ثمة ادعاء بخصوصية أخلاقية مطلقة، يتذرع بها العقل الأصولى هروبا من كل ما هو إنساني، وهو موقف سلبى غالبا ما يصاحب الشعور بالهزيمة الحضارية، وما يستلزمه من اختفاء خلف قشرة من التعالى الزائف على الآخر خصوصا الغربي، حيث تصبح الحضارة الغربية بمثابة نموذج للخواء الأخلاقى فى مقابل الحضارة الإسلامية باعتبارها نموذجا للكمال الأخلاقي، فكل ما يبنى عليه الإسلام نظام الأخلاق الإنسانية والتمدن، تكاد هذه الحضارة تأتى عليه من القواعد، وكأنهما سفينتان متعارضتان كما ذهب أبو الأعلى المودودى الذى جسد الحد الأقصى للنزعة النصية، حيث تتبلور رؤية للإسلام أساسها النص القرآني، تتعامى عن واقعنا التاريخى الحى وما به من نقائص، فيما تتبلور رؤية للغرب أساسها النزعات المادية المتطرفة التى يزخر بها واقعه والتى اعتبرت بمثابة تناقضات فى تجربة الحداثة. المفارقة الكبرى هنا أن مجتمعاتنا العربية، الموبوءة بهذا العقل الأصولي، باتت فقيرة أخلاقيا بالمعنى الجوهري، كونها أهدرت مثالها الأخلاقى الديني، القائم على مفهوم (الضمير)، وهو مفهوم محورى فى بناء الإنسان الداخلي، يمكن له إذا ما هيمن عليه أن يجعل منه ملاكا يسير على الأرض، ولكنه مفهوم ذاتى جدا، يصعب ضبطه وتنميته أو حتى صيانته من خارج الفرد. ولذا فعندما تتعرض المجتمعات لاهتزازات شديدة كالتى نعيشها الآن، فإنها غالبا ما تصيب الفرد بالحيرة الأخلاقية، وتربك ضميره الداخلى بين ما كان مستقرا وصار معرضا للزوال، وما يتشكل من جديد، على نحو يصيبه بالتيه الأخلاقي، ويخرج منه أسوا ما فيه. وفى المقابل ظلت مجتمعاتنا عاجزة عن صوغ مثال أخلاقى مدنى قادر على الحلول محل الديني. بل إن العقل السلفى كثيرا ما أنفق جهده فى هجاء الأخلاق المدنية باعتبارها قرينا شيطانيا للعلمانية الغربية. وهكذا ظلت الشخصية العربية المعاصرة تفاخر بمثالها الموروث، تتاجر بطقوس الماضى السعيد، فيما يبدو واقعها الملموس فقيرا مجدبا. تدفع بنا المفارقة هذه إلى عدم الاتساق الأخلاقي، إذن نشكو دوما من ظلم الآخرين لنا، ونطالبهم بالتعاطف مع قضايانا فيما نعجز نحن عن مناصرة المظلومين فى أى مكان، أو حتى فيما بيننا، ومن ثم يتبدى مدى ضعف حس العدالة بالمعنى الإنسانى لدينا قياسا إلى غربيين طالما جاهروا بمعارضة بلدانهم، والدفاع عن حقوق المستضعفين فى بلدان أخرى لدرجة كلفتهم حياتهم أحيانا، رغم أن بعضهم قد يكون ملحدا. بل إن يهودية أمريكية قتلتها جرافة إسرائيلية وهى تحاول منعها من تهديم بيوت الفلسطينيين المسلمين المفترض حسب الفهم السطحى إنهم أعداؤها الدينيون والقوميون على السواء، لشعورها أنهم أصحاب حق. تفسير ذلك أن المثال الأخلاقى المدنى / العلمانى يستميت فى نصرة المظلوم أملا فى رؤية مشهد انتصاره داخل هذا العالم، ولذا يدافع عنه بإلهام من فكر منطقي/ عقلاني، فيكون دفاعه منظما وفعالا. أما المثال الديني، بتأثير التدين الشكلى والاغتراب التاريخي، فيُقصر جهده على تمنى الانتصار للمظلوم، مكتفيا بالدعاء على الظالم، تواكلا على القضاء، وعجزا عن تفعيل إرادة الانتصار للعدل على هذه الأرض. ينبع اختلاف رد الفعل بين النموذجين من اختلافهما فى توصيف مشهد الصراع. ففى المثال العلمانى يسمى المهزوم (بطلا)، يقاوم الفساد أو يصارع الاستبداد (وهى معايير دنيوية تستفز إلى المواجهة). أما فى المثال الدينى فيسمى المهزوم (مظلوما) قهرته القوى الشيطانية، الحالة فى عالم يخلو من القداسة، والتى سيمحوها النور الإلهى فى النهاية. ولهذا أنتج مفهوم الواجب من أبطال الإنسانية فى الثقافة الغربية الحديثة أضعاف ما أنتجه مفهوم الضمير فى الثقافة العربية المعاصرة. فحيث يسيطر المثال الأخلاقى العلماني، يزدهر مفهوم البطولة، حيث البطل الإنسانى شخص إيجابى لا يذوب، كالعوام، فى وقائع حياته اليومية، محكوما بالغرائز الأنانية، ولا ينتظر كصوفى أو متدين تقليدي، ذلك العالم الآخر، حيث الزمن السرمدى الذى يتلاقى فيه المثال مع الوقائع، بل يجتهد فى تحقيق مثله الأعلى داخل التاريخ البشري، مدونة الروح الإنساني، حيث الرغبة فى الخلود هى الدافع الأعظم لأكثر الأفعال الإنسانية نبلا وقيمة. وهنا يحتل رموز الإنسانية الحديثة من قبيل الثوار الأحرار، السياسيين الكبار، العسكريين العظام، مبدعى الأدب والفلسفة، رواد الفكر والعلم، مراتب الإلهام ومصادر القوة الأخلاقية باعتبارهم أبطال العدالة وشهود الحقيقة، الذين يضحون بالصحة والمتعة وربما بالحياة نفسها فى سبيل إعلاء ما يعتقدونه أهدافا أخلاقية، وغايات سامية، تدفع بحركة البشرية كلها على مضمار التقدم. فى المقابل، وحيث المثال الأخلاقى الدينى الهش مهيمنا، ومفهوم الضمير معطلا، تكاد تنطمس مفاهيم البطولة الإنسانية لدينا، ليظل وعينا الجمعى يفاخر بحاتم الطائي، وعمر بن الخطاب، والناصر صلاح الدين، عاجزا عن إنتاج أبطال محدثين يوازونهم، اللهم إلا نادرا. ومن ثم تنمو نماذج وهمية للبطولة من طراز مستبدين علمانيين كالقذافى وصدام حسين، ملأوا دنيانا بالجهل والفقر والظلم. أو تجار دينيين من ذوى الجلاليب والذقون، قادونا فى شوارع الإرهاب المظلمة، أو حتى من وعاظ شعبيين، ومفتين فضائيين، صاروا يحتلون مراتب الإلهام، باعتبارهم أبطال العقل، وشهود الحقيقة فى مجتمعاتنا البائسة، التى صارت ساحتها خالية من رواد الفكر والعلم، من شهود الحقيقة وطلاب العدالة الإنسانية، فيما تزخر برعاة الزيف وطلاب المنفعة الشخصية. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم