هناك فى حى الحسين العريق ولد المبدع محمد خان فى 26 أكتوبر 1942، وسط ذلك الحى تفتحت عيناه على أصوات الباعة، ووسط عمال وصناع الحرف الشعبية، ورائحة البخور التى تملأ الشوارع، اختار والده ذو الأصول الباكستانية ذلك الحى القديم وافتتح متجره الذى كان يبيع فيه الشاي، وتنقل مابين غمرة وشارع شريف بوسط القاهرة،واعتاد الطفل أن يستمع لحواديت الأم والجدة، وبات يراقب الصور المتلاحقة التى تأتيه وسط زحام وتداخل وجوه البشر. كان خان يملك ذاكرة فوتوغرافية يلتقط ويسجل كل ما تقع عليه عيناه فى الحى القديم سواء الجيران أو الوافدين من مريدي سيدنا الحسين ومحبيه، وأبدًا لم ينس وجهًا من الوجوه التى صادفها بمن فيهم الشغالة الصغيرة التى كانت تعمل عندهم وجاءت وافدة من الريف وتحديدًا إحدى قرى المنوفية كما روى لى فى أحد حواراته _( وهى الشخصية التى استدعاها فى واحد من أجمل أفلامه بل أفلام السينما المصرية والعربية على الاطلاق وهو أحلام هند وكاميليا). كبر خان وسط هذا الحى العريق وكان يقطع الطريق من الحسين إلى منطقة وسط البلد يجوب الشوارع ويخزن صورا كثيرة، لوجوه ومواقف وأماكن ونماذج حية من لحم ودم تجدها حاضرة فى كل أفلامه منذ «ضربة شمس» وصولًا إلى «قبل زحمة الصيف». وبعد أن وصل إلى مرحلة الشباب، تشكل حلمه بالسفر إلى الخارج لاستكمال دراسته فى مجال الهندسة المعمارية، واختار لندن ليبدأ حلمًا جديدًا ومرحلة غيرت مستقبله تماما، وهناك اكتشف خان شغفه بتلك الصور المتحركة وفن السينما، وقرر فى لحظة حاسمة أن يتوقف عن دراسة الهندسة ويتجه إلى السينما، وفى نفس الفترة كان يعمل فى أحد محال بيع الجينز، وصارت حياته مقسمة ما بين العمل والدراسة وارتياد دور العرض لمشاهدة أحدث إنتاجات السينما العالمية. يتابع كافة أشكالها وأنواعها، ومع عودته إلى القاهرة كان يشعر بأن الحلم صار قريبًا وأن كل شىء حلم به سيتحقق، ولكن كانت سوق السينما فى وادٍ وكل ما يحلم به خان ورفقاؤه من شباب السينمائيين فى وادٍ آخر، والتقي طموح خان مع فنان واعد ونجم هو نور الشريف والذي ساعده وانتج له فيلم « ضربة شمس» ، 1980 والذي قام ببطولته ايضا وفي وقتها كان الفيلم تجربة جديدة ومختلفة عن كل مايقدم في السوق السينمائية ووقتها استغرب الكثيرون كيف اقنع هذا الشاب الجديد فنانة بحجم ليلي فوزي في ان تظهر في الفيلم دون ان تنطق كلمة واحدة . ومن بعد هذه التجربة انطلق خان وزملاؤه الشباب وشكلوا معا موجة الواقعية الجديدة في السينما المصرية، كانوا يعملون باخلاص وحب حقيقي للمهنة مثل ( خان وداود عبدالسيد و خيري بشارة وعاطف الطيب وبشير الديك ومدير التصوير سعيد شيمى، والمونتيرة نادية شكري، وكثيرون)_ كان من الطبيعي ان يصيغ خان قصة ليقوم بشير الديك بتحويلها الي سيناريو يخرجه عاطف الطيب مثلما حدث في فيلم « سواق الاتوبيس « وكان من العادي جدا بالنسبة لهم ان يقتصد كل واحد فيهم من ماله الخاص لينتجوا فيلما لمحمد خان . مثلما حدث في فيلمه المتميز « الحريف» والذي قدمه مع النجم عادل امام في واحد من أهم ادواره. . وواصل خان التألق وسط الكثير من «الاحباطات» والوجع، الاحباط من الهجوم الذي تلقاه هو زملاؤه من منتجي السينما وصناعها الذين كانوا يعملون بمنطق التجارة، حيث كان أقسي هجوم تعرضوا له هو وصفهم بمخرجي «الصراصير والبلاعات» وذلك لإصرارهم علي تقديم سينما حقيقية تعبر عن الواقع دون تزييف او تغييب للوعي والعقول، بل اصروا علي استكمال مشوارهم، الا ان خان وحده كان يملك وجعا خاصا وهو عدم حصوله علي الجنسية المصرية_ رغم انه معجون بمصر مهموم بكل مشاكلها، وظل هكذا يمنح مصر ابداعا وجوائز وهي تضن عليه بالجنسية والتى لم يحصل عليها الا منذ عامين فقط. ولم يكن خان يعرف اليأس أبدًا لذلك كان يقول للمقربين منه :» نصيحتى هى عدم اليأس، لا تيأس أبدا، كصانع للأفلام تأثرتُ بأفلام أنطونيونى، والتقيته فى لندن أثناء تصويره فيلم «blow up» فى إحدى المكتبات، كانت معه سكرتيرته، تابعتُه عندما نزل إلى الشارع، طرقتُ على زجاج سيارته، قلت له إننى معجب بأفلامه، فشكرنى. قابلته بعدها بسنوات طويلة فى مهرجان قرطاج، حيث عرض المهرجان لى فيلم «خرج ولم يعد»، سألت أنطونيونى فى قرطاج عن (آنّا) بطلة فيلمه «المغامرة» وأين اختفت، فقال لى: لا أعرف، سألته عن مقولته الشهيرة والصحيحة بأن كل مخرج فى الواقع لا يخرج سوى فيلم واحد فى حياته، ولكن بطرق وأشكال مختلفة، فقال معلّقا: «سيكون المخرج محظوظا حقا إذا أخرج فيلمين». ورغم اعجاب خان بالعديد من خريجي السينما المصرية ومنهم بركات وصلاح ابوسيف ويوسف شاهين وسعد عرفه وممدوح شكري ولكن شعاره كان التفرد وان يكون له اسلوب خاص، تميزه من اللقطة والكادر واداء الممثل كانت افلام خان تضج بالحياة، والعمق وتحمل روحا طفولية شقية مثله تماما مهما كان الموضوع الذي يناقشه - ( خرج ولم يعد، موعد على العشاء، عودة مواطن والحريف، أحلام هند وكاميليا سوبر ماركت)_ ورغم تركيز خان علي الطبقة المتوسطة وهمومها، الا انه ايضا اقترب من المهمشين وناقش قضايا الغلابة وصراعهم من اجل لقمة العيش .. واهم ما يميز سينما خان حالة الاختلاف التى يظهر بها الممثلون والفنانون معه، خان يعشق ممثليه ويجعلهم يتشربون روح النص وتفاصيله.. لذلك تجده يقول في أحد حواراته :»ان الفارق بين سعاد حسنى وفاتن حمامة هو الفارق بين الموهبة العفوية التى تجسدها سعاد والفنانة المحترفة التى تجسدها فاتن، ولكل طريقة ميزة معينة، أما أحمد زكى فهو عبقرى، ولم يملأ فراغه أحد حتى اليوم». وفي حواره الذي اجراه مع ملحق الجمعة سابقا تحدث عن علاقته بالفنانة فاتن حمامة وانه كان يسعي لأن يجمعها مع سعاد حسنى في فيلم احلام هند وكاميليا وقال :»وقتها كنت أفكر فى الجمع بينها وبين فاتن حمامة، وكانت سعاد متحمسة جدا، وفاتن لم تعط ردا نهائيا، وأذكر أننى حينها التقيت سعاد فى نادى الجزيرة لنتحدث حول السيناريو، الا اننى فوجئت أنها تحمل وجهة نظر مغايرة تماما عما أراه فى العمل، وفى هذه اللحظة أيقنت أن الدور لن يكون لها، وقمت مع الناقد اللبنانى سمير نصرى بإرسال السيناريو الى نجلاء فتحى مع باقة ورد، وذهبت إليها بعد ذلك لأعرف رأيها، وفاجأتنى نجلاء بأن قابلتنى وقتها وهى ترتدى ملابس الشخصية ووجدت أنها تلبست روحها وقد كان. فإحساس الممثل بالشخصية يجب أن يكون متماهيا مع إحساس المخرج، وفى فيلمى «عودة مواطن» قمت بتغيير ممثل بعد أن صور 5 أيام، وهو محمود مسعود واستبدلته بالفنان احمد عبد العزيز، ورغم قسوة الواقعة، والمشاكل التى أثارتها وقتها مع النقابة إلا أننى أصررت، والممثل الذى يحب الدور يستطيع أن يمسك بكل اللحظات، فهو ليس مجرد ترديد لجمل الحوار، لذلك استبدلته لأنه لم يعطنى ما أريد، وأنا لا اقبل المواءمات فى تلك المنطقة أو فى عملى عموما». هكذا كان يهتم بكل تفاصيل عمله بدءا باختيار المكان والشخصية ومن يجسدها وكيف يتماهي معها لذلك سيظل واحدا من المخرجين القلائل اصحاب الاسلوب الخاص وسينما الواقع التى تحتفي بالمكان والانسان وعلاقته بهذا المكان وستظل شخوصه حاضره في افلامه التى تصل الى 24 ، كان أبرزها أيام السادات وزوجة رجل مهم وخرج ولم يعد، وكان آخرها بداية هذا العام بفيلم «قبل زحمة الصيف» الذى قامت ببطولته الفنانة هنا شيحة، لن يستطيع احد منا ان ينسي «هشام» جسده العبقري احمد زكي في زوجة رجل مهم ، ومنى في نفس الفيلم جسدتها نجلاء فتحي والسادات لاحمد زكي ، نوال جسدتها سعاد حسنى في موعد علي العشاء وأميرة جسدتها نجلاء فتحي في سوبر ماركت ورمزي جسده ممدوح عبدالعليم في نفس الفيلم وغيرها من الشخصيات. خان هو الوحيد من بين ابناء جيله الذي كان يملك روحا شابة جعلته يملك صداقات مع اجيال مختلفة، وهو ايضا من شكل نقلات حقيقية في السينما المصرية والعربية علي مستوى التكنيك والتطور، وهو ايضا اول من استخدم الكاميرا الديجتال في التصوير السينمائي بدلا من التصوير بالكاميرا 35 في تجربته بفيلم كليفتى. . خان هو الاب الروحي للكثيرين، تركهم ورحل فجأة تاركا صدمة كبيرة في الوسط السينمائي المصري والعربى.
أفلام خان فيلم «ضربة شمس» الذى يعد أول أفلامه عام 1978 والذى قام ببطولته الفنان الراحل نور الشريف، فيلم الرغبة 1980 لنور الشريف أيضا مع مديحة كامل، الثأر عام 1980، وثلاثة أفلام عام 1982 «طائر على الطريق، موعد على العشاء، نصف أرنب». وفى عام 1983 قدم فيلم الحريف الذى قام ببطولته الفنان عادل إمام، ومشوار عمر 1985، خرج ولم يعد 1984، عودة مواطن 1986، وفيلمين عام 1988 «زوجة رجل مهم» و»أحلام هند وكاميليا». وفى تسعينيات القرن الماضى قدم خان أفلام «سوبرماركت» عام 1990، فارس المدينة 1991، «مستر كاراتيه» 1992، الغرقانة 1993، يوم حار جدا 1995. وفى بداية الألفية الجديدة قدم خان واحدا من أهم أفلام السيرة الذاتية لرؤساء مصر وهو فيلم «أيام السادات» للراحل أحمد زكى عام 2001، والذى أحدث نقلة نوعية فى تاريخ أفلام السير الذاتية، ثم توالت أعماله بفيلم «كليفتى عام 2004، ثم فيلم «بنات وسط البلد» 2005، «فى شقة مصر الجديدة»، ثم شارك فيلم «عشم» 2013، وفيلم «فتاة المصنع» للفنانة ياسمين رئيس وهانى عادل 2014، وأخيرا فيلم «قبل زحمة الصيف» الذى عرض بداية العام الحالى. شارك محمد خان أيضا بالتمثيل فى أفلام «العوامة» عام 1970، فيلم «بيبو وبشير» عام 2011، وأخيرا فيلم «عشم» عام 2013، وله كتاب مؤلف «مقدمة السينما المصرية».