العمل هنا مستمر لمدة 24 ساعة.. سبعة أيام فى الأسبوع.. فلا عطلات رسمية أو أعياد أو مواسم.. جنود مجهولة.. اختصر الناس عملها فى إعلان درجات الحرارة المتوقعة.. رغم أنه لا يمكن أن تقلع طائرة أو تبحر سفينة يوميا دون الرجوع إليهم.. ورغم طبيعة عملهم الحساسة التى تتطلب قدرا كبيرا من الدقة واليقظة ، نالتهم الكثير من سهام النقد بل والسخرية من تنبؤاتهم، والتشكيك فيها. «تحقيقات الأهرام» تجولت فى أروقة هيئة الأرصاد الجوية.. لتتعرف عن قرب عن طبيعة عمل هؤلاء« الفرسان» كما يصفهم مديرهم وحيد سعودى - مدير عام التحاليل الجوية والمتحدث الرسمى باسم الهيئة.. فى العاشرة من صباح يوم قائظ الحرارة، كنا أمامه فى مكتبه بالإدارة العامة للتحاليل أخطر مكان بالهيئة على حد وصفه- وهى واحدة من ثلاث إدارات فى الإدارة المركزية للتنبؤات الجوية والتحاليل. بدأ سعودى يشرح لنا تفاصيل عملهم ، فمن خلال إدارة التنبؤات الجوية- الإدارة الثانية - يتم إصدار التنبؤات لقطاع الطيران بأكمله ، من خلال مراكز تنبؤات منتشرة فى جميع مطارات مصر العسكرية والمدنية، والتى تتعامل مع الطيارين وشركات الطيران وتقدم لهم الخدمات المطلوبة من خلال إعداد ما يعرف بخرائط الطقس المعنوى significant weather chart ، وعليها يتم تحديد كل الظواهر الجوية الحرجة التى من الممكن أن تؤثر على سلامة الطيران بدءا من مستوى الرؤية الافقية على الممرات، والرؤية الرأسية، أو اذا ما كان هناك سحب رعدية ، فيتم رسمها على الخريطة حتى يبتعد عنها الطيار ، كما يتم عمل ما يعرف ب route forcast، أى يتم تحديد الظواهر التى يمكن أن يواجهها فى مسار الطائرة، كتكون سحب ركامية ، أو وجود تيارات الهواء النفاثة، وهى تيارات سرعتها عالية جدا تصل الى 300كم فى الساعة ، فلو كانت تلك التيارات فى الاتجاه المضاد لحركة الطائرة فستتعرض لمطبات شديدة، فيجب على الطيار تجنبها، ويتابع سعودي:« لذلك يتم اللجوء لنا لمعرفة أسباب حوادث الطيران بالتعاون مع الادارة المركزية لحوادث الطيران». الإدارة الثالثة- والكلام لسعودي- هى الحاسب الآلى ، ومن خلالها يتم الحصول على كل مايخص علوم الأرصاد الجوية من كل بلدان العالم ، وهى معلومات نتبادلها مع بعضنا البعض فى آن واحد، ليقوم الراصدون الجويون بعد ذلك بتوقيعها على رأس الساعة ، إما يدويا على الخرائط الورقية أو من خلال برامج على الكومبيوتر، لكن بالطبع المبتدئ لابد أن يرسم بيده. التنبؤات العددية هنا طلبنا من وحيد سعودى أن يبسط لنا الأمر فقال بصدر رحب:« على الخريطة توجد ألف نقطة، كل منها تمثل محطة فى العالم، يكتب عليها درجة الحرارة الجافة،و قيمة الضغط الجوى واتجاه الرياح وسرعته والظواهر الجوية المصاحبة، وحتى يقوم المتنبئ بالتحليل لابد من توافر معلومات لنحو 650 محطة على الأقل، أى نحو 4 آلاف معلومة، وخبرة الراصد الجوى هى التى تتيح له توقيع هذه المعلومات خلال ساعة من الزمن ، ومواكبة منا للتطور المهول فى علم الأرصاد الجوية وكما هو متبع فى دول العالم ، فإننا نعمل وفقا لما يعرف بالتنبؤات العددية وتعطى لنا نماذج، كل منها يعطى تنبؤا لمدة أسبوع ، وكلما طالت فترة التنبؤ قلت الدقة. ويتابع سعودي:« لدينا فى مصر 110 محطات سطحية منتشرة فى محافظات مصر تقيس درجة الحرارة ونسبة الرطوبة واتجاه الرياح وسرعتها والضغط الجوى وترسلها لنا كل ساعة ثم نقوم بإرسالها لكل بلدان العالم التى تقوم فى المقابل بارسال بياناتها، فكلنا نخدم بعضنا البعض من أجل تأمين حركة الطيران«. أكاذيب سألناه عن سبب الفارق بين درجات الحرارة المعلنة من الهيئة وبين مواقع الطقس الأخرى، خاصة فى أثناء الموجات الحارة، فأكد سعودى أن الهيئة تعلن درجة الحرارة ايا كانت، وقال : عندما وصلت درجة الحرارة الى 46 درجة فى الصعيد أعلناها فى نشراتنا الموزعة على جميع وسائل الاعلام، لكن للأسف بعض المواقع تقوم بنشر شائعات للإضرار بمصر اقتصاديا وسياحيا، كالإعلان عن موجات شديدة الحرارة هى الوحيدة من نوعها على مستوى العالم، أو التحذير من أشعة الشمس التى تسبب السرطان، أو عواصف ثلجية وغيرها، ونقوم بالرد على كل تلك الاكاذيب، من خلال إدارة البحث العلمى و قاعدة البيانات بها«. أمانى حمدي- متنبئ جوى وتعمل بالهيئة منذ ثلاث سنوات- تلتقط طرف الحديث ، وتؤكد أن الهيئة تعلن درجات الحرارة دون أى حسابات أخرى سوى ما تراه أمامها، وتقول:« كل يوم لابد أن نتأكد من صحة تنبؤاتنا فى اليوم السابق، وبفضل الله تكون متطابقة تماما مع الحرارة المسجلة، واذا لم تكن كذلك لابد أن نعرف موضع الخطأ، حتى لا يتكرر». ويعاود سعودى الحديث:« فى الفترة الاخيرة أيقن الناس مصداقية تنبؤات الهيئة مقارنة بسنوات ماضية،سواء درجات الحرارة أو السيول التى نتنبأ به قبل وقوعها بموسم كامل، وذلك يرجع الى أننا نجلب كل ما هو جديد، وما يوجد لدينا هنا هو نفسه الموجود فى أوروبا وامريكا ، وهو ما شاهدته بعيني، فمصر عضو فى المنظمة العالمية للارصاد الجوية وكان لها شرف ترأس المنظمة لدورتين كاملتين لمدة 8 سنوات وكانت الوحيدة فى ذلك، وقد حصلنا على شهادة الايزو للسنة الرابعة لدقة تنبؤاتنا». ويتابع :« يتم الآن تحديث جميع الأجهزة فى المركز الاقليمى للتدريب و إدخال كل الانظمة الحديثة فى مطار القاهرة لتأمين حركة الطيران، كما وافقت رئاسة الجمهورية على استخدام خمس إدارات تابعة للقوات المسلحة إدراكا منها لأهمية عملنا، كما جلبنا حاسبا آليا عملاقا ذا سرعة مهولة للمساعدة فى دقة التنبؤات». مؤهلات مطلوبة سعودى أرجع كذلك تطور أداء الهيئة فى السنوات الأخيرة إلى اهتمامهم بالعنصر البشرى فيقول: »الاخصائى الجوى لابد أن يكون حاصلا على بكالوريوس علوم قسم فيزياء ،أو رياضة أو أرصاد جوية حديثة ، و بعد تعيينه يحصل هنا على دورة تدريبية من خلال الإدارة المركزية للتدريب ، لمدة سنة ، ثم يتم إيفاده لجامعة القاهرة ليحصل على دبلومة الدراسات العليا فى الفلك والأرصاد بكلية العلوم لمدة سنة أخري، حتى يقال عنه أخصائى جوي،أما بالنسبة للراصد الجوى فشرط تعيينه أن يكون حاصلا على الثانوية العامة من القسم العلمى أو خريج معهد لاسلكى أو دبلوم صناعى ، لكنهم كلهم هنا من حملة المؤهلات العليا وبعضهم حاصل على درجة الماجستير«. لكن هل يا ترى العدد كاف؟؟ أوضح سعودى ان هناك نقصا وقال مقارنا:« التنبؤات يقف وراءها فريق عمل مكون من 14 اخصائيا جويا وحوالى 30 راصدا جويا، لكن عندما انضممت للهيئة منذ نحو 35 عاما ، كان هناك 52 اخصائيا و65 راصدا، لكن بسبب قلة التعيينات فى السنوات الأخيرة، نقص العدد وإن تم فى الآونة الاخيرة ، تعيين أوائل الخريجين وحملة الماجستير والدكتوراة ويتم إعدادهم وإكسابهم الخبرة«. سألنا سعودى : لماذ لا يكون هناك تحديث لبيانات هيئة الأرصاد على مدار اليوم، سواء من حيث درجات الحرارة أو الرطوبة، فالكل أصبح حريصا على مدى حالة الجو باستمرار، هنا بدت على ملامحه علامات الأسى،وقال:« كنت أذيع النشرة الجوية فى التليفزيون المصرى من سنة 1990 حتى 2006 ، ثم أسندوا المهمة لمذيعة ،مهمتى أن اعد لها الاسكريبت وأدربها على الالقاء لكن فى النهاية لن تكون مثل المتخصص، ثانيا، فى كل بلدان العالم المتقدمة فى علوم الأرصاد تذاع نشرة جوية كل ساعة بل هناك قنوات خاصة لمواكبة اى تقلب او تغير فى الغلاف الجوى يتم التنبيه به على المواطن وقطاعات الدولة المعنية، اما نحن نذيع النشرة مرة واحدة ولا يوجد تحديث على مدار اليوم، ومن المفترض ان تذاع النشرة مرتين أو ثلاث مرات خلال اليوم على الاقل». وحول برامج التنبؤ بدرجات الحرارة على الهواتف المحمولة، شكك سعودى فى دقتها، مشيرا إلى انه تم التعاقد منذ سنوات مع إحدى شركات الدعاية وبالتعاون مع الشركة المصرية للاتصالات لبث نشرتنا الجوية على المحمول مقابل 30 قرشا يوميا، وأقول لكل المصريين لا تثقوا الا فى تنبؤات هيئة الارصاد». النساء قادمات أمانى واحدة من العنصر النسائى بالهيئة، الذى يشيد به وحيد سعودى، مؤكدا أنه أثبت جدارة فوق ما كان يتصور، وتجاوز عددهن الذكور ، وهن من أوائل الخريجين، وبدأ انضمامهن للهيئة منذ 15 عاما، فيقول:« ارتاح فى العمل مع الجيل الجديد من الفتيات لإخلاصه ودقته وتحمله المسئولية«. ويتابع:« لا يستمر هنا إلا من يحب عملنا، أما من يعتبره مرحلة مؤقتة لحين تعيينه فى إحدى الجامعات، أعرفه على الفور ولا أبقى عليه ، فهل ندربه ونكسبه الخبرة ثم يقرر الرحيل؟! أصعب أوقات عملهم كما تقول أمانى هى الفصول الانتقالية وهى الربيع والخريف بسبب التقلبات الجوية الحادة والسريعة فقد نشهد مظاهر الفصول الأربعة فى يوم واحد لكن فصل الصيف مستقر ، وكذلك الشتاء باستثناء نشاط الرياح والأمطار ،أما الخريف فهناك سيول ونشاط رياح وارتفاع فى درجات الحرارة يعقبه انخفاض، وفى هذا الربيع تم تسجيل اعلى درجة حرارة فى موجات شديدة الحرارة يعقبها انخفاض يصل إلى عشر درجات ،وقد يكون هناك نشاط رياح يصل الى حد العاصفة الوقتية على بعض المناطق، وتشرح لنا أمانى على الخريطة أمامها :« مصر من الدول القلائل التى يقع فى شمالها بحر وفى شرقها بحر والباقى صحراء فتصبح فى محط صراع للكتل الهوائية، ومهمتى ان أحدد أى كتلة سيكون لها الغلبة ، هل من الشرق فتكون محملة بالرطوبة والحرارة ، أم من الشمال فتكون باردة، أم من الجنوب فتكون حارة جافة وهكذا، وهنا يعلق سعودى :«عناصر الغلاف الجوى قد تتغير فى جزء من الثانية، لكن لدينا فرسان لهم المقدرة والخبرة التى تمكنهم من إعلان التنبؤات فى الوقت المناسب الذى يسمح بالتعامل معها وتفادى الأخطار». محمود شاهين-وكيل مركز التحاليل الجوية ومعد النشرة الجوية - أوضح لنا أن العاملين بالمركز يعملون بالتناوب فى أربع «شيفتات» كل شيفت 6ساعات ويعمل به ما بين 5 و 8 أشخاص ما بين راصد وأخصائي، ومن يعملون ليلا ، يبيتون هنا فى استراحات، وغالبا ما تعمل الفتيات حتى التاسعة ليلا ، والعمل اليومى يبدأ فى السابعة صباحا، وهنا يعلق سعودى بأنه يفضل أن يعمل الاخصائى لمدة 12 ساعة، ثم يحصل على راحة يوم كامل، لانه يكون متابعا للوضع على مدى فترة زمنية طويلة تساعده فى اتخاذ القرار الصحيح». بيوتنا تحولت الى «ساونا» ..وفى حديث لا مفر منه عن تغير المناخ، أوضح سعودى أن ارتفاع نسبة الرطوبة فى الصيف تعرفه مصر منذ زمن ،لكن الإحساس به فى الأعوام الاخيرة، يعود لعوامل أخرى منها الزحام والتلوث وعدم وجود التهوية اللازمة فى الشقق السكنية، وضيق مساحتها وانخفاض أسقفها، فتحولت بيوتنا الى »ساونا« فضلا عن قلة المساحات الخضراء، التى تطلق الأوكسجين وتمتص ثانى أكسد الكربون واستعمال الزجاج والألوميتال بدلا من الخشب« الشيش«، وارتفاع عدد المكيفات والسيارات. وقد تصل نسبة الرطوبة الى 100% فى ساعات الليل الاخيرة حتى الساعات الأولى من الصباح، أما عن الأتربة العالقة فى الهواء، والتى أصبحت ملاحظة بكثرة، فأوضح سعودى أنه مع ارتفاع درجات الحرارة، يصعد الهواء الساخن لأعلى ويحمل معه ذرات التراب فيصبح لون الهواء« مصفرا« ، وتقل الرؤية الأفقية. فى النهاية سألناه هل مازال مناخ مصر فى المناهج التعليمية: حارا جافا صيفا.. دافئا ممطرا شتاء؟؟ فأجاب بأنه تم تزويد وزارة التربية والتعليم بالتحديث اللازم بعد تغير المناخ، لكنه لا يعتقد أنهم أدرجوه بعد فى المناهج، مشيرا إلى أنهم يستقبلون طلبة المدارس بكل المراحل التعليمية ليروا كل شيء على الطبيعة.