حالة من الانهيار شبه الكامل يتعرض لها الفلاح المصرى ترجع إلى أسباب عديدة، ولعل أبرزها مايتعرض له يوميا من حالات من التجريف المتعمد جراء ذلك الظلم الواقع عليه خلال العقدين الماضيين، حتى أصبحت زراعة الأرض هما ثقيلا يقع على عاتقه، فلاهو استطاع أن يؤمن مأكله ومشربه من قتات ما يزرع ويحصد، ولا حتى استطاع أن يوفي بحق الحكومة في توريد القمح والأرز والقطن، طالما وقع فريسة مافيا الفساد الذي استشرى في جسد الأمة كالخلايا السرطانية، ناهيك عن عمليات قتل الحياة الطبيعية فى ريف مصر بسبب صفقات المبيدات المحرمة دوليا إلا على إخواننا وأبنائنا من الفلاحين البسطاء فى مصر التى لم تعد محروسة بفعل بعض أبنائها·لقد استطاع الفلاح المصرى طوال تاريخه الطويل وعبر آلاف السنين أن يبنى حضارة على ضفاف النيل معتمدا على العشب والحب والطمى الذى يمنحه فيضا من الخير دون مقابل، ولقد أراد المولى عز وجل، وبفضل سواعد هذا الإنسان الأسمر أن ترتوى العيدان وتزداد طولا وتتمايل فى خيلاء مثقلة بالثمار، ومعلنة فى ذات الوقت التحدى الكبير فى وجه عواصف الحياة وأنوائها التى ظلت تلازم الإنسان المصرى الذى احترف مهنة الفلاحة، ولم يأت يوم يقصف فيه عوده النحيل سوى فى تلك الأيام التى نعيشها·لقد جاءت مرحلة الانهيار لصاحب أكبر حضارة زراعية فى التاريخ على أيدى بعض أبنائه من الخونة وأصحاب الذمم الخربة، الذين راقت لهم فكرة ابتزاز هذا الإنسان البسيط، ملح الأرض الذى كانت تحكى عنه الأساطير، عندما حلقت طائرات رش دودوة القطن لأول مرة فى سماء قرانا -سبعينيات القرن الماضي- وكنا وقتها قد استبشرنا خيرا بعدما تمردت الأيدى الطفولية الصغيرة على «النقاوة» اليدوية، فلم نكن ندرك أنها بداية المؤامرة، فعلى جناح تلك الطائرات المحلقة فى ريفنا الغض كثرت المصائب، واتسعت دوائر الخراب المستعجل، واختفت أهم ثرواتنا النادرة التى منحها الخالق سبحانه للفلاح المصرى دون مقابل، أبوقردان صديق الفلاح الشهير، وأبو فصادة صاحب الخيلاء فى مشيته الرشيقة، والهدهد الحزين عندما كان يفرد جناحيه فى حنو قبل أن يلتقط الدود، وجيوش العصافير بألوانها وأشكالها المتعددة التى كانت تملأ الدنيا مرحا بزقزقاتها التى كانت بمثابة سيمفونية كونية رائعة، حتى الغراب الذى كان العدو الوحيد للفلاح، لم يسلم من الرذاذ القاتل، وفوق كل ذلك ثروتنا السمكية التى كانت تمرح فى القنوات والمصارف وحقول الأرز ما قبل مواسم الحصاد، لقد كانت البروتين والفسفور المجانى الوحيد لأبناء الريف من البسطاء والأجراء الذين احترفوا صيدها قديما. انفرطت سنوات عمر الفلاح المصرى كالمسبحة عندما ترتطم بأرض رخامية، ونحن نحتفل بالذكرى ال64 لأول احتفال بعيد الفلاح فى مصر(9 سبتمبر 2016)، وهى المناسبة التى واكبت صدور قانون الإصلاح الزراعى الذى أصدره الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فى عام 1952 تنفيذًا لمبدأ القضاء على الإقطاع، وهو أحد المبادئ الستة التى قامت عليها ثورة 23 يوليو، وقد تم اختيار يوم 9 سبتمبر لإصدار قانون الاستصلاح الزراعى إحياءً لذكرى وقفة ابن محافظة الشرقية الزعيم «أحمد عرابى» لمواجهة ظلم الخديو توفيق فى عام 1881، وهو نفس الظلم الذي يواجهه الفلاح المصري الآن مع اتساع حجم المشكلات الناجمة عن عدم تفعيل المواد الخاصة بحقوق الفلاحين، والتى تضم تفعيل التأمين الصحى للفلاحين، وتفعيل معاش الفلاح، وشراء الحكومة المحاصيل الاستراتيجية بأسعار تتناسب مع الفلاح، وغيرها من حقوق مشروعة. لقد تقاعس البرلمان في دورته المنتهية عن ذكر أي شىء يخص الفلاح يعاني كوارث وحوادث أصبحت موسمية، مثل إنفلونزا الطيور والخنازير والحمى القلاعية وارتفاع أسعار الاسمدة، وفي ظل إهمال شبه متعمد من جانب لجنة الزراعة بالبرلمان، فلم يتحرك النواب خلال دور الانعقاد الأول لتفعيل مواد الدستور الخاصة بالفلاحين، رغم ارتباطها بعدد من الأزمات التى تتمثل بأزمة تسلم القمح، وكشف الفساد بعمليات التوريد، وأزمة زراعة الأرز، وغيرها من أزمات متفاقمة، رغم أن غالبيتهم من أبناء الفلاحين، أو من يحترف مهنة الزراعة وغيرها من مهن تعتمد على ما تنتجه الأرض من ثمار. وما يدعو للدهشة أكثر أن أحد النواب وهو عضو بلجنة الزراعة والرى بالمجلس، علق على حجم المشكلات التى تواجه الفلاحين في جلسة 8 سبتمبر الماضي ، قائلاً: «كان هيبقى عيد حقيقى للفلاح لو تم تفعيل المادة 29 من الدستور»، مؤكداً سعيه الكامل لجلب حقوق الفلاحين المنصوصة بالدستور قبل عيد الفلاح بالعام المقبل»، وتابع أن اللجنة ستعمل خلال دور الانعقاد الثانى على جلب حقوق الفلاحين بصورة أكبر، من خلال تطبيق مواد الدستور، وذلك للحاجة الشديدة للفلاح بصورة دائمة، قائلاً: «المصريون بيعيشوا على حساب الفلاح». إذا كان الفلاح يا سيادة النائب هو مربط الفرس في حياة المصريين الذين يعيشون على حسابه - كما تقر وتعترف - أليس جديرا بالإنسان الذي يمتهن أقدم حرفة في التاريخ أن يكون أولى بالرعاية والعناية بدلا من خوض مناقشات غير مجدية حول صحة العضوية من عدمه، أو الاستغراق الممل في صغائر لاتمس حاجات الناس بقدر ما تتعلق بمكاسب شخصية ترجمها كثير من النواب في صورة «شو» إعلامي فتح شهية كثيرين منهم أمام الميكرفون إلى الحد الذي تصور بعضهم أن اعترافه بالضعف الجنسي يعد نوعا من البطولة، بالله عليكم كيف تتركون ذويكم من الفلاحين هكذا عرضة لمصاصي الدماء من هؤلاء الفاسدين الذين لا يبالون بمن لا ذنب لهم فى الحياة سوى العمل بجد واجتهاد، فى انتظار حصادهم الملوث الذى يصيبهم ويصيب أبناءهم بالموت البطىء·نحن لم ندرك منذ سنين لماذا تراجعت المحاصيل الزراعية فى بر مصر، لأننا يوما لم نشك فى أن أحد المسئولين قد بلغ به التدنى إلى حد استيراد الموت من الخارج إلى هنا، وعندما تراجع القطن المصرى صاحب الشهرة العالمية لم يسأل مسئول أيا كان عن الأسباب الحقيقية، وأرجعنا ذلك إلى ضعف الفلاح المصرى، ولم ندرك أن المبيدات المسرطنة أصابته قبل القطن بالفشل الكلوى والكبدى، وعرفت الوحدات الصحية البسيطة أنواعا معقدة من السرطانات التى لم تعرف طريق الفلاح سوى على جناح تلك المبيدات، وإن زيارة واحدة أيها السادة النواب لأى من قرى مصر التى تبلغ 4 آلاف قرية سوف تصيبك بالحسرة والأسى، فالنعوش وقصص الموت وحكايات الأمراض المستحدثة أصبحت على لسان الفلاحين، أمرا اعتياديا يوميا باختصار شديد بين الأشجار والنباتات والنخيل فى ريف مصر الآن تسكن آلاف المآسى الإنسانية التى تحكى كيف تم تجريف حياة الإنسان الريفى المصرى، الذى يواجه الموت يوميا بفعل فئة من أصحاب الذمم الخربة الذين يستحقون المحاكمة بتهمة الخيانة العظمى، ولا ننسى أن «نجرجر» كل من يقف وراءهم.