على مدى أكثر من ثلاثة أرباع قرن من الزمان وتركيا تعيش حالة من التدافع حينا، والصراع أحيانا كثيرة بين تيارين أحدهما يمثل العلمانية الشرسة المتوحشة التى تريد فرض رؤية للعالم معاديةً للدين، متدخلةً فى حياة الفرد، لاغيةً لحريته الشخصية فى الاختيار، وتيار يريد أن يحافظ على قيم التدين وشعائر الدين، ويدعو لاحترام الحريات الفردية البسيطة فى ممارسة الشعائر الدينية، وتعلم معارف الدين وارتداء لباس يرى من يرتديه أنه يحافظ على قيمه ويحفظ كرامته. كانت معركة الطربوش أولى معارك مصطفى كمال أتاتورك مع الثقافة الإسلامية فى تركيا، وكانت آخرها معركة الحجاب مع البرلمانية مروة قاوقجى التى انُتخِبت عضواً فى البرلمان التركى سنة 1999 ومنعها الرئيس سليمان ديميرل من دخول البرلمان بسبب حجابها، وبين المعركتين ظهر فى المجتمع التركى تيار اجتماعى حضارى يركز على القيم الروحية والأخلاق وبناء الإنسان، ويبتعد عن السلطة، ولا يسعى للوصول إليها كانت بداية هذا التيار الذى يمثل الإسلام الحضارى بمعناه العميق مع سعيد الزمان النورسى ثم تطور مع الأستاذ فتح الله كولن إلى حركة ثقافية تعليمية دولية استطاعت تغيير ملامح المجتمع التركي، وامتدت إلى جميع أنحاء العالم الإسلامى وجيرانه من غير المسلمين. استطاعت «حركة الخدمة» بقيادة الأستاذ فتح الله كولن أن تقدم نموذجاً إسلامياً حضارياً، على العكس تماماً من نموذج الإخوان المسلمين السلطوي، حيث يركز نموذج حركة الخدمة على الإنسان والمجتمع؛ من أجل بناء إنسان حر قادر على أن يعيش عصره، ويتفاعل مع العالم المحيط به بقيم الإسلام، حراً فى اختياره، مسلحاً بأفضل مناهج العلم وأدواته، متسامحاً متفاعلاً بإيجابية مع جميع ثقافات وأديان العالم. وإذا تتبعنا تاريخ الحركات السياسية المنتسبة للإسلام؛ مثل حركة الإخوان وما تفرع عنها، أو انبثق منها نجد أنها جميعها كيانات طفيلية؛ تعتاش على الحركات الصوفية والروحية والاجتماعية مثل حركة الخدمة، وجماعة الدعوة والتبليغ، وغيرها، لأن تلك الحركات الروحية هى التى تعد الشباب المسلم إيمانياً، وروحياً ليدخل المسجد، وهناك تلتقطه الحركات السياسية، وتحوله من حالة السكينة الروحية، إلى حالة الثورة السياسية؛ وللأسف الشديد لا تنشط الحركات السياسية المنتسبة للإسلام مثل حركة الإخوان وتنظيماتها المنشقة عنها، أو المتأثرة بها بين عوام الناس البعيدين عن التدين، لأن ذلك يتطلب جهداً ونفسية لا يستطيعها أعضاء هذه التنظيمات السياسية المنتمين للطبقة الوسطى؛ من ذوى الياقات البيضاء؛ المتعالين فى الغالب على العوام، الذين يتكلمون بلغة المثقفين المعقدة، لذلك يقوم بهذا الجهد الحركات الدعوية البسيطة والروحية، وهم يقطفون ثمارها. الحال هكذا لم يكن غريباً أن يكون الكثير من كوادر حزب العدالة والتنمية التركي، وأتباعه وأنصاره ممن تكونوا فى حركة الخدمة، وتربوا على أفكار سعيد الزمان النورسى والأستاذ فتح الله كولن، ومنهم رجب طيب أردوغان نفسه، ولكن طبيعة فكر الإخوان المسلمين المسكون بالسلطة، المشغول بالدولة، يجعل من معتنقيه أشخاصاً براجماتيين انتهازيين، لذلك لم يكن غريبا أن ينقلب مدرس الخط العربى الشاب حسن البنا على شيخه عبدالوهاب الحصافى حين نصحه بعدم تأسيس الجماعة لأن فى ذلك فتنة للمسلمين، وشق لوحدتهم وتفريق لجماعتهم، وفى لحظة تاريخية نادرة ساوى التلميذ الغر نفسه بشيخه، واعتبر أن اجتهاده يعادل اجتهاد شيخه ولذلك قرر ترك شيخه والسير فى مشروعه لأسباب لم يكشف عنها التاريخ إلى اليوم، وكذلك فعل رجب طيب أردوغان مع أستاذه، وزاد عن سيده مدرس الخط العربى أنه فَجَرَ فى خصومته، وأجرم واعتدى بصورة تتنافى مع أبسط قواعد الأخلاق التى يرتضيها أسافل البشر، فانتهز فرصة الانقلاب الفاشل للتنكيل بعشرات الآلاف من الأبرياء لجريمة واحدة فقط هى أنهم كانوا مثله ممن تأثر بالأستاذ فتح الله كولن. والناظر فى بنية النظام السياسى التركي، وتركيبة المجتمع، وبرامج الأحزاب السياسية، وتوجهات الحركات الاجتماعية يجد أن حزب العدالة والتنمية الذى يقوده أردوغان وحركة الخدمة بقيادة الأستاذ فتح الله كولن ينطلقان من نفس الأسس، ويسعيان لتحقيق نفس الأهداف، وإن اختلفت الوسائل، فكلاهما يدعى المنطلق الإسلامي، والغاية الإسلامية، بينما بقية الأحزاب والحركات التركية تنطلق من عكس ذلك، وتهدف إلى تحقيق عكسه أيضا، إذ أن جميعها ينطلق من قيم مغايرة، ويسعى لتحقيق غايات مختلفة، وانطلاقاً من هذه الحقيقة فالمنطق العقلى يقول إن التناقض بين أردوغان وأستاذه كولن يعد تناقضاً ثانوياً إذا ما قورن بالتناقض بين الاثنين من جانب، وبقية الأحزاب والحركات الاجتماعية الأخرى من جانب آخر، فهو تناقض جوهرى تأسيسي، ينصرف إلى المسلمات والمبادئ والغايات، لذلك كان من الطبيعى أن تكون العلاقة بين أردوغان وأستاذه مهتدية بشعار الإخوان الذى يرددونه دائما على لسان مؤسس الحركة «نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه». ولكن لأن حقيقة فكرة الإخوان هى عبادة السلطة، فهى الغاية والمبتغى والهدف، والدين مجرد مبرر ومسوغ لهم للوصول إلى السلطة. وإلا قل لى بربك لماذا يتحرك الرئيس التركى بكل هذا العسف والتهور لاجتثاث حركة الخدمة، وتدميرها تدميراً كاملا، والقضاء على كل الخير الذى تقدمه للناس؟ أليس هذا دليلا على أن الإسلام السياسى التركى يدمر الإسلام الحضارى فى تركيا؟ لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف