد صدور هذه الأحكام بسنين عدة من تطورات سياسية, واجتماعية, واقتصادية تستوجب تلك المراجعة. ويظل الأمر في النهاية مرتبطا بسياسة المحكمة ومدي قدرتها علي التوفيق بين اعتبارات الاستقرار والاستمرار, واعتبارات الرجوع إلي الحق حين يتكشف وجه الخطأ. إن نظرية الضرورة التي أقرتها الأنظمة الدستورية المتتابعة في ألمانيا تنادي بأن الدولة أوجدت القانون, لتحقيق مصالحها, فلا تخضع له إذا كان تحقيق هذا المصالح يتنافي مع أحكامه, فالقانون وسيلة لتحقيق غاية هي حماية الجماعة, فإن لم تؤد القواعد القانونية إلي تحقيق هذه الغاية فلا يجب علي الدولة الخضوع للقانون وعلي الحكومة أن تضحي به في سبيل الجماعة, من ذلك أنه إذا صادفت الحكومة ظروف خطيرة تهدد السلامة والنظام العام, يمكنها عندئذ مواجهة الحال باتخاذ تدابير سريعة هي أصلا من اختصاص السلطة التشريعية وأن الحكومة تكون في مثل هذه الأحوال مضطرة إلي العمل تحت مسئوليتها بكل ما تملك من الوسائل, وعلي البرلمان بعد ذلك أن يصلح الأمور بتصديقه اللاحق علي ما صدر مخالفا للقانون. لقد تبنت العديد من المحاكم الدستورية في أوروبا, ومن بينها الألمانية والنمساوية والإيطالية, مبدأ قانونيا مهما وهو العدول عند مبادئها القانونية السابقة, والتي اعتنقتها بمناسبة الفصل في الدعاوي الدستورية, مما يعني نقص الحجية المطلقة لأحكامها, وذلك في حالة واحدة وهي إذ تغيرت الظروف والأوضاع للمجتمع لاعتناقه أفكارا جديدة وقيما تؤدي إلي إمكانية تغيير في الحكم في المسألة الدستورية, وعللت هذه المحاكم اعتناقها مبدأ دستوريا جديدا, وقضاءها المختلف عما سبق أن أصدرت من أحكام دستورية تخالف ما ارتأته من قبل يأتي استنادا إلي أن من سلطاتها اعتناق أفكار وقيم جديدة للمجتمع عبر عنها الدستور ضمنا, وما يمكن أن يعكس تفسيره من تأويلات مختلفة في ظل تطور الظروف, والتطورات اللاحقة في المبادئ الأساسية للنظام القانوني لما يمكن أن تؤدي إليه هذه التطورات من حلول مختلفة. إن عدول المحكمة الصريح عن بعض السوابق أمر يبعث علي الثقة, بها ويكشف عن مدي حرصها علي مواكبة التطورات المختلفة الحاصلة في السياق المجتمعي المصري, مؤثرة التعرض للصدمة الناتجة عن هذا العدول, من الالتجاء إلي تصورات وتفريعات مصطنعة لتبرير الخروج علي السوابق القديمة التي تكتشف عدم ملاءمتها للواقع القانوني والسياسي والمتغير.