والسؤال إذن: مَنْ هى هناَ أرندت؟ وما هى اليهودية الليبرالية؟ وما العلاقة بينهما؟ هناَ أرندت فيلسوفة ألمانية تتلمذت لفيلسوفين ألمانيين مشهورين هما مارتن هيدجر وكارل يسبرز. نالت درجة الدكتوراه وعمرها 22 عاماً، ولكنها هربت من ألمانيا إثر استيلاء هتلر على السلطة فى عام 1933. وفى عام 1940 رحلت إلى أمريكا حيث عينت فى نهاية المطاف أستاذة للعلوم السياسية بكلية المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية، وهى مدرسة تتميز بإعادة النظر فى مفهوم التنوير. وفى عام 2013 صدر كتاب عنوانه الرئيسى إرث اليهودية الليبرالية وعنوانه الفرعى المحادثة المختبئة بين أرنست كاسيرر وهناَ أرندت. ثم أعيد نشره فى هذا العام وهو من تأليف ند كورثيز أستاذ الدراسات الانجليزية والثقافية بجامعة استرالياالغربية. وواضح من عنوان الكتاب بشقيه الرئيسى والفرعى أنه يدور حول العلاقة بين إرث اليهودية الليبرالية من جهة وآراء كل من كاسيرر وأرندت من جهة أخرى. يتميز هذا الإرث بأن تاريخه متجدد فى مواجهة التحديات المعاصرة. وكانت لدى أرندت رغبة عارمة فى تبنى رؤية يهودية دنيوية، أى يهودية مشاركة فى الثقافة المعاصرة، وهى ثقافة يقال عنها إنها ثقافة ما بعد التنوير الألمانى اليهودى فى نهاية القرن الثامن عشر، وهى ثقافة تتميز باتجاهها نحو التأثير فى اليهود الذين هم ليسوا يهوداً بمعنى اليهود الذين تركوا المجتمع اليهودى أو هربوا منه، ومن أمثالهم الفيلسوف اليهودى سبنوزا. ومن هنا تركز اليهودية الليبرالية على أهمية التاريخ اليهودى فيما بعد الشتات- فى تشكيل الهوية اليهودية مع مراعاة تنوع المصادر الدينية والأدبية والثقافية فى اليهودية المعاصرة، وكذلك مع مراعاة دمج أفكار المفكرين من غيراليهود، من أمثال كانط، فى الفلسفة اليهودية. والغاية من كل ذلك أن تسهم اليهودية الليبرالية فى تكوين هوية يهودية ذات سمة علمانية ومتفاعلة مع العالم غير اليهودى حتى تصبح هوية إنسانية كونية فى مواجهة اليهودية القومية المنغلقة. وكانت أرندت فى هذه الرؤية متأثرة بأستاذها كاسيرر الذى كان قد ارتحل إلى أمريكا وبقى فيها حتى وفاته فى عام 1945. كان ناقداً حاداً للفلسفة الحديثة التى وقعت فى براثن المذاهب المادية التى كانت شائعة فى القرن التاسع عشر، كما كان ناقداً حاداً لاشتراكية هتلر التى هيمنت على الفكر الأوروبى، ومن هنا كان انحيازه للتنوير على نحو مايراه كانط والمتمثل فى سلطان العقل والذى بمقتضاه يكون الفيلسوف هو المشرع للعقل الانسانى. وفى هذا السياق كان كاسيرر ناقداً حاداً للفيلسوفين الألمانيين هيدجر و شبنجلر اللذين كانا لهما تأثير هائل على العقل الألمانى فيما بين الحربين العالميتين من حيث تنبؤهما بانحلال الحضارة. الأول وهو هيدجر كان يقول عن الانسان إنه المُلقى، أى إنه الموجود الذى يولد بلا هوية. وعند تأسيسه لهويته فإنه يؤسسها فى إطار حياته مع الناس ومن ثم يفكر كما يفكر الناس ويحكم كما يحكم الناس، أى يصبح مجرد نسخة من كائن بلا اسم هو الناس وبذلك يقضى الإنسان الفرد على فردانيته، أى على وجوده الحقيقى. أما هناَ أرندت فلم تكن ترى فى التنوير ما كان يراه أستاذها كاسيرر من حيث رؤيته للعقل ،على أنه مجاوز للزمان وللتاريخ، بل كانت على الضد من ذلك إذ كانت ترى العقل فى مسار الزمان والتاريخ. وأظن أن سبب ذلك مردود إلى انشغالها بالمسألة اليهودية. ولا أدل على صحة هذا الظن من أنها نشرت مقالا فى عام 1932 عنوانه التنوير والمسألة اليهودية وجاء على النحو الذى ارتأته. وبعد ذلك نشرت مقالاً فى عام 1943 عنوانه يحتمل رفاهية الانسحاب من العالم بل هو على الضد من ذلك، إذ وهو ينتقل من بلد إلى آخر يكون فى الوقت نفسه من طليعة هذا البلد أو ذاك. ومعنى ذلك أن التاريخ اليهودى ليس منفصلاً عن تاريخ البلدان الأخرى. وإذا قيل عن اليهودى المهاجر إنه يهودى منبوذ فرأى هناَ أرندت أن هذا المنبوذ هو أيضا فى علاقة حميمة مع الشعب الذى يحيا معه. ومن ثم يكون اليهودى كمهاجر أو كمنبوذ تراثاً مستتراً فى الشتات اليهودى. ومن هنا جاء اهتمام أرندت بتحليل الشخصية اليهودية فارتأتها شخصية مكتسبة، ولكن بالرغم من أنها مكتسبة فإنها لا تبارح اليهودى وبالذات يهودى الشتات الذى يرتهن سعادته باحترام مبدأ الاختلاف، ومن هنا فإن شعاره لا أحد يكون حراً إلا إذا أصبح الكل أحراراً. ومن هنا يقال إن الالتزام بالثقافة اليهودية التزام فى الوقت نفسه بتحرير الانسان فى أى بلد كان. وأظن أن رؤية هناَ أرندت جديرة بأن نكون على وعى بها فى ضوء تنفيذ بنود المعاهدة المصرية الاسرائيلية التى من أهمها البند الثالث من المادة الثالثة وهو على النحو الآتى: يتفق الطرفان على أن العلاقات الطبيعية التى ستقام بينهما ستضمن الاعتراف الكامل بالعلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية، وانهاء المقاطعة الاقتصادية والحواجز ذات الطابع المتميز المفروضة ضد حرية انتقال الأفراد والسلع. ومغزى هذا البند أن التطبيع الثقافى لازم من لزوم المعاهدة، ومن ثم فإن منعه يعنى عودة العلاقات بين البلدين إلى ما كانت عليه قبل المعاهدة، أى إلى العداوة. والمفارقة هنا أن مَنْ يدعو إلى التطبيع الثقافى يتهم بالخيانة من المثقفين المصريين. لمزيد من مقالات مراد وهبة