تفتقد كثير من القوى الرؤية المنهجية وظل أداؤها فى مساحة ردود الأفعال والتصورات العاطفية لذا سهل النيل منها والخصم من أدوارها وحجم حضورها وتأثيرها. الغرب كما قال مالك بن نبى يلعبون بالجماهير المسلمة لعبة الثور الإسباني؛ فاللاعب يلوح بالقماشة الحمراء فى وجه الثور فتثور ثائرته ويبدأ فى مهاجمة القماشة دون أن ينال منها حتى تخور قواه ويسقط على الأرض، وقد خارت القوى وراء أقمشة حمر بعناوين البحث عن هويات وأيديولوجيات شمولية وتحديد انتماءات والالتحاق بتحالفات والطمع فى إمبراطوريات ومشاريع توسعية، والتداخل والإسهام فى مشاريع وأدوار إقليمية مريبة موظفة ضمن مشاريع استعمارية حديثة استهدفت حضور ووجود العرب ودولهم، والهدف إسقاط جميع الثيران وخروج اللاعب المغرور عديم الأخلاق والقيم منتصراً. لابد من التذكير بثوابت طمست الكثير من ملامحها ممارسات وحروب السنوات الست الماضية فمن مصلحة العرب والمسلمين بقاء تركيا قوية موحدة واستمرار نموذجها المدنى الديمقراطى وهذا من شأنه دعم تماسك دول المنطقة والانتصار فيها لنموذج الدولة الحديثة على حساب سيناريوهات الفوضى ودويلات الميليشيات المذهبية والأيديولوجية، بل كان نجاحها فى الانضمام للاتحاد الأوروبى ليصنع قفزة تاريخية حضارية انتظرناها طويلاً للمنطقة بأسرها، وساعتها ستصبح تركيا الجسر بين العالمين الإسلامى والأوروبى لتتصالح فعلياً الحداثة والعصرنة والنهضة الحديثة مع الإسلام وتقل فرص ومساحات الخصومة والصراعات التى يعبث فيها المتطرفون من الجانبين ويطوى ميراث قرون الحروب الدينية والغزوات الثقافية والحربية والاستعمار والكراهية والتفجير والتفخيخ والتلغيم والإرهاب. وهو ما يصب فى مصلحة الطرفين لينعم الغرب بسلام حقيقى ويتواصل مع الإسلام الحضارى بقيمه وسموه وفلسفاته وتسامحه وروحانيته، ويلحق المسلمون والعرب بركب الحضارة الحديثة وامتلاك أسرارها وتحقيق متطلباتها، لكن سيناريوهات الأحداث المتلاحقة الأخيرة تشير إلى تراجع كارثى على جميع المستويات، فتركيا تنغلق على مشاريع أيديولوجية أحادية وباتت تصدر لأوروبا كوارث ومآسى العالم الإسلامى من لاجئين وإرهابيين بعد أن هددها أردوغان بذلك عدة مرات، وصارت ملاذاً وحاضنة للأفكار والمشاريع الرجعية وليست التقدمية الحضارية القائمة على التنوع والتعددية والتعايش. بصرف النظر الآن عن ملف ثورات ما عرف بالربيع العربى وعن الغوص فى تفصيلاته ومؤامراته وتداعياته وحروبه وصراعاته وأدوار القوى الإقليمية فى هذا كله وعلى رأسها تركيا، فليس من المستغرب معاناة تلك القوى من انعكاساته ونتائجه فالقضية لم تكن التزاما أخلاقيا عابراً إنما اعتناق لمبادئ هوياتية جديدة وصعود لصدارة مشاريع تغيير إقليمية تتطلب القيام بثورة داخلية لوأد أى حركة مناهضة لها، وإذا كان أردوغان قد بدأ مباشرة هذا النهج الانقلابى الداخلى مبكراً بإجراءات متدرجة وخفية على مدار سنوات فى سياق الأخونة لا الأسلمة ونزع سلطان الجيش ونفوذه لاستكمال بنيان الدولة السلطوية الدينية، فإن ثورته تلك لم تظهر للعلن ويراها العالم بوضوح إلا أخيراً عندما كشفتها الحركة الانقلابية المضادة غير المكتملة. تركيا مقبلة على المرحلة الأخطر فى تاريخها الحديث، وهناك الكثير مما يدعم سيناريوهات الفوضى والصراعات المسلحة الدموية والحرب الأهلية على الطريقة التى أسهمت فيها وغذتها داخل دول الربيع العربي. أولا: ليس فقط الانقسام داخل الجيش فتلك الإجراءات التى اتخذت ضد قادته وضباطه وجنوده لن تمر بسهولة وستصنع تلك الاهانات والرغبات الثأرية انقساما آخر داخل المؤسسة العسكرية العتيدة لتتوالد الانقسامات، فى مقابل العقيدة الجديدة التى ستزرعها حملة التطهير وأهدافها فى المنطقة ودول الجوار، فضلاً عن مصائر ضحايا الحملة التطهيرية فلم يمض وقت طويل على سيناريو نشأة داعش والنصرة والجيوش والميليشيات الموازية إثر تفكيك الجيش العراقى ومحاولة تفكيك الجيش السورى بزعم تطهيره. ثانياً: التحول منهجياً إلى الإسلام السياسى الذى خرج منه الغنوشى أخيرا خشية على تونس منه، وصار واضحاً فى تركيا أن نموذج الإخوان المسلمين يراد له الانتصار والانتشار مقابل تجفيف منابع النموذج الحداثى الصوفى التربوى الذى يمثله الداعية فتح الله جولن على خلفية مزاعم تورطه فى محاولة الانقلاب، وهذا يحرم تركيا من التجربة الأهم التى كانت مؤهلة للنقلة الحضارية نحو أوروبا، فضلاً عن كونه النموذج الأقرب لتحقيق وحدة ونهضة الدول وتماسكها والتعبير عن قيم وفلسفة الإسلام الإنسانية وتمثيل المقاومة والممانعة الحقة الصادقة بمعزل عن التوظيف الشعاراتى الزائف، فى حين فشلت نماذج الإسلام السياسى والجهادى والسلفى والإسلام الشيعى الثورى ولم تقدم سوى التكبير فى أثناء قطع الرءوس ومناهضة الحداثة والعصرنة والتعددية، ودولة الخوف والإكراه بالدين، وسلطة السيف والقصاص، وفى حين قدم الإسلام الصوفى نماذج عمر بن عبدالعزيز والناصر صلاح الدين الأيوبى والسلطان عبدالحميد وعبدالقادر الجيلانى وعبدالقادر الجزائرى وعمر المختار قدمت النماذج الأخرى الحجاج والسندى والخومينى والزرقاوى والبغدادى والظواهري، بما يعكس حقيقة ما يقوم به أردوغان الذى يقتلع من تربة تركيا الإسلام الحضارى المشارك بالقضاء على تيار حزمت، ويصبغها بالإسلام المواجه والمحارب والمتصارع. فضلاً عن الحرب على الأكراد وتلك قضية تضاف لحرب أخرى تشن الآن على قطاعات أخرى واسعة من الشعب على خلفية انتماءاتهم السياسية والفكرية، فهناك خميرة احتجاجات وغضب انتفاضة جيزى 2013م التى قمعت بالقوة والمؤهلة للنضوج والاكتمال والاشتعال، وبالعودة لدوافعها نكتشف أنها تكرست أضعافاً مضاعفة؛ حيث تساءل المحتجون يومها عن الديمقراطية وسط ممارسات الديكتاتورية والشمولية الفجة وعن تركيا المسلمة بينما الدولة حليفة لإسرائيل وعضو فى الناتو وتسهم فى تحطيم سوريا وإذا كان المتظاهرون يومها حرموا من دعم الجيش لهم، وفى الثانية لم تحظ حركة الجيش بدعم شعبى لأسباب متعلقة بميراث حكم الجيش بتركيا وانتصاراً للدولة المدنية الذى تصادف أن يكون انتصاراً لرجل مدنى يكرس للحكم الشمولي، فإن خبرة الواقع وضراوة وكارثية الممارسات خارجياً وداخلياً لا يستبعد معها الاستفادة من النموذج الثورى المصرى الذى ينجح فى الانتصار لإرادة الشعب وللدولة المدنية والتعددية والإصلاح الحقيقي. وكلمة السر فى حركة الشعب والجيش معاً إنقاذاً لتركيا قبل السقوط فى الهاوية. لمزيد من مقالات هشام النجار