ثار الجدل, حول الدولة المدنية والدينية, واشتد اللغط حول طبيعة ومفهوم الدولة الإسلامية, وسادت المخاوف لدي الكثير من القوي السياسية والحزبية اليسارية والعلمانية, مع الإعداد للدستور الجديد في ظل أغلبية برلمانية إسلامية, جاءت تحذرات أنصار الدولة المدنية من تكرار نموذج الدولة الدينية الغربية التي عرفتها أوروبا في القرون الوسطي, وفي ظل الجدل السياسي والفقهي حول مرجعية الدولة, وهل هي مدنية لا مكان فيها للأديان؟ او مدنية ذات مرجعية إسلامية رغم ما قد يثيره هذا المفهوم الأخير لدي دعاة المدنية من تكريس للدولة الدينية ؟ نتساءل: ماذا يعني المفكرون الإسلاميون بقولهم إن الحكم الإسلامي يقوم علي المدنية والشوري, وان الشريعة الإسلامية لا تقر ولا تعترف بالدولة الدينية؟! وكيف يمكن فض الالتباس بين الدين والسلطة؟! وما هي الضوابط التي أقرها الفقهاء أساسا لنظام الحكم في الدولة الإسلامية ؟ وكيف يمكن الاسترشاد بدستور لدولة مدنية توحد المجتمع وتحفظ حقوقه وتعزز ثقافة الحوار والقضاء علي التمييز بجميع أشكاله ورعاية غير المسلمين في دولة هويتها إسلامية؟! إذا كانت المرجعية الإسلامية للدولة المدنية تثير المخاوف والالتباس بين الرؤية الدينية والسلطة الحاكمة, فإن الدكتور نصر فريد واصل, مفتي الجمهورية الأسبق وعضو مجمع البحوث الإسلامية, يؤكد انه لا يوجد تنافر بينهما فالأصل في السلطتين الدينية والمدنية أنهما يؤديان إلي تحقيق العدل والمساواة, والإسلام لايقر الفصل بين الدين والسياسة, لأن الإسلام دين ودنيا, وعقيدة الإسلام هي التي تؤكد العدل وعدم الغش, بل أن فصل الدين عن السياسة يحمل ما نعانيه من مشكلات اقتصادية واجتماعية ويضيف: عندما فصلنا السياسة عن الدين وعن أخلاقيات المبادئ العامة كانت النتيجة ما حدث الآن من فقر واستغلال وتفاوت بين الناس, ويضيف قائلا: مفهوم الدولة الدينية غير موجود في الإسلام, حتي عند وفاته صلي الله عليه وسلم ترك اختيار الخليفة من بعده شوري للمسلمين مما يعني أن اختيار الحاكم كان بشكل مدني وليس دينيا, والإسلام دولة مدنية دستورها الشريعة الإسلامية تجمع بين الدين والدنيا وحقوق الله وحقوق العامة, والدولة الدينية ليس لها وجود, والرسول صلي الله عليه وسلم كان رئيس دولة مدنية بصفة حاكم ومبلغ من عند الله, فعندما يأمر بما يخص الدين يطاع أما فيما يخص أمور الدنيا والحكم بين الناس فكان شخصا مدنيا يستشير الصحابة في أمور الحرب والدنيا. كما يرفض الدكتور محمد المختار المهدي, عضو مجمع البحوث الإسلامية ورئيس الجمعية الشرعية, مفهوم الدولة الدينية ويقول إن هذا المفهوم في الغرب يعني أن يتلقي الحاكم من الإله ما يريد أن يفعله في الشعب بدون مناقشة, وهذا انتهي في الإسلام بقوله تعالي: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا, وانتهي أيضا إلي أن العصمة تنتهي عند الأنبياء فقط, فليس بعد الأنبياء من هو معصوم, والحاكم بشر في كل تصرفاته, فالحكم في الإسلام حكم مدني قطعا, والحاكم محكوم قطعا بأنه أجير عند شعبه, إن وفي بما استأجرته الأمة عليه يستمر وإلا فيعزل, كما أن الإسلام يضمن حقوق الغير وعلي الجميع أن يخضع في حكم الإسلام في هذا, يقول الرسول صلي الله عليه وسلم:( لهم ما لنا وعليهم ما علينا). التعددية.. وتطبيق الشريعة في كتابه الإسلام.. والدولة المدنية يصف الدكتور عبد المعطي بيومي, عميد كلية أصول الدين الأسبق, وعضو مجمع البحوث الإسلامية, بعض الفرق الإسلامية المعاصرة بضيق النظر في تطبيق هذا المذهب الفقهي أو ذاك, أو فقه هذه الفرقة أو تلك, تجاه مفهوم ومرجعية الدولة المدنية, ويري أن تلك المحاولات تقوم علي التحيز والانحصار في دائرة المذهبية الضيقة, أو الطائفية المذمومة, بعيدا عن منظور الشريعة في شمولها ونقائها الأصيل, فالإسلام كل لا يتجزأ ولا يتبعض منظوره, أو ينحصر في تأويل بعينه لهذه الفرقة أو المذهب أو التيار, وإنما هو فوق ذلك كله, وسابق علي التأويلات والتفسيرات والاختلافات, فضلا عن الانقسامات والصراعات. ويؤكد الأصل الإسلامي للتعددية وحق الاختلاف والمجادلة بالتي هي أحسن, مستشهدا علي ذلك بالآيات الكريمة: ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة, لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا, ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولا إكراه في الدين وضرورة المجادلة بالتي هي أحسن, وما يتصل بذلك من معني المعارضة التي لا يقصد بها العداوة, أو الخصومة, أو المخالفة بقصد المخالفة, أو استئصال الآخر المختلف معنويا أو ماديا, وإنما المقابلة الاجتهاد, والاختلاف الذي هو رحمة تقود الي إمكان تقديم حلول متعددة بما يفيد المجتمع. كما ينفي الكتاب عن الإسلام الدلالة السلبية للحاكمية من حيث انقلابها إلي نوع من الحق الإلهي الذي يأخذه من يدعيه, أو يغتصبه, فالحاكمية لله تعني الحكم بما أنزل الله, وذلك بما يقيم العدل بين الناس, ويؤكد المساواة بينهم, ويحررهم من شروط الضرورة, دون تمييز بينهم علي أساس من جنس أو لون أو أصل أو فئة, أو حتي دين, فالمساواة أصل في المواطنة التي يقرها الإسلام, ويؤكد ما تنطوي عليه من إخاء وتسامح واشتراك عادل في الحقوق والواجبات. ولذلك يشير الكتاب إلي الموقف من الأقليات, مؤكدا أن الأصل الأصيل للإسلام يسع الجميع برحمته, فلا يجوز تشريع أي قانون في أي مجال من مجالات الحياة وأنشطتها يضر بغير المسلمين في مصالحهم, أو يؤذيهم في عقائدهم أو مشاعرهم, ولابد من إسهام الجميع فيها بلا تمييز, وبما يحقق تقدم الأمة الذي لا يتحقق إلا بشعور الجميع بالمساواة الكاملة في الحقوق والواجبات. كما يحذر في كتابه من فكرة المستبد العادل التي نقلها الإمام محمد عبده عن جمال الدين الأفغاني, وذلك بالرفض المطلق لطبائع الاستبداد مهما تكن صورها أو مبرراتها, مرتكزا في ذلك إلي الصفة المدنية لحكم الرسول صلي الله عليه وسلم الذي أمر المؤمنين بمخالفته في الأمور البشرية التي قد يخطئ فيها, مستنا بذلك التقليد الذي اتبعه أمثال أبي بكر, الخليفة الأول لرسول الله, عندما طالب المسلمين بأن يقوموه إذا رأوا منه اعوجاجا, ويعينوه إذا رأوا منه ما ينفع الجميع. كما يسطر بيومي في كتابه لمفهوم العقد الاجتماعي الذي تقوم عليه الدولة المدنية الحديثة ومفهوم العقد الديني الذي ينطوي علي المبدأ القائل بأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق, مخالفا بذلك التيار السلفي الذي كان يمنع الخروج علي الحاكم, كما يطالب الكتاب بإحلال النظر العقلي القائم علي الاجتهاد محل النظر النقلي القائم علي التقليد, قاصدا بذلك الإسهام في النهوض بالمجتمع الإسلامي, ودعم تياراته العقلانية الليبرالية التي هي الإطار المرجعي لمفهومه عن الدولة المدنية. الإسلام والسلطة والصراع الدائر الآن بين أنصار الدولة المدنية, والدولة الدينية يرد عليه الدكتور عبد المعطي بيومي بالقول: ليس في الإسلام سلطة دينية, ولا دولة دينية, دولة الإسلام دولة مدنية لها إطار أخلاقي قيمي ديني, لكنها من الداخل تعمل العقل والاجتهاد, وتعطي للخبرة الإنسانية مجالا واسعا جدا, كما تقوم الدولة المدنية علي أسس رئيسية هي أن الأمة مصدر السلطة, وعلي فصل السلطات الثلاث وعلي عقيدة تشكل النظام السياسي, والاجتماعي والاقتصادي, أما الدولة الدينية التي ظلت تحكم العالم في الحضارات القديمة فكانت تقوم علي الحق الإلهي في الحكم لبشر معينين, أما رأي الإسلام في الدولتين المدنية والدينية فيري الدكتور بيومي أن الدولة المدنية الأولي التي نشأت علي يد الرسول صلي الله عليه وسلم حددت نقاطا مهمة, أو محددات هي أن الأمة مصدر السلطات, فلم يتول حاكم في تاريخ الإسلام الحكم بناء علي حق إلهي مطلق, وإنما كان الخلفاء يستمدون سلطتهم من البيعة العامة التي يبايع فيها الناس الخليفة المرشح إضافة للفصل بين ما هو ديني ودنيوي, والفصل بين السلطات حيث كان الرسول صلي الله عليه وسلم حكما بين الجميع, لكنه لم يتفرد بالسلطة, وكانت له هيئة تشريعية معروفة من كبار الصحابة في أنشطة الحياة المختلفة, وكان عليه الصلاة والسلام يوسع من مجموعة مستشاريه بحسب الأحوال والأنشطة. وكانت لهذه الدولة المدنية علي عهد الرسول ملامح محددة منها أن الشريعة هي الإطار العام, وبداخلها منطقة للنصوص القطعية, وهي خاصة بالعبادات ثم جزء أكبر خاص بالأمور الدنيوية, تحكمها قواعد عامة, ونصوص عامة, والنص العام ميزته أنك تفهم شيئا, وأنا أفهم شيئا آخر, واللفظة القرآنية لها دلالة ظنية مفتوحة الدلالة, وحينما يقول عز وجل: وشاورهم في الأمر فهذا يعني أي صورة من صور الشوري يعمل بها, كالبرلمان, أو مجلس الشيوخ, أو مجلس نواب, أو زعماء قبائل. ويري عضو مجمع البحوث الاسلامية أن الإسلام لم يضع شكلا محددا للنظام السياسي, لكنه وضع له أربع ركائز أساسية يقوم عليها النظام الأساسي في الإسلام تبدأ بالمساواة تليها الحرية, ثم العدالة, ثم الشوري, وهذه ركائز الإسلام إذا طبقت يكون الحكم إسلاميا سواء كان جمهوريا أو ملكيا, وإذا أغفلت ركيزة أو اثنتان وحتي لو أقمت نظام خلافة وسميت نفسك أمير المؤمنين, لا يصبح نظاما إسلاميا, أما إذا عملت بها فهذا نظام إسلامي سواء كان جمهوريا أو ملكيا, فالشريعة الإسلامية في غاية المرونة, وقابلة للتطبيق ما لم تبح ما حرم بنص. وإذا كان دعاة الدولة المدنية وكثير من التيارات الإسلامية يرتكنون إلي مبدأ الحاكمية وفقا لاجتهاد فقهي في قول الله تعالي: إن الحكم إلا لله فان الدكتور بيومي يري أن القول بأنه لا حكم إلا لله, يعني الاستدلال بهدايات الشريعة الإسلامية, وان نضع لأنفسنا النظام الذي يحقق المساواة والحرية والعدالة والشوري, لذلك فان حكومات الغرب ليست مسلمة, لكنها حكومات إسلامية, وهذا ما قاله الشيخ محمد عبده, فهناك المساواة والشوري والعدالة وحقوق الإنسان والحريات. واجبات الحاكم والمحكوم وحول الدولة الدينية التي تقوم علي وجود الحاكم المسلم ويخضع نظامها وقوانينها الي التشريع الإسلامي, يقول الدكتور عبد الفتاح إدريس, أستاذ الفقه بجامعة الأزهر, إن هذا النموذج كان متبعا في الصدر الأول من الإسلام, ولم يظل في الدولة الإسلامية إلا في العصر النبوي وعصر الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه, وعندما اتسعت الفتوحات في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يكن هذا النموذج قائما كما كان الحال في زمن الرسول صلي الله عليه وسلم وأبي بكر, وذلك لأن عمر أقام ما يسمي بدولة المؤسسات حيث جعل لكل شيء ديوانا هو صورة مصغرة من الوزارات الموجودة الآن, ولهذا فيمكن القول بأن الدولة الإسلامية في زمان عمر لم تكن قائمة علي أساس ديني بحت وإنما تقوم علي أساس مدني في معظمه, وإذا قلنا إن الدولة المدنية هي التي تقابل الدولة الدينية, فإن الدولة المدنية هي التي تقوم سياستها علي إسناد الأمر فيها إلي مؤسسات تقوم بتصريف شئونها, ولا يعني كون الدولة مدنية أنها لا تتحاكم إلي شرع الله تعالي وذلك لأنها تقتصر المدنية فيها علي توزيع السلطة إلي مؤسسات مدنية تتولي تصريف شئونها بغض النظر عن القانون السائد في هذا المجتمع سواء كان قائما مستمدا من الشريعة الإسلامية أو من أي شريعة أخري, ومن هنا فإنه من الخطأ أن يقال إن الدولة المدنية تقابل الدولة الدينية, وإنما الذي يتبادر إلي الذهن أن الدولة المدنية يقابلها الدولة العسكرية. ويؤكد الدكتور إدريس أن وصول أحد إلي رئاسة الدولة أو المجلس النيابي لا يعني أن بمقدوره أن يصبغ الدولة بصبغة عسكرية أو دينية أو مدنية, وذلك لأن هذا هو شأن الدولة في النظام النيابي الذي يضمن لأفراد الشعب سلطة اختيار نظام الحكم فيها, فإذا وصل الإخوان مثلا إلي رئاسة الدولة فليس بمقدورهم مهما أوتوا من قوة أن يغيروا نظام الدولة وفق مشيئتهم وإرادتهم وألا يصبغوها بصبغة لا يتفق عليها جمهور الناس خاصة أن المجتمع المصري يجمع في نسيجه مسلمين وغير مسلمين, يضاف إلي ذلك أن هذا النظام هو إرادة شعب وإرادة نواب وليس إرادة حاكمين, فالحاكم له حدود يقف عندها لا يتخطاها وإلا فقد شرعيته وأصبح في مهب الريح تقتلعه في أي لحظة, ويكفي لإثبات ذلك أن الذين وصلوا إلي مجلسي الشعب والشوري جاءوا بانتخاب حر من الشعب, والذي اختار بوسعه أن يرجع عن اختياره في أي لحظة.