استهدافا لنفى المفهوم الشائع والخاطئ حول حصرية الإنجاز الحضارى الحديث فى نطاق الغرب، وانعدام أو محدودية الإسهام العربى فى تكوين الثقافة العالمية، صدر مؤلف استثنائى يدحض هذه المفاهيم بالدلائل والرصانة الواجبة. بعنوان « إسهام العرب المعاصر فى الثقافة العالمية: الحوار العربي- الغربي»، صدر عن الرابطة الدولية لدراسات التداخل الحضارى وهو كتاب جامع لعدد من الأوراق البحثية الوافية والمتنوعة التى قدمها مجموعة من كبار الاساتذة الباحثين أمام المؤتمر الدولى لمنظمة الثقافة والعلوم التابعة للأمم المتحدة «اليونسكو» فى مارس 2009. وركزت هذه الأوراق على بيان حجم الاسهام العربى فى دعم الثقافة العالمية، وذلك فى مجالات أربعة رئيسية، هى العلوم الطبيعية وتحديدا ما يندرج تحتها من علم العقاقير، والهندسة الصناعية، وثانيا، العلوم الاجتماعية وبالأخص الإقتصاد السياسي، فيما تناولت الأوراق ثالثا، اسهامات العرب فى مجال الفنون والفنون المعمارية دون غيرها. وركزت رابعا على مجال الأدب المعاصر. ويستعرض الكتاب، الصادر عام 2016، الأوراق البحثية، ملحقة بتعليق ومناقشة من جانب أساتذة ومتخصصين من أهل الغرب، لتحقيق حوار فعلى وبناء بين الجانبين عربا وغربا. ويعتبر ذلك العرض نظرة سريعة على الكتاب الذى من المخطط أن تتم ترجمته كاملا إلى اللغة العربية فى المستقبل القريب. ويوضح الدكتور مجدى يوسف، مؤسس الرابطة الدولية ومحرر الكتاب، فى مقدمته، أن الهدف الأكبر من وراء الجهد المبذول لا يقتصر عند إنصاف العرب وبيان أفضالهم ، وإنما تشجيع ما يصفه بباقى «الثقافات المهمشة» فى أفريقيا، وأسيا، وأمريكا الجنوبية، لإتخاذ المبادرة ذاتها، وتسليط الضوء على اسهاماتها فى دعم وتطوير الحضارة الإنسانية حاضرا وسلفا. ويشير الدكتور يوسف، إلى المعضلة المزدوجة التى يأمل أن يسهم الكتاب فى علاجها أو تخفيف أعراضها. ويقصد بذلك الاعتراف بنتائج البحث العلمى الغربي، والأوروبى تحديدا ك «الخلاصة المثلى» للسعى العلمى الإنسانى إجمالا، والتى يفترض اتباع معاييرها والعمل بها من قبل باقى المجتمعات، ويرسخ ذلك المنطق ليس لدى أهل الغرب فقط، وإنما وبقوة بالغة، لدى النخبة وأهل العلم فى المجتمعات غير الغربية أيضا. ويؤكد الدكتور يوسف أن المطالعة الناقدة والمخالفة الواعية من جانب المتلقى فى المجتمعات العربية، فيما يخص تلقى الوارد من إنتاج الثقافة الغربية، يحقق الإضافة من الجانب العربي، ويضمن استمرار وتنوع عملية الإبداع الإنساني. ويتناول أول أقسام الكتاب أولى أوراق المشروع العلمي، والتى قدمها دكتور محمد رؤوف حماد، أستاذ دكتور علم الصيدلة والسميات بالمنظمة الوطنية للرقابة وأبحاث الدواء فى مصر، والذى استعرض تجربة فريقه فى اختبار الوظائف العلاجية الجديدة لأحد عناصر البيئة الليبية، والمقصود به عنصر «كابسيسين»، المركب الأساسى والنشط فى الفلفل الحار، والذى يدخل فى أحد أبرز الأطباق الليبية والمعروف بالهاريس. وخالفت نتائج البحث السائد والوارد من الغرب عن دور ال «كابسيسن» فى الإضرار بالجهاز الهضمى البشري، منتهيا إلى تأكيد دوره الايجابى فى تفعيل وتسريع عملية امتصاص الدواء، والحماية من الإصابة بقرحة المعدة. ، ودفع الفريق المصرى الليبى بنتائج أبحاثه أمام المؤتمر الدولى لعلوم الصيدلة فى فيينا عام 1981، ليشير دكتور حماد إلى أن هذه الأبحاث كانت، وبعد فترة من الإنكار والإهمال من المجتمع العلمى الدولي، ركيزة لمزيد من الأبحاث حول الشأن نفسه. وتتضح أهمية الإنجاز أكثر فأكثر عبر تعليق الدكتور بيتر هولزر، الأستاذ بجامعة جراز للعلوم الطبية، بالنمسا، الذى يشير لتوالى التأكيدات العلمية على صحة ما خلص له فريق الدكتور حماد، وآخرها تأكيدات فريق علمى سنغافورى حول دور مركب «كابسيسين» فى تخفيف الآثار الجانبية لعقار الأسبرين على المعدة. ويعترف هولزر فى سياق ما كتب، بالتحيزات والعصبيات التى تسود المجتمع العلمى وتقوم فى جانب غير قليل منها على فروق جغرافية، مشيرا إلى صعوبة نشر الدوريات العلمية الأمريكية للدراسات الأوروبية مقارنة بنظيرتها الأمريكية، ناهيك عن الأبحاث الواردة من خارج العالم الغربي، ما يجعل اسهامات المجتمعات غير الغربية شبه مجهولة بالنسبة لمحيطها المحلى أو العالمي. يستشهد دكتور هولزر بمخالفة هذا السائد مع ما أسس له علماء عرب مثل إسحاق بن على الرهاوى والذى شرح فى مؤلفاته ما وصفه ب «أخلاقيات الأطباء»، وما شدد عليه من ضرورة التعامل بحيادية وإعلاء المصلحة العلمية عند مطالعة وتقييم جهود أبناء المجال الواحد، وهو أبعد ما يكون عن الواقع الحالي. وسلط هولزر الضوء على أزمة أخرى يعانيها المجتمع العلمى الغربي، وتتعلق بصعوبة تقبل مبادرة البحث والفرضيات العلمية البعيدة عن السائد والمعترف به من خلاصات ونتائج، مما يشكل حجر عثرة أمام الإنفتاح على حلول جديدة واستقدام أفكار مستحدثة من الغرب كانت أو الشرق. وتنتقل ورقة دكتور حامد الموصلي، رئيس جمعية التنمية الذاتية للمجتمعات المحلية والمدير السابق لتنمية الصناعات الصغيرة والتكنولوجيا المحلية، كلية الهندسة، جامعة عين شمس، إلى إسهامات العرب بخصوص توظيف التكنولوجيا الهندسية فى إعادة اكتشاف الموارد المادية المتجددة على الصعيد المحلي. ويضرب الموصلى فى ورقته أمثلة على ثراء مواطنى المجتمعات المحلية فى العالم الثالث، بما وصفه ب «معرفة الإنتماء» حول التركيبات الجيولوجية والثروات الطبيعية التى يزخر بها محيطهم، فيمكنهم تقديم معلومات شبه وافية ودقيقة حول مخزون هذه الموارد وخريطة توزيعها وغير ذلك الكثير. ويشير العالم المصرى إلى تفوق أصحاب « معرفة الانتماء» على أقرانهم من أصحاب المعرفة العلمية، مشيرا إلى أهمية توظيف العنصر البشرى عبر تقنيات الحوار والإدماج فى مشاريع التنمية كسبيل أمثل لإكتشاف الموارد المحلية واستحداث تقنيات أكثر فاعلية فى توظيفها. ويحذر الموصلى من عدم تقدير دور الموارد المتجددة فى تنمية وعولمة الثقافة المحلية، مشيرا إلى الدور الراسخ الذى لعبته موارد مثل الأرز والبامبو فى دعم الثقافة الآسيوية وتماسك مجتمعاتها، وكذلك كان الحال بالنسبة لأوراق البردى وزهرة اللوتس بالنسبة للحضارة المصرية القديمة. وتزداد أهمية تجربة الموصلى بمطالعة تعليق الدكتور جيه.سي. فان وينين، أستاذ قطاع الأعمال الصغيرة والمتوسطة ذات توجه الاستدامة فى هولندا، والذى يشير إلى مركزية مسألة الموارد المتجددة، فى إطار المناقشات الدولية الدائرة حول قضايا التغيرات المناخية، وتوجه التحول عن موارد الطاقة الأحفورية، وحتى حوارات أمن الطاقة والأمن الغذائى العالمي. ثم ينتقل الكتاب لاحقا، إلى إسهام دكتور محمد دويدار، أحد أقطاب دراسات الاقتصاد السياسى بجامعة الاسكندرية، الذى قدم مقاربة مختلفة لفهم الأزمة المالية التى ضربت الولاياتالمتحدةالأمريكية عامى 2007 2008. فيخالف دويدار، مرتكزا على القواعد المحلية لمعارفه العلمية والضاربة فى واقع دلتا النيل المصرية، التفسير العام حول الأزمة باعتبارها انهيارا ماليا. ويقدم رؤيته القائمة على أن ما مر به الاقتصاد الأمريكى قبل نحو عشرة أعوام كان نتاج «أزمة دورية» نتجت عن تعارض الطبيعة الإجتماعية للمنتجات الاقتصادية والحوافز الخاصة لتوجيه واعتماد هذه المنتجات. وفى القسم الخاص بالفنون التشكيلية والأداب، يستعرض راسم بدران، المهندس الأردنى ذو الأصول الفلسطينية والحاصل على درجة الدكتوراة من ألمانيا، عبر ورقته «تأملات حول سرد المكان» تجربته فى التمرد على الانماط الاستهلاكية والحديثة فى مجال المعمار، معتمدا أكثر على مدرسة التصميم الصديقة للمحيط البيئى والثقافي. ويسير بدران فى رؤيته هذه على خطى المعمارى المصرى الأشهر حسن فتحى فى تجربة «هندسة الفقراء». فيوظف نظريات وأدوات التصميم الغربي، فى إعادة إكتشاف الإرث المعمارى العربي، للخروج بنموذج هندسى يحقق مزيدا من التوافق بين الإنسان والبيئة المحيطة به. ويعيد كلا من الناقد الثقافى أندريس ويلاند، وجيمس ستيل من قسم العمارة بجامعة شمال كارولينا، بالولاياتالمتحدة الأمريكى قراءة نظريات بدران وحسن فتحي، ومحاولاتهما لدعم « معمار الهوية»، مقابل غياب التآلف وتسيد عولمة القوالب الهندسية، مع تقديم شرح بنكهة مختلفة لأبرز المشاريع المعمارية للرمزين العربيين. ويختتم مجدى يوسف محرر الكتاب ، بعرض خاص حول الأدب العربى ونظيره العالمي، مشيرا إلى توجه جديد لبيان العلاقة بين الإثنين والتى تغاير السائد من الحكم على عملية نقل النموذج الثقافى والأدبى من المجتمع المصدر وهو الغربى طبعا، وكيفية استقباله فى المجتمعات المهمشة وعملية إعادة صياغة هذا النموذج. ويقترح دكتور يوسف البدء من حيث المتلقى هذه المرة ومحذرا من غياب إدراك الإختلافات بين النموذج الثقافى الذى يطغى ويسود عالميا بسبب هيمنة الثقافة الغربية والأوروبية، والواقع الثقافى للمجتمعات المستقبلة. ويجدد دكتور مجدى فتح باب الجدل حول معضلة عمل هيئة منح جائزة نوبل، بوصفها المسار الأفضل والأكثر فاعلية لتعريف المجتمع الدولى بالإنتاج الغير الغربى ثقافيا، والذى للأسف مازال محكوما برؤية ومعايير الثقافة الغربية بنمط «الهرمية»، بحيث يأتى قرار الإعتراف بمنتج أدبى ما وإجازته للتعريف به دوليا من قمة الهرم (الغربى والأوروبى طبعا). ويطرح مجدى رؤية يعترف بأنها أقرب إلى « الحلم»، بديمقراطية المحيط الثقافى الدولي، عبر إنشاء كيان جديد يعمل عمل منظمة اليونسكو، وكيان بديل لهيئة جائزة نوبل،بحيث تتكون مجالس هذه المؤسسات وفقا لآليات ديمقراطية تبعد عن نموذج «الهرمية» وتتألف من أعضاء يتم انتخابهم ويمثلون مختلف المجتمعات الثقافية بشكل متساو، بما يؤمن فرص متوازنة لإسهام المجتمعات المختلفة فى الإنتاج الثقافى العالمي.