ولكن اسمحوا لى هنا أن أقول لكم إنه طوال مشوار حياتى الصحفية فى الأهرام.. عشت مواقف صحفية بعضها شديد الإحراج.. وبعضها عجيب غاية العجب.. وبعضها يميل إلى الغرابة وأحيانا إلى السخرية بل ويثير الضحكات.. تحت مسمي: «شر البلية ما يضحك»! لنبدأ بحكاية الرجل العجوز القادم بالقطار من السنبلاوين كما قال لنا.. والحكاية أن الأستاذ محمد حسنين هيكل فى بداية مشوارى فى الأهرام.. عندما كان لايزال داخل مبناه القديم فى شارع مظلوم فى وسط البلد.. قال لنا فى اجتماع مجلس التحرير الذى كان ينعقد فى التاسعة من صباح كل يوم وليس الحادية عشرة كما يحدث الآن أريد تحقيقات انسانية تهم الناس.. ابعدوا عن الياقات المنشاه والبابيون والجزمة اللميع.. أريد حياة.. أريد أشياء إنسانية بالدرجة الأولي.. عيشوا مشاكل الناس.. خصوصا على صفحات الأهرام.. ونزلت مع الأستاذ محمد يوسف كبير مصورى الأهرام أيامها الذى قال لى بأدبه الجم: شوف يا عم عزت يا بني.. أنت تكلم الناس وسيبنى أنا أصور بمعرفتي! .................. .................. وذهبنا إلى محطة مصر لنستقبل الناس القادمين بالقطارات يحملون همومهم وهموم عيالهم إلى العاصمة.. لعلها تربت على أكتافهم وتسمع شكواهم.. وتحمل بعضا من همهم.. ووقع نظر عمنا وتاج راسنا محمد يوسف على رجل أكل منه الدهر وشرب وهى عبارة تعلمناها فى المدارس صغارا علامة دخوله مرحلة الشيخوخة والعجز.. يحمل «سبتا» مغطى لا نعرف ماذا بداخله.. وقال لي: هو ده اللى أنت بتدور عليه يا عم عزت.. يللا بسرعة قبل ما يزوغ منك.. أنا خلاص أخذت له كام صورة على الماشي.. وهو كده موش دارى بالدنيا! قلت للقادم من الأرياف: مرحبا يا عم الحاج.. على فين العزم؟ قال لي: أنت عارفنى واللا ايه.. أنت من السنبلاوين عندنا؟ قلت له: كل أهل مصر.. أهل وقرايب ونسايب.. على فين العزم؟ قال: على باب الله.. أهلى وناسى وأولادى موش عاوزني.. جيت أقرأ الفاتحة للحسين والسيدة زينب.. يمكن ربنا يهديهم! اقترح علينا عمنا محمد يوسف أن نجلس على مقهى الساعة فى محطة مصر.. قائلا: أنا عازمكم على فنجان قهوة.. ................ ................ جلسنا وتحدثنا.. وعمنا محمد يوسف هات يا تصوير.. سألت جدنا القادم من بحري: عيالك عاملين معاك ايه يا عم الحاج؟ قال: أخذوا اللى حيلتى كله اسأله: قد ايه؟ قال: نص فدان وبيت ملك من جدى الكبير اللى جه من الاستانة مع محمد على باشا الكبير واستقر فى بلدنا.. اسأله: سبت لهم الأرض والبيت؟ قال: ايوه.. ما هى الستات شغالة زن على ودان الأولاد من ورانا! اسأله: ستات مين؟ قال: زوجات أولادنا.. البركة فيهم! أسأله: طيب جيت ليه مصر؟ قال وهو يتنهد: من غلبي.. مافيش حد عاد بيحترمنى أو يهتم بيا بعد ما الحاجة أم الأولاد ربنا افتكرها.. قلت اشتكى للسيدة وللحسين! اسأله: وهتنزل فين فى مصر؟ قال: فى لوكاندة قالوا لى إن اسمها «خد الجميل» فى العتبة وقالولى كمان عليها إنها رخيصة وبنت حلال! .................. .................. وكتبت الحكاية مع صور عمنا محمد يوسف واختار لها العبقرى صلاح هلال رئيس صفحة التحقيقات أيامها عنوانا عبقريا مثله يقول: الزن على الودان.. يورث الجنان! لم تمض أيام حتى فاجأنا عم بشير عامل الساعة يقول لنا وهو يلهث: الحقوا السنبلاوين كلها على الباب بتدور عليك! دخلت إليهم فى صالة التحرير لأجد أولاده وبناته يبكون وقد أمسكوا فى خناقي: عاوزين أبونا وديتوا أبونا فين وحياة أبوك.. هو فين دلوقتي؟ قلت لهم: تعالوا معايا.. وذهبنا كلنا إلى شارع محمد علي.. وسألنا على لوكاندة خد الجميل.. لنجد صاحبنا جالسا سارحا فى ملكوت الله وحده فى بهو اللوكاندة العتيقة.. ليرتمى أولاده فى حضن أبيهم وتنهمر دموع الأب وهو يحتضن أولاده وأحفاده ومعها دموعى أنا.. .. وصور يا عم محمد يوسف! .................... ................ ومازلت اذكر فى أيام صولجان وهيلمان وسطوع نجم الزعيم جمال عبدالناصر.. أن وقع خطأ جسيم يقطع رقابى كما يقولون خطأ غير مقصود طبعا فى مانشيت صحيفة صديقة هى صحيفة الأخبار التى كان يرأس تحريرها أيامها الأب الروحى للصحافة المصرية الملقب باسم مصطفى أمين والذى منحنى أول أجر فى مشوارى الصحفى وكنت أيامها مازلت طالبا فى قسم الصحافة بكلية الآداب عندما منحنى مكافأة على خبر مهم جدا حصلت عليه.. ورقة بخمسة جنيهات ووقع عليها بقلمه وقال لى لا تصرفها يا عم عزت.. لأنها ستصبح ثروة صحفية عندما تكبر ولكننى صرفتها أنا وجيهان رشتى زميلتى فى الكلية.. وضاعت الورقة أم مليون جنيه! أقول: وقع خطأ جسيم عندما كتبوا مانشتات بالأحمر فوق ترويسة الأخبار: مصرع السفاح.. والسفاح هنا هو محمود سليمان السفاح الشهير الذى دوخ الدنيا بحالها خلفه.. حتى حاصرته الشرطة فى المقابر وامطروه بألف رصاصة ورصاصة.. وتحت المانشيت الذى يقول كلماته مصرع السفاح وتحته على طول مانشيت آخر يقول على ما اذكر: جمال عبدالناصر يفتتح مشروعات جديدة.. وقامت الدنيا.. ولم تقعد وطارت أيامها «رقاب صحفية وغير صحفية!» .................. .................. ولعل أغرب حكاية ورواية حدثت لى فى شبابى الصحفي.. عندما كنت قادما من الإسكندرية فى ديزل الساعة الرابعة بتاع رجال الأعمال بعد خبطة صحفية اكرمنى الله بها فى الإسكندرية ليس هذا مكان فتح ملفها.. وقبل انطلاق الديزل المجرى المكيف بدقائق.. فاجأتنى سيدة شيك ملأ عطرها عربة الديزل كلها.. كانت تحمل طفلة بين يديها بقولها لى فى رقة ودلال: من فضلك ممكن تخلى الأمورة دى على حجرك لحد بس اما ادخل الحمام.. موش عاوزة اسيبها لوحدها قلت لها وأنا احتضن الأمورة الصغيرة واضعها فى حجري: أهلا بالقمر! وكلمة القمر هنا تعود للطفلة وليس من كانت تحملها التى كانت تحمل وجه الممثلة العالمية انجريد برجمان،، وتحرك الديزل.. وانتظرت أن تحضر الأم الشيك لتأخذ طفلتها دون جدوي.. وسألت مفتش القطار وكل الكمسارية وكل من يمر بى حد شاف ست شيك كانت تحمل هذه القمورة الصغيرة؟ ولكن لا جواب.. حتى وصلنا محطة باب الحديد.. وسلمت امرى لله وحملت الطفلة.. بين يدي.. لكى اسلمها لناظر محطة مصر.. وما كدت أهبط من سلالم العربة.. حتى وجدت عساكر وسيدة تصرخ: ايوه هو ده.. دى بنتنا.. والأفندى ده اللى هو أنا أيامها هو اللى خطفها! ورحنا كلنا بربطة المعلم إلى غرفة حضرة ناظر المحطة ومن حولنا رجال الشرطة بجلالة قدرهم.. وبعد سين وجيم عرفوا الحكاية من فمي.. وعرفت أنا الحكاية من فمهم ايه الحكاية بقي؟ انتم تسألون؟.. الحكاية أن سيدة كانت تحوم فى محطة مصر فى الإسكندرية تبحث عن رزق ليس حلالا طبعا.. فريسة.. أى حاجة.. حتى فاجأتها أم هذه الطفلة تطلب منها أن تضعها فى حجرها حتى تدخل دورة المياه.. فأخذت الطفلة النائمة وهربت بها.. وصعدت إلى الديزل المسافر إلى القاهرة ولما وجدت الديزل المجرى سوف يتحرك.. اعطتها لى بحجة الذهاب إلى دورة المياه. وكان ما كان.. وكان فى انتظارنا فى محطة باب الحديد.. خالة الطفلة وعمتها بعد أن اتصلت بهما أمها المسكينة تليفونيا.. وقد قامتا بدورهما بابلاغ الشرطة.. وأصبحت أنا السارق الوحيد،، وكانت حكاية من حكاوى الزمن الجميل.. .................. .................. وإذا كان خطأ واحدا فى كلمة وهو خطأ غير مقصود طبعا.. قد تسبب فى سقطة لغوية على صفحات الأهرام.. لم تحدث فى تاريخ الأهرام كله والحمد لله.. فقد تسببت ماكينات الأهرام الصحفية أيام جمع الحروف الرصاص.. التى اسمها «اليونيتب والانترتيب».. ويوجد منها نموذج فى مدخل الاهرام الرئيسي.. لمن يريد أن يتفرج أقول نسيت.. لقد نسيت هذه الماكينة دون قصد طبعا.. فى هذه الواقعة الغريبة الطريفة والتى قلبت المأتم فرحا وانبساطا.. ايه الحكاية؟ الحكاية اننى كنت يومها سهرانا فى الأهرام فى المبنى القديم فى شارع مظلوم فى باب اللوق.. قبل أن ينتقل إلى مبناه الحالى فى شارع الجلاء.. وكانت الطبعة الأولى للأهرام تنزل السوق فى نحو الحادية عشرة مساء. وبينما أنا أهم بالخروج من المبنى لألحق بقطار القناطر الخيرية بلدى وموطنى أيامها.. إذا بأحدهم يمسك بيدى ويقول لي: والنبى أنا عاوز أنزل نعى عندكم؟ أسأله: عندنا فين؟ قال: فى الجرنان طبعا..أصل أبويا مات فى البلد وما حدش هيعرف ولا ييجى يعزى إلا إذا نشرنا النعى فى الأهرام.. لان كل البلد والدنيا كلها بتقرأ الأهرام! قلت له: خلاص الطبعة الأولى هتخش المطبعة دلوقتي.. واللا يمكن زمانها دخلت! قال لي: أرجوك ودينى حتى للأستاذ هيكل هو هيوافق ينشره وهندفع الفاتورة طبعا! وأخذت عمنا صاحب النعى إلى الأستاذ نجيب كنعان مدير التحرير.. وكان لايزال فى مكتبه.. ولكنه قال لي: موش ممكن.. المطبعة زمانها دارت! ولكن بعد إلحاح من صاحب النعى وقبلة فوق رأس عمنا نجيب كنعان.. وافق الرجل.. وكتب فى آخر النعى عبارة: ينشر إن وجد له مكان.. يعنى إن وجدوا له فى المطبعة مكانا فى صفحة الوفيات! وفى الصباح كانت المفاجأة التى لم تكن فى الحسبان.. ظهر نعى الرجل،، وآخر كلمات تقول أسكنه الله فسيح، جناته.. لتضيف المطبعة من عندها.. تأشيرة الأستاذ كنعان: إن وجد له مكان.. فظهر النعى كالآتي: توفى إلى رحمة الله فلان الفلاني.. أدخله الله فسيح جناته.. إن وجد له مكان! وكانت حكاية ورواية.. واضطر الأهرام لنشر النعى بالكامل مرة أخرى فى اليوم التالي.{ اعتذار واجب: يوم السبت الماضى وفى نفس هذا المكان وتحت عنوان تحقيق السبت الذى أكتبه هنا منذ نحو ثلاثين عاما.. حدث خطأ فى السطر رقم 25 وزحزح حرف من مكانه فأعطت الكلمة دلالات ليست فى قاموس الأهرام، ولا فى رسالته لقرائه عبر مشوار طوله يقترب من ال 150 عاما على طريق الخير والحق والصدق والجمال والفضيلة.. والخبر الصحيح والكلمة الطيبة Email:[email protected] لمزيد من مقالات عزت السعدنى