يبدو أن رئيس الوزراء لا يقرأ الصحف، ولا يريد أن يعرف إن كان ما يصل إليه هو الحقيقة أم أن هناك جوانب أخرى لم يطلع عليها. لقد سبق أن كتبت فى الأهرام مرتين هذا العام عن موضوع تدريب وتأهيل الأطباء باعتباره الركن الأساسى للنهوض من الحالة المُزرية للطب فى مصر الآن، على أساس أن تنمية البشر أهم بكثير من الاهتمام بالحجر.. الأول كان ضمن مقال نُشر فى يناير الماضى والثانى كان فى شهر يونيو تحت عنوان «أما من نهاية لهذا العبث فى مجال الصحة؟». المقالان تناولا موضوع ما تفتق عنه ذهن السيد وزير الصحة بإنشاء هيئة جديدة سماها «الهيئه المصريه لتدريب الأطباء» تتولى منحهم شهادات تخصص، وشرحت فى هذين المقالين موقف النقابة العامة لأطباء مصر وجمعيتهم العمومية برفض مشروع الوزير رفضاً قاطعاً، وكتبت عن مشروع آخر كان قد تم إعداده منذ حوالى ثمانى سنوات بواسطة خبراء من لجنة القطاع الطبى بالمجلس الأعلى للجامعات الذى كان يرأسه فى هذا الوقت العالم الفاضل الدكتور رشاد برسوم بالتنسيق مع وزارة الصحة التى كان على رأسها حينئذٍ الدكتور حاتم الجبلى، وكيف كانت هناك خطوات عملية جدية للبدء فى هذا المشروع، تعثرت بعض الشىء بعد قيام ثورة 25 يناير 2011، ثم بدأت خطوات تنفيذية بإنشاء لجنة تأسيسية لإنشاء «المجلس الطبى المصرى» كخطوه أولى من خطوات العمل الجدى لإحداث تغيير جذرى فى منظومة التعليم والتدريب والتخصص الطبى المهترئة الحالية. لكن للأسف تعثر الموضوع ثانية بسبب التغييرات المتعاقبة فى حقيبتى الصحة والتعليم العالى وغياب فقه الأولويات على المستوى العام بالدولة، إلى أن فاجأنا وزير الصحة الحالى (د. أحمد عماد الدين) بمشروع هذه الهيئة اللقيطة التى لا علاقة لها بمشروع المجلس الأعلى للجامعات رغم ادعائه غير ذلك.. وطالبت رئيس الوزراء حينئذٍ بأن يتأنى قبل أن يوقع، وأن يسأل ويعرف قبل أن يقرر، ولكن كعادة المسئولين فى هذا الزمن لا حياة لمن تنادى . حدث فى خلال الأسابيع القليلة الماضية أن أفاق المجلس الاستشارى العلمى لرئيس الجمهورية وتذمر بعض أعضائه من أنهم فى واد والوزراء المعنيين بالعمل التنفيذى فى وادٍ آخر، فتم اتصال برئيس الوزراء لترتيب لقاء بينه وبين ثلاثة من كبار أساتذة الطب وأعضاء المجلس الاستشارى للرئيس فى حضور وزير الصحة، حيث أطلعوه على الجهود التى تمت فى السابق لصياغة منظومة جديدة تتفق مع التطور العالمى لكيفية إعداد الأطباء لسوق العمل وتأهيلهم وتدريبهم وحصولهم على شهادات تخصص يحترمها العالم، وكيف أن هذه الجهود أثمرت وضع تصور شامل ودقيق لخطوات التعامل مع الأطباء بدءاً من مرحلة الامتياز، وعرضوا عليه ما تم اتخاذه سابقاً من قرارات وزارية نشرت فى الجريدة الرسمية. كم كانت دهشة الأطباء الكبار كبيرة وهم يسمعون رئيس الوزراء يقول إنه يسمع عن هذا الكلام للمرة الأولى، وأنه لا يعرف إلا ما أطلعه عليه وزير الصحة الذى عرض عليه مشروعه القاصر بادعاء أنه مستند على مشروع المجلس الأعلى للجامعات، فى حين أنكر الحضور المحترمون أى علاقة بين مشروعهم المتكامل وبين ما يتبناه وزير الصحة. لم يكن أمام رئيس الوزراء سوى أن يدعو أعضاء المجلس الاستشارى والرئيس السابق للجنة القطاع الطبى للمجلس الأعلى للجامعات للجلوس معاً لصياغة تصور واحد ومحدد لهذا الموضوع الهام، وتم الاتفاق على أن يتوجه وزير الصحة إلى لقاء لجنة القطاع الطبى بالمجلس الأعلى للجامعات لمناقشة الأمر، حيث أن عملية تعليم وتدريب الأطباء ومنحهم شهادات التخصص هى بالأساس مهمة التعليم العالى والجامعات ويشارك فيها بالتأكيد وزارة الصحة وأى جهات أخرى لديها المقدرة والإمكانات للمشاركة فى هذه العملية. الغريب فى الأمر أن الوزير بعد أن أعرب عن استعداده لمراجعة الأمر، تهرب من تحديد موعد للاجتماع كما اقترح رئيس الوزراء، ومضى فى تصرفاته الهوجاء، وقرر تحويل المبنى الرائع الجميل الذى تم تشييده فى عهد الدكتور إسماعيل سلام وزير الصحة الأسبق ليكون مركزاً قومياً للتدريب لوزارة الصحة بمختلف قطاعاتها وتخصصاتها، إلى مبنى يخدم بالأساس تصوره القاصر للهيئة التى أنشأها، ويبدو أنه فى طريقه لدعوة الرئيس عبدالفتاح السيسى لافتتاح المبنى بهذه الصفة بعد أن أنفق الملايين لإعادة طلائه وتجهيزه وبعد أن وضع لافته زرقاء كبيرة تتصدر المبنى باسم «الهيئة المصرية لتدريب الأطباء» التى لا يعترف بها أحد حتى الآن . إننى أحمل السيد رئيس الوزراء المسئولية الكاملة عن تصرفات الوزير غير المبنية على علم أو دراسات، لن يكون لها نتيجة إلا زيادة معدل هبوط مستوى الطبيب المصرى وبالتالى زيادة حجم المشاكل الطبية التى يعانى منها المواطنون المصريون.. رئيس الوزراء هو الذى اختاره لهذا المنصب وهو يعلم أنه لا علاقة له بوزارة الصحة من قريب أو بعيد، على الرغم من أنه زميل قدير فى مجال جراحة العظام. السيد رئيس مجلس الوزراء، ليس من المعقول ولا المقبول أن يتصرف الوزير فى وزارة الصحة وكأنها عزبة، يفعل فيها ما يريد ويدفع الثمن فى النهاية أطباء مصر وبالتالى مرضاها.. الصورة كاملة يجب أن تكون أمام رئيس الجمهورية فى أسرع وقت قبل أن يتم توريطه فى تدشين مشروع يعرف كل الخبراء أنه مشروع محكوم عليه بالفشل بل والإضرار بمستوى الخدمة الطبية المتدنية أصلاً فى مصر.. وليرحم الله هذا الوطن ويقى أهله شر العبث والجهل. لمزيد من مقالات طارق الغزالى حرب