فى الوقت الحالى تبدو إيران معنية أكثر من أى وقت مضى بقراءة واستشراف ملامح المشهد السياسى العراقى وتأثيرها على طموحاتها الإقليمية. إذ أن النتائج النهائية للانتخابات التشريعية العراقية التى أجريت فى 7 مارس الماضى كانت أشبه ب'الصدمة' لدي الأوساط السياسية ودوائر صنع القرار في طهران, لأنها حملت مضامين ومؤشرات عديدة تؤكد في مجملها أن الجهود الحثيثة التي بذلتها إيران لكي تصبح رقما مهما داخل العملية السياسية العراقية أصبحت تواجه تحديات ليست بالقليلة, الامر الذي يفرض عليها إعادة ترتيب أوراقها وحساباتها وربما أنماط تحالفاتها من جديد تحسبا للاستحقاقات القادمة وعلي رأسها الانسحاب الأمريكي من العراق. أهم هذه المضامين هو أن نفوذ إيران في العراق قوي وواضح, غير أنه ليس حاسما لدرجة تدفع حلفاءها إلي التراجع أمام أهدافها ورغباتها. فقد فشلت إيران في إحداث توافق بين حلفائها قبل الانتخابات, بما يمهد لتكوين ائتلاف بين قائمة' دولة القانون' بزعامة رئيس الوزراء نوري المالكي, و'الائتلاف الوطني العراقي' الذي يضم المجلس الأعلي الإسلامي بقيادة عمار الحكيم والتيار الصدري بزعامة مقتدي الصدر, لضمان حصولهما علي أكبر قدر من مقاعد البرلمان الجديد ومن ثم الحفاظ علي وجودهم داخل معادلة السلطة في بغداد وقطع الطريق علي خصومها من القوي الوطنية والعلمانية التي لم يعد بعضها يخفي عداءه الواضح لإيران. لكن هذه الجهود فشلت بسبب إصرار المالكي علي وضع شرطين مجحفين لتحالفه مع' الائتلاف الوطني العراقي': أولهما, منح' دولة القانون' نصيب الأسد داخل الائتلاف الجديد بنسبة50% وثانيهما, ضمان حصول المالكي علي منصب رئيس الوزراء في حالة فوز القائمة بالأغلبية في الانتخابات. وبالطبع فإن هذه الشروط لم تلق قبولا من' الائتلاف الوطني العراقي', الذي اعتبر أن الهدف منها هو تقليص نفوذه داخل التكتل الشيعي وإحداث خلل في موازين القوي لصالح تيار المالكي, ومنع المجلس من ترأس الائتلاف الجديد علي غرار الائتلاف الشيعي السابق. فشل طهران في تكوين ائتلاف بين حلفائها دفعها إلي السير في الاتجاه المقابل أي محاولة منع خصومها من الوصول إلي السلطة, ويبدو أنها دعمت في هذا السياق قرارات' هيئة المساءلة والعدالة' باستبعاد أكثر من خمسمائة مرشح قبل الانتخابات معظمهم من القوائم غير الحليفة لإيران خصوصا' القائمة الوطنية العراقية' بزعامة رئيس الوزراء السابق إياد علاوي. هذا التأثير والنفوذ الذي فرضته إيران لاستبعاد خصومها من الانتخابات دفع مسئولين أمريكيين إلي انتقاد القوي الشيعية الحليفة لإيران بدرجة غير مسبوقة. فقد وجه السفير الأمريكي في بغداد' كريستوفر هيل' تصريحات نارية للقادة العراقيين لم يألفها ساسة العراق حتي في عهد الحاكم المدني بول بريمر, حيث حذر من أن القوات الأمريكية العاملة في العراق يمكن أن' تؤذيهم' إذا تمادوا في الارتماء بأحضان إيران, كما انتقد تسليح إيران للميليشيات العراقية مشددا علي أن' الصواريخ التي تقع علي رؤوسنا في المنطقة الخضراء هي إيرانية الصنع'. مع ذلك, فإن هذه الجهود الإيرانية الحثيثة لم تستطع الحيلولة دون وصول بعض خصومها, أو بمعني أدق, بعض غير المحسوبين عليها, إلي البرلمان الجديد وربما تشكيل الحكومة المقبلة. فقد جاء حلفاء إيران في المرتبة الثانية والثالثة والرابعة علي التوالي في قائمة الفائزين في الانتخابات بعد ائتلاف' القائمة الوطنية العراقية'( العلماني) الذي حظي بأكبر عدد من المقاعد في البرلمان, حيث حصل علي91 مقعدا, بفارق مقعدين عن ائتلاف' دولة القانون' الذي حصل علي89 مقعدا, وبزيادة21 مقعدا عن' الائتلاف الوطني العراقي' الذي حصل علي70 مقعدا. هذه النتائج كشفت عن حدوث تغير في توجهات الناخب العراقي, الذي أعطي الأولوية للبرامج الانتخابية مبتعدا بشكل او باخر عن التيارات' المذهبية' التي فرضت هيمنتها علي الساحة السياسية خلال المرحلة السابقة, وكانت أحد المتسببين في تأجيج الصراع الطائفي في العراق بعد الاحتلال. وبالطبع فإن هذه التطورات غير مريحة لطهران, خصوصا أنها تتزامن مع بروز مؤشرات توحي بوجود تململ واضح إزاء النفوذ الإيراني في العراق, بدا جليا في الاستقبال الفاتر لبعض المسئولين الإيرانيين في العراق خلال الفترة الأخيرة. ففي الزيارة التي قام بها رئيس مجلس الخبراء رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني في مارس2009, تم تنظيم مظاهرات منددة بالوجود الإيراني في العراق, وامتنع بعض المسئولين العراقيين مثل طارق الهاشمي نائب الرئيس العراقي عن استقبال رفسنجاني أو الترحيب به, مما شكل حرجا للرئيس العراقي جلال طالباني الذي يرتبط بعلاقات قوية مع المسئولين الإيرانيين خصوصا هاشمي رفسنجاني. المهم في كل ذلك, هو أن إيران وبعد أن أفاقت من صدمة نتائج الانتخابات, سارعت إلي التدخل لحل الخلافات بين حلفائها التقليديين خاصة قائمة' دولة القانون' و'الائتلاف الوطني العراقي' إلي جانب التحالف الكردستاني لتشكيل حكومة أغلبية قوية من هؤلاء الحلفاء تعيد لإيران سطوتها علي القرار في بغداد. وتعمدت إيران أن تكون هي القبلة الأولي لمشاورات تشكيل الحكومة الجديدة بعد إعلان النتائج النهائية مباشرة, في رسالة للأمريكيين والعرب مفادها أن طهران, ورغم نتائج الانتخابات, مازالت تحظي بنفوذ قوي داخل العراق. وبالطبع فإن المشكلة الرئيسية التي واجهت هذه المشاورات تمثلت في التوافق علي شخص رئيس الحكومة العراقية المقبلة, في ضوء الرفض الواضح من جانب التيار الصدري, الذي حقق أكبر النتائج داخل' الائتلاف الوطني العراقي', حيث حصل علي40% من مقاعده, لمسألة تولي المالكي رئاسة الحكومة المقبلة, ووضعه شروطا صارمة للموافقة علي ذلك, منها إطلاق جميع سجناء تياره, ومنح ضمانات بعدم التفرد في السلطة وأن يكون بإمكان الكتلة البرلمانية التي ستتشكل من دمج' الائتلاف الوطني العراقي' و'دولة القانون' إقالة رئيس الوزراء في أي وقت يتجاوز فيه البرنامج المرسوم. وفي سبيل تقليص الفجوة بين حلفائها, قدمت إيران ورقة حول آلية اختيار رئيس الوزراء المقبل من داخل اندماج الكتلتين, نصت علي منح وزن متساو للكتلتين دولة القانون والائتلاف الوطني في عملية التصويت علي المرشح النهائي رغم أن الفارق في المقاعد بين الكتلتين هو19 مقعدا, وعلي أن يرشح كل ائتلاف3 مرشحين للمنصب, علي أن يعقب ذلك الوصول عبر نظام' التوافق' وليس' التصويت' إلي تقليص العدد من كلا الكتلتين الي مرشحين اثنين يتم التصويت عليهما لاختيار رئيس الحكومة الجديد. لكن هذه الجهود لم تلفح حتي الآن في تقليص حدة الخلافات بين القوي الشيعية الفائزة في الانتخابات, ويبدو أن ذلك هو ما دفع إيران إلي إحداث تغيير في مواقفها تجاه تداعيات الانتخابات, ربما يؤدي بها إلي التخلي عن المالكي إذا كان ذلك سيسهل تشكيل ائتلاف بين حلفائها, أو دعم التوجه إلي تشكيل حكومة وطنية تضم كل القوي الفائزة في الانتخابات بما فيها القوي غير المتحالفة معها, وهو ما يفسر حرصها علي توجيه الدعوة لزعيم' القائمة العراقية' إياد علاوي لزيارة طهران رغم أنه اتهمها بالسعي إلي إبعاده عن تشكيل الحكومة بعد تجنبها توجيه دعوة له للمشاركة في المشاورات الأولية التي جرت في طهران, بما يعني أن عقلية' البازار' الإيراني بدأت تنشط من جديد لمواجهة تداعيات ما بعد الانتخابات العراقية.