لست أدرى لمن أتوجه بكلماتي هذه التي أطلب فيها التريث فيما يُتخذ من قرارات عشوائية في مجال الممارسة الطبية في مصر والتي تدنت إلى أقصى حد ممكن؟ لقد أصبحت الآن أتشكك في جدوى الكتابة أصلاً في الموضوعات العامة، مادام أن الدولة في السنوات الأخيرة تنتهج سياسة دعهم يتكلمون بل ويصرخون ولنفعل نحن ما نحن فاعلون، خاصة أن التعتيم والتكتم وانعدام الشفافية قد صار أسلوبا مُعتمدا ومُرحبا به ! فقد جاء في صحيفة الأهرام يوم 24/6 خبر عن أن وزير الصحة والسكان أعلن تفعيل ما يسميه «الهيئة المصرية لتدريب الأطباء» بالتزامن مع افتتاح مقرها قريباً بالمعهد القومي للتدريب بالعباسية التابع لوزارة الصحة، ضمن الافتتاحيات التى سيقوم بها رئيس الجمهورية الخاصة بمشروعات وزارة الصحة، وأنه سوف يتم بدء قبول الدفعات الجديدة للحصول على شهادة «البورد» المصري بداية من أول سبتمبر، وأعلن كذلك موافقة رئيس مجلس الوزراء -الذى يبدو أنه يوقع على أي شىء دون ترو أو سؤال- على تعيينات لمجلس إدارة الهيئة وأنه تم وضع تصور نهائى للائحة التنفيذية لها للعمل بها، وأنه يتم إعداد قوائم المستشفيات المعتمدة لتدريب الأطباء لاعتمادها من الهيئة الجديدة!وبشرنا كذلك بانتهاء 254 مشروعاً تقوم وزارة الصحة بتنفيذها حالياً لتطوير المستشفيات لرفع مستوى الخدمة وتحسينها للمواطنين فى جميع أنحاء الجمهورية بحلول عام 2018.. وتعليقاً على هذا الخبر الذى أصابنى بالصدمة وجعلني أطلق صيحة سعد زغلول الشهيرة «مافيش فايدة» أضع هذه النقاط أمام من يهمه أمر صحة المصريين: سبق أن كتبت على هذه الصفحة منذ حوالي أربعة أشهر مقالاً تحت عنوان «هل استشرت قبل الإمضاء يا رئيس الوزراء؟» تحدثت فيه عن هذه الهيئة الغريبة المُزمع إنشاؤها، خاصة أن الجمعية العمومية لنقابة الأطباء التى انعقدت فى شهر فبراير وكانت أكبر جمعية عمومية فى تاريخها، قد رفضت بالإجماع قرار رئيس الوزراء بإنشاء هذه الهيئة، وشرحت ما يتسم به هذا القرار من عشوائية وعدم وضوح الرؤية وذكرت أن هناك مشروعاً قومياً كاملاً لإنقاذ مهنة الطب فى مصر، قامت بوضعه لجنة على أعلى مستوى من قطاع التعليم الطبى بالمجلس الأعلى للجامعات بدأت العمل فيه بجدية أيام كان الدكتور حاتم الجبلى وزيراً للصحة والعالم الدكتور رشاد برسوم رئيساً لهذه اللجنة. وكيف أنه قد تشكلت لجنة تأسيسية للإعداد لإنشاء «المجلس الطبى المصرى» ليتولى كل الصلاحيات للتطوير المهنى للأطباء.. للأسف الشديد لم يهتم أحد بما ذكًرت به الغافلين، ولا برأي نقابة الأطباء، واستمر مشروع هذه الهيئة اللقيطة والتى لا يعرف أحد علاقة الشهادة التى ستمنحها بشهادات التخصص الحالية من ماجستير ودكتوراه وزمالة مصرية. 2- هل هذه الهيئة ستحل مثلاً محل «هيئة الزمالة المصرية» المستقرة منذ نحو خمسة عشر عاماً ومستمرة فى عملها بقدر ما هو متوافر لها من إمكانات وموارد محدودة، وهى تمنح درجة الزمالة المصرية فى معظم التخصصات الطبية حالياً، وهناك مجالس علمية لكل تخصص وضعت مناهج حديثة ونظاما متطورا للتدريب والامتحانات، وحددت المستشفيات التى تصلح للتدريب لكل تخصص، وهناك بالفعل الآلاف الذين حصلوا على الزمالة المصرية فى مختلف التخصصات، فما هى وظيفة هذه الهيئة الجديدة التى تم الإعلان عنها بطريقة عشوائية! وهل نحن مغرمون بتعدد الجهات والهيئات وتداخل الاختصاصات، بالتالى خلق المشكلات وإفشال هذا وذاك ؟ 3- ليس هناك علاقة على الإطلاق بين تعبير «تطوير المستشفيات» الذى يتردد على ألسنة المسئولين باستمرار وبين تقديم خدمة جيدة للمواطنين تُشعرهم بالرضا والقبول.. ابنوا ما شئتم من مستشفيات وأنفقوا كما تحبون على فخامتها وتزويدها بأحدث الأجهزة، لكن أؤكد لكم أن الخدمة الطبية التى يتلقاها المواطنون المصريون، خاصة الفقراء منهم لن تتحسن قيد أنملة. يجب أن يتوقف الإنفاق بسفاهة على ما يسمونه تطوير المستشفيات وتجهيزها أو على إنشاء كليات طب جديدة، والتى كانت آخر تقاليعها «كلية الطب العسكرى» التى ليس لها مثيل فى العالم كله ولا حاجة لها، فالطبيب المتخرج فى أي كلية طب يقضى شهوراً قليلة بالكلية الحربية يدرس بعض العلوم العسكرية الأساسية، وهناك فرق تخصصية محدودة المدة لدراسات أعمق فى طب الفضاء لمن يعملون بالقوات الجوية وأخرى لطب الأعماق لمن يعملون فى القوات البحرية. فلماذا لا نوفر كل هذا الإنفاق لما هو أهم ؟ 4- الموضوع بالأساس يا سادة متعلق بالبشر الذين يقدمون الخدمة الطبية وحسن إدارتهم.. المنظومة الطبية الناجحة فى أي مكان فى العالم ترتكز على ثلاثة أسس لا غنى عنها، يجب أن نضعها أمام أعيننا كأهداف لابد أن نصل إليها. الأول تفرغ الطبيب ومساعديه للعمل فى مكان واحد طوال يوم العمل، مع إعطائهم المقابل المادي المناسب الذى يمكنهم من العيش بطريقه لائقة كريمة يستحقها العاملون فى واحدة من أسمى وأشرف المهن. والثانى يجب ألا تكون هناك علاقة مالية مباشرة بين المريض ومُقدم الخدمة. والمريض فقط يعرف من سيدفع له ثمن الخدمة الطبية، والطبيب يعرف ممن سيأخذ مقابل جهده وعمله. والثالث حسن تدريب الأطباء ومعاونيهم والاهتمام بذلك طوال حياتهم العملية، وإعطاء قدر كبير من الاهتمام للتأكد من التزام الأطباء بلائحة آداب وأخلاقيات مهنة الطب وتفعيلها ثواباً وعقاباً بسرعة وحزم. بغير ذلك فلا تنتظروا تغييراً يُذكر فى مأساة العلاج الطبي بمصر مهما أنفقتم على مشروعات تطوير يكسب بالدرجة الأولى، منها القائمون على هذه المشروعات وسماسرة التعاقدات والصفقات، ولا يكسب منها المريض المصري الفقير شيئاً، والذى يُباع ويُشترى فى سوق النخاسة الطبي هذه الأيام.. تنمية البشر وحسن إدارتهم هي المشكلة وهى الحل.. اللهم بلغت.. اللهم فاشهد. لمزيد من مقالات طارق الغزالى حرب