أكملت منذ شهرين العام الثمانين من عمرى، وعندما استرجع الأحداث التى مرت بى، اكتشف ما كان لقريتى من ثأثير على مشوارى فى الحياة . كنت فى الثامنة من عمرى عندما عاد أبى من مدينة المنصورة حاملا مجموعة من الأوراق ألقاها امامى قائلا اقرأ يا أستاذ تصفحت الأوراق وإذا بها مجموعة من الصحف والمجلات، ما زلت أذكر انه كان من بينها مجلة الصباح والمصور والبعكوكة والفارس ، جذبنى من بينها البعكوكة التى كانت تنشر موضوعاتها بمزيج من الفصحى والعامية لشخصيات هزلية مثل الشيخ بعجر والآنسة أم سحلول والدكتور ماكسوريان بالإضافة إلى مجموعة من الأزجال لأشهر الزجالين فى ذلك الوقت منهم على ما أذكر ابو بثينة و إتاحة الفرصة لنشر ازجال للمبتدئين من الشباب، وكان اهتمامى بهذه المجلة ومتابعة ما ينشر بها فرصة لكى اجيد القراءة، وفى هذه الفترة كان أول خبر سياسى أقرؤه فى الأهرام بعنوان اغتيال أحمد ماهر باشا واعتقال الجانى الأثيم ولم أكن أعرف معنى هذه الكلمات فسألت والدى عن معانيها، وهكذا بدأ القاموس السياسى الخاص بى بأربع كلمات هى اغتيال واعتقال والجانى والأثيم، شجعتنى هذه البداية على قراءة الصحف اليومية التى كان والدى يحرص على شرائها. وفى سياق بحثى عن موضوعات جديدة للقراءة اكتشفت كنزا ثمينا من المعارف يتمثل فى السير الشعبية التى كان يقتنيها بعض شخصيات القرية ، وكانت أولاها السيرة الهلالية التى تتكون من أربع مجلدات، تحكى عن فروسية ابوزيد الهلالى سلامة ودياب ابن غانم والملك حسن ابن سرحان وما دار من صراعات بينهم وبين القبائل الأخرى وانتقالهم إلى مصر متجهين إلى الغرب نحو تونس فيما يسمى تغريبة بنى هلال، واكتشفت أيضا سيرة شعبية أخرى هى سيرة الظاهر بيبرس التى كانت تتكون من خمسين جزء كل جزءا منها يقع فى خمسين صفحة تدور أحداثها فى فترة الحروب الصليبية والصراع بين العرب والصليبيين، وما تحكيه عن جوان الجاسوس الصليبى الذى يتقن فنون التنكر لكى يحصل على المعلومات التى تمكن قومه من الانتصار على العرب يواجهه شخصية مصرية تتمتع بالقدرة على مواجهة أفعال جوان ، وهى شخصية عثمان ابن الحيله، وكان هناك أيضا سيرة الملك سيف ابن ذى يزن ملك اليمن وتصديه للقوى الأجنبية التى سيطرت على اليمن فى ذلك الوقت، وهى سيرة ممتعة تجمع بين الواقع والخيال فهى تحكى عن ظروف ميلاد ونشأة الملك سيف وأخيه فى الرضاعة الجنى عفاشة ابن عيروض واخته عاقصة اللذين كانا يحرسان أخيهما ويخلصانه من مكائد أعدائه، كان فى القرية أيضا العديد من السير الشعبية الأخرى منها سيرة عنتره بن شداد والأميرة ذات الهمة وحمزه البهلوان وعلى الزيبق وألف ليلة وليلة بمجلداتها الأربعة . لم تكن السير الشعبية وحدها هى المجال المتاح للقراءة فى القرية المصرية فى النصف الثانى من أربعينيات القرن العشرين ، فقد كان هناك أيضا روايات الجيب وهى مترجمة من الإنجليزية والفرنسية بما فى ذلك روايات اللص الظريف أرسين لوبين ومفتش البوليس شيرلوك هولمز. وعلاوة على ذلك كان هناك مجال ثالث فى القراءة يتمثل فى روايات الهلال لجورج زيدان الذى تناول التاريخ الإسلامى من خلال روايات تحفل بالحب و الصراع و تمزج بين الواقع والخيال مما يشوق القارئ لقراءتها. هكذا تطورت تجربتى فى القراءة ما بين السير الشعبية و روايات الجيب و روايات الهلال فأنتقل إلى مستوى أرقى من الأدب متمثلا فى روايات يوسف السباعى وإحسان عبدالقدوس، وقد كانت كل مجموعة من هذه المؤلفات تساعدنى على مزيد من الفهم والمعرفة وتمكننى من التهيؤ لمرحلة أرقى من القراءة وصولا إلى روايات نجيب محفوظ وتشيكوف و تولستوى وماكسيم جوركى والروايات المترجمة عن الأدب الفرنسى والإنجليزى . كانت هذه القراءات بمثابة المدخل الطبيعى للانتقال إلى عالم السياسة وما يتطلبه من قراءات فى الاقتصاد والاجتماع والتاريخ والفلسفة ، لم يكن ممكنا أن يتم ذلك بسهولة بدون ما حصلته من قراءات ومعارف اثناء إقامتى فى القرية. خلاصة القول إن هذه التجربة التى تبلورت فى القرية لم يكن ممكنا بدونها الانتقال إلى مستوى أرقي، فقد كانت منذ البداية تجمع بين المعرفة والنشاط مما يسهم فى نضح الشخصية واستعدادها للتطور والانتقال إلى آفاق أرقى. لمزيد من مقالات عبدالغفار شكر