نعم هناك فوارق سياسية بين الدولة والإخوان في مصر. هذا هو المسوغ الذي بنيت عليه بالأساس شرعية نظام 30 يونيو. لكن ماذا عن علاقة الجانبين بعقل المصريين؟. ثمة فارق جوهري آخر هو أن الدولة توقفت عن الاستثمار في البشر منذ ما قبل أربعين عاما. استثمر الإخوان هذا التكاسل الرسمي من أجل الاشتغال على عقول الناس. لم تكن لدى السادات، ومن بعده مبارك، عقيدة تنموية حقيقية يمكن التعويل عليها اجتماعيا. فلسفة الدولة منذ ذلك الحين صارت تسوغها رؤى البنية الأساسية لخدمة بشر يحتاجون هم انفسهم إلى البناء. وضع نظام ما بعد عبدالناصر الحجر في المقدمة قبل البشر. انظر كيف تبدو شوارع القاهرة اليوم. هذه هي المدينة التي كانت في ثلاثينيات القرن الماضي أجمل مدينة في حوض البحر المتوسط. اليوم صارت القاهرة مثالا للقبح وغياب النظافة في الشوارع والعقول. طوال هذه الأعوام من ترهل الرؤى وتشوشها، كان الإخوان يستثمرون في البشر بطريقتهم. زاد عدد العقول التي تمكنوا من غزوها وفصلها عن محيطها المتأزم، كلما شعر التنظيم بأنه يسير على الطريق الصحيح، وكلما اتسعت دائرة المؤيدين للتنظيم قلت قدرة الناس العاديين على التمسك بهويتهم. لننظر إلى الأمر من زاوية أخرى. مصر دولة عتيقة تؤمن بالبناء والتشييد منذ أكثر من 5آلاف عام. ما حصل عمليا هو أن تشييد المباني تحول من ثقافة مكملة لبناء البشر إلى وظيفة وحيدة للدولة. أهملت مصر المصريين وتركتهم يقفون وحيدين في مواجهة طوفان التشدد القادم من الشرق. كانت النتيجة أن صارت الدولة العريقة مكشوفة من دون عقول يمكن التعويل عليها. الإخوان لا يعملون بهذه الطريقة. خلال عام من الحكم كان التنظيم يستعد لجني ثمار أكثر من 80 عاما من العمل الدؤوب على تجريف العقول. الحلقة الضيقة المحيطة بالتنظيم كانت مستعدة لالتهام الحلقة الأوسع التي تضم باقي المصريين العاديين. في ألمانيا كان الأمر أكثر وضوحا. الفوارق بين مواطن من ألمانياالغربية وأحد أقاربه المقيمين في ألمانياالشرقية خلقت لاحقا دولة مكونة من شعبين. الغرب استثمر في الشعب الأول، والشرق أفسد عقول الشعب الثاني. منذ انهيار حائط برلين وحتى الآن مازال الشعبان يحاولان الاندماج مرة أخرى. تقوم تجربة الدولتين التي شهدتها ألمانيا، وتظهر اليوم بصورة أكثر وضوحا في شبه الجزيرة الكورية، على طرفين يحاول كل منهما فرض عقيدته على شعبه. بغض النظر عن مرادفات الأجندة وأبعادها، على الأقل ظل هناك من يعمل مع البشر ويحاول صياغة عقل جمعي ما. ما عادت المعادلة هكذا في مصر. الإخوان صاروا يلعبون مباراة من جانب واحد, ببساطة لأن المنافس الأقوى اختار الركون إلى الكسل. تأثير التعليم ومدارس الدولة لم يعد موجودا في حياة المصريين اليومية. صارت الخبرة الحياتية والتعلم بالتجربة والدين المكونات الرئيسية لمعرفة المصريين.صار الأمن عقيدة محركة لتصرفات الحكومة ونظرتها لكل المشكلات، حتى بين المسؤولين المدنيين. صرنا نرى رئيس البرلمان يخون نوابا منتخبين ويلمح بعمالتهم أو تلقيهم أموالا من الخارج. الدولة تبدو حائرة وخائفة من كل شيء قد يعيد أجواء يناير مرة أخرى. فتح باب التعيينات الحكومية مرة أخرى من علامات هذا الخوف. بدلا من تحرير السوق وتعديل قوانين الاستثمار وتهيئة الأجواء لمجتمع حر ومن ثم اقتصاد حر، تتجه الحكومة لتوسيع نطاق التوظيف. فكرة التعيين في الوظائف الحكومية لا تتعدى في نظر الحكومة منح أكبر عدد من المصريين معونات بطالة آمنة. في أوروبا يحصل العاطلون على المعونات الاجتماعية عندما يكونون غير قادرين على الحصول على وظيفة. لن تتسبب هذه الأموال في تحول العاطلين إلى المظاهرات أو بناء تنظيم سياسي أو التطلع إلى المجال العام، ببساطة لأن العمل العام متاح ومنفتح على الجميع. نظرة الدولة في مصر مختلفة تماما. الموظف صار مسموحا له الذهاب إلى مقر عمله لقضاء ثماني ساعات دون أن يفعل شيئا، لأن النظام لا يريده أن يفعل شيئا بقدر ما يريد ضمان أن هذا الموظف يقضي ساعات يومه تحت عين الدولة. الوظيفة الحكومية في مصر صارت بطالة خاضعة للتحكم من قبل الدولة التي لا تريد أن يملك الموظف ترفا من الوقت قد يدفعه للانتباه لحقوق أوسع، ومن ثم يتحول إلى عبء أكبر و(تهديد للأمن) وفقا لعقيدتها. هل ستقضي تلك السياسة على أي إرهاصات قد تعيد أجواء يناير مرة أخرى؟. الإجابة لا، ببساطة لأن المصريين لم يخرجوا ويطالبوا بإسقاط النظام حينها من أجل الحصول في النهاية على وظيفة حكومية. المشكلة هي أن الدولة لا تبدو مدركة لاحتياجات المصريين الحقيقية، ولم تقرأ بتمعن مطالب الناس التي دفعتهم إلى التظاهر. الأهداف السياسية لثورة 25 يناير ليس لها مكان اليوم في مصر لأن النظام لا يبدو مستعدا لتحمل كلفتها. لكن ما لا تبدو الدولة قادرة على فهمه هو أن الثورة السياسية توقفت بالفعل، لكن الثورة الاجتماعية لم تتوقف. لم يعد المواطن المصري يفكر اليوم في المشاريع القومية التي تغذي احساسا لديه بالاستقلال الوطني. البعد النفسي المكتسب من نموذج السد العالي صار من الماضي. كل ما يسعى الجيل الجديد من المصريين للحصول عليه هو تعليم جيد وخدمة صحية معقولة وفرص متساوية قد تحقق له ذاته. فهم المصريون أخيرا أنهم أول من يحتاج إلى التنمية في البلد. النظام يبدو غارقا في فلسفة حكم عتيقة وغاصة في الجمود. صار المسئوول في مصر كمن يقود سيارة من أجل اثبات أنه يستطيع القيادة، لا من أجل توصيل الناس إلى حيث يريدون. لن تقود هذه السياسة إلى شيء سوى عودة الناس إلى البحث عن البديل، الذي عادة ما يجدونه في نظرة الإخوان والسلفيين للدين. الأقوى هو من يملك حقا عقل الناس. أخشى أن الإخوان مازالوا هم الطرف الأقوى في مصر. لمزيد من مقالات أحمد أبو دوح