لم تكن من كلمة اخترقت المجال العام، وهيمنت على فضاءاته المختلفة أكثر من مصطلح «التجديد» الذى صار الكل يتداوله، شيوخ ومثقفون، مفكرون وكتبة، غير أن المردود الفعلى فى واقع المصريين وحيواتهم المختلفة لم يكن أكثر من «أسمع جعجعة ولا أرى طحينا» فصناعة العقل العام فى مصر غائبة، والأدوات ضحلة، والنخب فى معظمها- تطرح رطانا فارغا صباح مساء. هل يمكن لنا أن نسائل فعل التجديد ذاته، أن نسعى إلى خلخلة المستقر والسائد والمألوف، أليس مدهشا أن نختزل سؤال التجديد فى تنمية التراث وتطويره، بدلا من مساءلته، وصنع قطيعة معرفية مع الماضي، أملا فى غد أكثر جمالا وحرية. شهدت الآونة الأخيرة زخما يتصل بتجديد الخطاب الديني، ثم سرعان ما خبا الضوء، وعادت الموروثات القديمة لتصنع حجابا حول العقل، وبدا التفكير فى التجديد طريقا لتكفير المجددين أنفسهم واستئصالهم من متن الحياة اليومية، وبدأت التصورات القديمة يعيدها أصحابها فى حلة جديدة، وتواترت كلمة التجديد عشرات المرات، وكأن ذكرها وحده كفيل بحدوث تجلياتها فى مناحى الحياة المختلفة، وصار هذا التصور اللفظي/ الشكلى حاكما فى التعامل مع هذا الفعل الطليعى الذى لا تحققه المفردات مهما تكن بلاغتها، ولا تحققه الأمانى مهما تكن نبيلة. ولأننا شكليون بالأساس، ولا نبدأ شيئا لننهيه، بل لنلتف عليه، فيتم تمييع كل القضايا، انطلق خطاب التجديد أو قطاره من الدينى إلى الثقافي، وأصبح تجديد الخطاب الثقافى عنوانا لرطان من نوع جديد، لكنه كان بدوره خاليا من المعني، إنشائيا بامتياز، فلم تقف الثقافة الرسمية على عتبات فعل حقيقي، يغادر الصخب الكرنفالى إلى الإنجاز الواقعي، وأصبح الأداء البيروقراطى المترهل حاكما، وغابت المسئولية الثقافية فى لحظة مفصلية من عمر الأمتين المصرية والعربية. تبقى الأسئلة أداة فاعلة فى فهم الواقع وتحولاته، فهل نملك حقا إرادة سياسية لدفع مسارات التجديد الديني/ الثقافى إلى أفق مختلف؟ ولماذا غابت المؤسسات الدينية والتعليمية والثقافية والإعلامية عن أحد أكثر الملفات المصرية حيوية فى اللحظة الراهنة؟، وهل المآلات التى وصل إليها سؤال التجديد قادرة على انتشال المجموع من عثرة التفسيرات الخرافية والأسطورية للعالم؟. يبدو السؤال هنا طريقا للجواب، فعلى المسار الدينى ثمة باحث إسلامى شاب يدفع ثمن اجتهاده الآن، فكفره البعض، واتهمه البعض الآخر بالمروق، وعلى الرغم من محاولته التى سبقتها عشرات المحاولات الناضجة لتنقية الموروث، فإن المحصلة كانت كارثية فيما يتعلق بحرية البحث والتفكير، وعلى المسار الثقافى يدفع كاتب شاب أيضا ثمنا لنص أدبى كتبه، حيث خلط البعض بين المتخيل والواقعي، مثلما خلطوا بين الراوى فى العمل الأدبى والكاتب ذاته، وأصبحنا أمام جملة من المفارقات المؤسفة ربما تفضى بنا إلى جانب من الحقيقة الراهنة. يبدو سؤال التجديد سؤال النخبة بامتياز، لكن ما حدث من تآكل للنخبة المصرية بات أمرا يدعو إلى الرثاء، وباتت الروح الصغيرة التى تسطو على جانب من المجال العام، تؤذن بوجود قطعان من الجهلة، والمرتزقة، والأميين، تطرح خطابا تلفيقيا، وتحريضيا، وتكفيريا بامتياز، يصب فى خندق التطرف وأنساقه المتشددة، وبما يعنى أن استعادة النخبة لعافيتها، استعادة لقوة تأثيرها فى الفضاء المصرى الذى بات فيه ناسنا وجماهير شعبنا آخر ما يشغلهم هو خطابات التثاقف اليومية التى تبث ليلا، ونهارا. إن المآلات التى وصل إليها راهن التجديد وتجلياته باتت هزلية، وتدعو للأسى أكثر من أى شيء آخر، ولذا فإن علينا أن نضع كل شيء موضع المساءلة، بدءا من التراث ووصولا إلى صناعة العقل العام فى مصر، فلا يجب أن نحيا مثلا موزعين بين زمنين، أحدهما قديم ماضوى انتهى أثره، والآخر راهن حيوى يتجدد كل صباح، كما يجب علينا استعادة معنى المثقف العضوي، ودوره الفاعل فى مجتمعه، فضلا عن تفعيل الدور الباهت للمؤسسات التعليمية، والثقافية، والإعلامية المختلفة، فى وصل الناس باللحظة الراهنة، وتبصيرهم بواقعهم، ورفدهم بقيم الوعى الممكن القادر على الاستشراف والتخطى والمجاوزة.وبعد.. لا يمكن لأى أمة أن تنهض دون أن تخلق مناخا داعما للتفكير، مسكونا بالعدل، وأشواق الحرية، هنا وعبر هذا الفهم يصبح التجديد حالة مجتمعية، تمليها الضرورة الحياتية، والإنسانية، حيث الرغبة العارمة فى التطور، ومغادرة كهوف الماضى بمظاهره وشخوصه وأنساقه، ومن ثم يصير التقدم قيمة، والمستقبل غاية، أما الركون العقلي، والجبن الفكري، والسير فى المناطق الآمنة، فهذا لن يأتى إلا بالمزيد من الخيبات، والإخفاقات التى لم يعد وطن عظيم مثل مصر يستحقها. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله