من يتابع الشأن التركى منذ صعود أتاتورك الذى له قداسة فى تركيا لاتمس حتى الآن والتى بدأت بنهاية عصر الدولة العثمانية فى العقد الثانى من القرن العشرين، يدرك تماما أن «العلمانية» هى الأصل، وما عدا ذلك استثناء له ظروفه وله نهاياته فى الوقت المناسب، يقود إلى العودة للمسار الرئيسى وهو «العلمانية» طريقا لجمع شمل الأتراك بمختلف أعرافهم وأديانهم وقومياتهم، وطريقا للحكم المدنى الملائم للشعب التركي. ولذلك فان من قرأ وحلل آخر انقلاب حدث فى تركيا فى عام 1997، رأى كيف كان انقلابا صامتا، حيث مارس العسكريون ضغوطهم على «أربكان» رئيس الوزراء وزعيم حزب «الرفاة» الاسلامى آنذاك، وأجبروه على الاستقالة وتولية رئيس الحزب الفائز بعده رئاسة الوزراء وتفكيك تحالف «الرفاة»، حتى تم إجراء انتخابات برلمانية جديدة ليخرج «الرفاة» ويتم حله باعتباره حزبا دينيا يخالف مبادىء الدولة التركية وهى العلمانية والتى أرساها «كمال الدين أتاتورك»، ويحكم بعده اليسار، ثم اليمين ثم اليسار، إلى أن عاد حزب اسلامى آخر «الفضيلة» وشهد نهاية «الرفاة»، ثم حزب «العدالة والتنمية» بزعامة أردوغان وبمشاركة عبدالله جول، اللذين تبادلا المناصب (رئاسة الدولة رئاسة الوزراء)، حتى تم تدشين «أردوغان» مرة أخرى بعد أن كان محروما ومعزولا عن ممارسة الحياة السياسية. ولكن بفعل الأغلبية للعدالة والتنمية، تم إعادته مرة أخري، ليصبح زعيما سياسيا كما نراه الآن، ويلعب على مسرح السياسة الاقليمى والدولى ترجمة لاحلامه وأطماعه السياسية فى الداخل وتنفيذا لأجندات أوروبا وامريكا لضمان استمراره بأى ثمن. وما كان يخفيه عن طابعه الدينى الاسلامي، لتعارض ذلك مع مبادىء العلمانية فى حكم تركيا، اصبح يعلنه صراحة، ولعل المساندة الواضحة لجماعة الاخوان وايواءهم فى تركيا، وكذلك كل ما على شاكلتهم تحت حمايته وحماية حزبه، تنفيذا لتعليمات أمريكية. وذلك فى إطار انتهازية سياسية واضحة يتميز بها أردوغان وكل المتأسلمين الذين يوظفون الدين فى تحقيق أغراضهم السياسية. فى هذا السياق كان من الضروري، قيام انقلاب عسكرى ضده ومباشر، وليس انقلابا صامتا، مثلما حدث مع «أربكان» من عشرين عاما، وأنجز مهامه دون خسائر تذكر تحقيقا للمصلحة الوطنية التركية، لأن الجيش هناك لايريد الحكم الا استثناء، ولكنه فى عقيدته العسكرية الوطنية عليه أن يحمى «علمانية الدولة الأتاتوركية» منذ ما يقرب من (100) عام. لأن الانقلاب الصامت قد لايحقق أهدافه، لما يتمتع به أردوغان وحزبه «العدالة والتنمية» من شعبية لاتنكر. فحين يتحرك الجيش ويمارس ضغوطه لإجبار أردوغان على الاستقالة، فهو أمر غير مضمون النجاح. إذن لم يكن هناك بديل عن تحرك عسكرى مباشر من الجيش التركى فى شكل انقلاب، يسيطر به على الأوضاع، ثم يعد العدة لبيئة سياسية مختلفة، تزيح من المسرح السياسي، المتأسلمين وتجار الدين، وتعيد «العلمانية الأتاتوركية» مرة ثانية، وهذه إجابة على تساؤلات الكثيرين الذين ابتعدوا فى تحليلاتهم وتعليقاتهم عن حقيقة الوضع التركى وتطوراته. لكن الانقلاب فشل، لأسباب عديدة، فاض بها الكثيرون، لعل فى مقدمتها تحركات أمريكية من قاعدة «انجرليك» العسكرية فى جنوب البلاد، التى تسيطر عليها الولاياتالمتحدة وكان لقواتها وطيرانها الكلمة الفصل فى إنهاء الانقلاب، بعد (6) ساعات بالضبط من بدء وقوعه، واستعادة اردوغان المشهد مرة أخري!! ومن ثم كان للعامل الخارجى الموجود داخل الأراضى التركية فى قاعدة «انجرليك» الكلمة الفصل فى حسم الأمور تحقيقا لأهداف عديدة. فليس العيب فى الانقلاب ذاته، فقد كان ضرورة حتمية متوقعة، أشرت إليها فى بعض مقالاتى باعتبارها أحد السيناريوهات لإعادة ترتيب المسرح الاقليمى فى ضوء تغيرات وتحولات النظام الدولي، وعلى خلفية ارتباك المشهد الاقليمى فى سوريا والعراق وفى ليبيا وفى مصر وفى اليمن، بما يتعارض مع المصالح الأمريكية والغربية عموما وفى ظل واقع دولى جديد لايمكن للغرب إنكاره. وليس فى تمسك الشعب التركى بقيم الديمقراطية، كما أشار لذلك «أردوغان» فى كلمته بعد العودة، فالاجراءات التى اتخذها بعد العودة مباشرة تدل على عدم احترامه لذلك، بل إن الشعب التركى لم يتحرك حقيقة، فقد انتهز الفرصة للتخلص من كبار القادة العسكريين (3) آلاف، والتخلص من قضاة وصل عددهم ل (3) آلاف، فيما قتل وأصيب نحو (2000) تركى من الشعب والجيش، وسمح باهانة عدد من قوات الجيش فى الشوارع، وهى اهانة لاتغتفر مطلقا!!، كما أنه من دواعى الاندهاش ما يتعلق بعلاقة القضاة بالانقلاب؟! إلا أنهم خصوم سابقون أراد أن يتخلص منهم. وخلاصة القول: إن استمرار القلق وعدم الاستقرار، ومعاودة الانقلاب الذى كان رسالة لكل الأطراف المعنية فى مقدمتهم أردوغان، من الخارج والداخل فى إطار قراءة موضوعية شاملة لما يحدث فى تركيا، هو السيناريو الأكثر احتمالا، لمن يريد أن يفهم الأمور فى تركيا مستقبلا. ويكفى أن أحد أهم المؤشرات هو توجه أردوغان وحزبه نحو الغرور السياسى الدافع إلى إقصاء الآخرين بلا تردد، مع الجنوح إلى السلطوية الانفرادية التى عادة ما تؤدى إلى السقوط. فما حدث هو انقلاب النهاية لأردوغان والمتأسلمين فى حكم تركيا، فصبرا. لمزيد من مقالات د. جمال زهران