سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
«الوطن» داخل معمل تحاليل هيئة الأرصاد.. عيون ترصد «غضب الطبيعة» رئيس فريق الراصدين الجويين: مصر لديها 120 محطة أرضية ترصد كل ساعة درجات الحرارة واتجاه الرياح والعواصف الرملية والترابية
على مقعد صغير، بالكاد يكفى جسدها النحيل، داخل إحدى سيارات الأجرة، جلست «أميرة سامى»، فى طريقها إلى عملها صباحاً، يعبث السائق بأنامله الغليظة ب«الراديو» لتخرج عليهم مذيعة النشرة بصوتها الرخيم تقرأ عليهم درجات الحرارة، فما كان من السائق إلا أن علا صوته الأجش، وتمتم بألفاظ نابية، وأنهاها: «بقا ديه درجة الحرارة يا عالم انتوا عمركوا ما تقولوا درجة الحرارة صح أبداً فى عز النار ده»، تمتعض وتحمر وجنتيها، وتنتفخ أوداجها غضباً، ثوان وتباغتها سيدة وثيرة طاعنة فى السن تقبع إلى جوارها بالرد على السائق: «هما عمرهم قالوا درجة حرارة صح يا أوسطى»، يتبادل الركاب أطراف الحديث، حول راصدى درجات الحرارة فى البلاد، ومعه يقع أمام «أميرة» شقاء 12 عاماً من العمل كإخصائى رصد جوى، تشير إلى السائق قائلة: «هيئة الأرصاد معاك يا أوسطى»، ويرد السائق: «هو أنت منهم حسبى الله ونعم الوكيل». تصل إلى بوابة هيئة الأرصاد الجوية، تخضع لتفتيش دقيق، فالكل هنا من المدير إلى الخفير عليه أن ينصاع لتلك الإجراءات الصارمة فى التفتيش، لخصوصية المكان المتاخم لوزارة الدفاع.. دقائق تمر من بين البنايات الأنيقة، هذا «مركز البحث العلمى» وتلك «حجرة الأوزون» وهنا «مركز التدريب الجوى»، كلها مبان تابعة لهيئة الأرصاد ولكن جميعها فى خدمة الغرفة القابعة فى تلك البناية البيضاء المنزوية فى نهاية محيط الهيئة، لا تبدو على أناقة مفرطة كمثيلتها الأولى، تصعد الدرج إلى الدور الثالث، وهنا تظهر لافتة «معمل تحاليل هيئة الأرصاد الجوية». باب منفتح على مصراعيه، مكان فسيح يحده من اليمين جدار زجاجى يفصل بينه وبين «معمل الاستشعار عن بعد»، ومن اليسار أجهزة الحاسب الآلى، تظهر على شاشاتها الخرائط بمختلف أشكالها، تلك للرياح، وهذه للضغط الجوى، وأخرى لدرجات الحرارة، تتحرك «أميرة» بحرية بين الأجهزة التى يفصل بينها عدد من الطاولات التى تحمل الخرائط الورقية متعددة الأشكال والألوان والمقاسات. على يمين الباب طاولة، يجلس عليها البعض يمسكون بأيديهم وريقات مملوءة بالأرقام، ممهوراً عليها درجات الحرارة، وإلى جوارهم أجهزة تبدو للقياس، مرقمة وبها عقارب تشبه إلى حد كبير عقارب الساعة، أو تلك التى تظهر فى عداد محرك السيارة، ولكن الأرقام تأخذ ترتيباً آخر غير الذى نعرفه، لا تبتعد تلك الأجهزة التى على مقربة من النوافذ عن الطاولة التى يجلس عليها عدد من الرجال. بسمرة وجهه، وعويناته الواسعة، يصدر أوامره للجالسين على الطاولة، فهذا يقوم ينظر إلى المقياس، وآخر يبتعد إلى مكان، وآخر يأتى بتلك الورقة التى خرج بها فارغة، وقد ملأها بالأرقام، والحسابات، فهو «محمود حسن»، رئيس فريق الراصدين الجويين، تكمن مهمته على رأس كل ساعة، يوزع رجاله بين المقاييس وحظيرة الرصد الجوى، التى تعلو سطح المعمل، فى مواجهة وزارة الدفاع ويقول ل«الوطن» بصوت هادئ: «مصر إحدى الدول المشتركة فى المنظمة العالمية للأرصاد الجوية بجنيف، ضمن 195 دولة، وعلى رأس كل ساعة كل دول العالم تكشف عن المعلومات التى لديها، من خلال رصد المحطات الأرضية، ففى مصر 120 محطة أرضية، منتشرة على مستوى الجمهورية، ترصد كل ساعة درجات الحرارة واتجاه الرياح وسرعة الرياح وقيمة الضغط الجوى، والعواصف الرملية والترابية». تقترب الساعة من الواحدة ظهراً ينهض «محمود» وبرفقته آخر، يقترب من ذلك الجهاز الذى يشبه فى واجهته الساعة الرقمية من صفر إلى 360، ويقول: «ذلك هو الترمومتر، الخاص بدرجة الحرارة».، وإلى جواره خريطة الرياح، وهو جهاز أسطوانى الشكل، وبه وريقات ملتفة حول تلك الأسطوانة، وعليه رسم بيانى، يشبه إلى حد كبير رسوم جهاز رسم القلب، ويسجل التغير فى اتجاه الرياح وسرعتها كل 24 ساعة، ويعلوه جهاز آخر مرتب يحتوى أيضاً على عدد من العقارب يسمى «الباروميتر» وهو الخاص بحساب الضغط الجوى، وعن الرؤية فيقوم بقياسها أحد الراصدين برؤية العين المجردة، عن طريق ما يسمى «الشخاص»، وهو إحدى البنايات أو الأماكن التى حين تتوقف عندها الرؤية يقيسها الراصد ويحدد مدى الرؤية ويسجلها بإحدى الأوراق بين يديه ليعود ويسلمها ل«محمود» داخل المعمل. يقترب «محمود» من النافذة رويداً رويداً، يشير إلى جهاز ذى عصى طويلة، ومعلق فى أطرافه كوّر تتحرك بشكل عشوائى: «دى دوارة الرياح، والكوّر خاصة بسرعة الرياح والسهم يشير إلى اتجاه الرياح، وهو أحد عناصر حظيرة الرصد، فضلاً عن رصد درجة الحرارة وتسجيل الحرارة الخاصة بالترمومتر المبلل حتى يستطيع حساب نسبة الرطوبة، وهى نموذج لكل المحطات الأرضية المنشرة على مستوى الجمهورية»، والحظيرة لا تحتوى على ذلك الجهاز فقط فإلى جواره عدد من الترمومترات وجهاز يسجل تلك البيانات. كل ساعة، يخرج «محمود» وزملاؤه بأرقام للرياح من تلك المحطة السطحية وباقى المحطات المنتشرة على مستوى الجمهورية، علاوة على المحطات العلوية، والتى تستخدم بالونات تحتوى على جهاز «راديو سوند»، يصعد مع البالونة إلى ارتفاع كيلو ونصف، يرصد درجة الحرارة، وحتى تنفجر «البالونة» ويسقط الجهاز ويرصد درجات الحرارة، كل ساعة ويقوم الراصد بإرسال تلك البيانات لمعمل التحاليل، وتحتوى البلاد على ست محطات علوية فقط، ويتم تجميع تلك البيانات وإرسالها من خلال قسم «اللاسلكى» إلى بنك البيانات فى ألمانيا وتتم معالجتها، وإعادة إرسالها ليستقبلها المعمل من جديد من خلال الإخصائيين الجويين. يجلس الإخصائيون الجويون على مبعدة من الراصدين، وحولهم الخرائط والأجهزة، التى تستقبل عمل الراصدين، بعد مروره على بنك البيانات فى ألمانيا، وعاد إليهم مرة أخرى من خلال تلك الأجهزة التى تحيط بهم، وتلك الخرائط موزعة عليها درجات الحرارة، ودرجات حرارة الترمومتر المبلل لحساب نسبة الرطوبة، واتجاه وسرعة الرياح، وعلى الطاولة الهرمية الشكل، منكبة «منى ناصر»، تقوم بوضع علامات وأرقام على الخريطة التى ترصد توزيع الضغوط على مستوى سطح الأرض: «بحاول عمل توزيع يدوى لأماكن الضغط، وبعد التوزيع نقوم بعمل خط يفصل بين أماكن الضغط المرتفع وأماكن الضغط المنخفض، لتمييز الظواهر المصاحبة لكل نوع من أنواع الضغط». تشير يدا «منى» على الخريطة إلى مصر ومحافظاتها المختلفة، وتؤكد أن توزيع أماكن الضغط يحدد «اتجاه الرياح وتوزيع درجات الحرارة، والظواهر التى تتأثر بها كل منطقة من المناطق حسب درجة الضغط»، وإلى جوارها جهاز يطلق عليه «رو» وما يقوم به من دور فى تحليل البيانات الواردة له، لا يغنى المعمل عن التحليل اليدوى الذى تقوم به «ناصر» بالطريقة اليدوية التقليدية، وتقف على مدى صحة ما يصدر عن ذلك الجهاز من بيانات: «النظام ده مبنى على معدلات رياضية ويتم تحديثه وتطويره بشكل مستمر، ولكن فى الآخر ده جهاز يمكن أن يصدر بيانات خاطئة، فالأساس الإلكترونى، ولكن فى النهاية نقوم بمراجعتها بالعمل اليدوى». لا تقتصر وظيفة «منى» على رصد الضغط الجوى، ولكن تقوم بعمل النشرة الجوية كل أربعة أيام، كل ذلك لا يشفع لها، فيقع على عاتقها فى الأوقات الصعبة هم الضغط العصبى والذهنى، وبخاصة فى الأجواء القاسية التى تتعرض لها البلاد بين حين وآخر، حيث تشارك فى ورديات عمل «مركبة» تستمر 12 ساعة، ورغم أن عملها قائم على التوقع للأيام المقبلة وليست اللحظات الحالية، ولكن أى توتر فى حالة الجو والطقس يعرضها لضغط شديد فى العمل، لما لديهم من مسئولية تجاه حياة المواطنين والسياحة والطيران وغيرها. وبالقرب من أحد أجهزة الحاسب الآلى، تجلس أميرة، ونظرها شاخص صوب شاشة الحاسب، وتقول: «الجهاز ده اسمه مسير فيجين يحتوى على عدد من النماذج العددية، وكل نموذج مختص بالتدقيق فى صحة شىء معين مما خرج عن الراصدين الجويين»، وطبيعة مهمة «أميرة» وزملائها من الإخصائيين الجويين هى دراسة والتأكد من الظواهر التى تحيط بسطح الأرض من الرياح ودرجات الحرارة العظمى والصغرى. وتقول «أميرة»: «شغلنا فى الأساس سلامة الطيران، مش رصد حالة الجو للمواطنين، وإلى جانب ذلك الملاحة البحرية»، كما يشخص نظر أميرة إلى كل المخرجات التى تخص «شرم الشيخ والمناطق السياحية» لما لها من أهمية قصوى وتأثير على نشاط السياحة فى مصر. سيناء وسلاسل جبال البحر الأحمر، تقع فى بؤرة اهتمام «أميرة» وزملائها فى المعمل فى منطقة الخريف، لتعرضها للسيول: «أى شوية رطوبة على سطح الأرض تصاحبها حالة من عدم الاستقرار تسبب سيول، تهطل الأمطار بكثافة مما يتسبب فى سيول غاية فى الغزارة»، تلك الظروف هى التى تحكم عمل الإخصائى الجوى، حسب «أميرة»، والتى تؤكد أن الأوضاع السياسية لا تشغلها، ولكن الظواهر الجوية هى ما تحكم عملها فى المقام الأول، والأوضاع غير المستقرة جويا هى ما تلفت الانتباه والاهتمام أولا وأخيراً.