من المؤكد أن ما سبق تأكيده يستلزم الانتقال من الفكر الدينى القائم على الاتباع والاجترار (وهو مصطلح أستاذنا الدكتور محمود زقزوق) إلى فكر الاجتهاد والاتباع. وهذا يعنى استئناف المناهج العقلانية وغير التقليدية، وعلى رأسها الاعتزالية والإضافة إليها بما يجعل من الاجتهادات الإسلامية المعاصرة موازية لحركة التقدم الإنسانى كله، فنحن لم نعد نعيش فى جزيرة صغيرة معزولة عن العالم، وإنما أصبحنا نعيش فى قرية كونية صغيرة تغيرت فيها مفاهيم الزمان والمسافة إلى أبعد حد. وحتى بعض المفاهيم والموروثات، كمفاهيم الاسترقاق والتمييز الجنسى والعرقى، قد فرض عليه إيقاع التغير الذى كان لابد أن يتأثر به العالم الإسلامى فى الإيقاع المتسارع لمتغيرات عالمنا المعاصر. ومن المؤكد أن التطور التكنولوچى الهائل قد وضع عددا من المفاهيم الدينية القديمة موضع الشك، فلا يمكن لعاقل أن يتحدث الآن عن مفهوم الخلوة بين الرجل والمرأة فى الحدود التراثية التى كانت تعتمد على الحديث: ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما؛ فزمن التكنولوچيا العجيبة الذى نعيشه قد فرض إمكانات جديدة لهذه الخلوة بين رجل وامرأة تفصل بينهما آلاف الأميال عن طريق النت الموضوع عليه جهاز صغير يتيح لكلا طرفيه أن يتحدثا حديثًا لا يسمعه ولا يراه أحد سواهما. ومفاهيم العبودية لم يعد أحد يفكر فيها، فضلا عن تحريم ولاية النساء أو حتى توليهن الرئاسة، ولو على سبيل استدعاء ماضٍ سحيق، فقد مضى زمن العبودية منذ قرون، وحتى ما ترسب منه من مفاهيم تميز بعض الناس عن بعض، وتزدرى المرأة بوصفها عورة، انتهى تماما مع شيوع مفاهيم المواطنة والحرية والمساواة فى العالم الحديث والمعاصر، إلى درجة أصبح من المستحيل معها أن يقبل العقل الإنسانى المعاصر التمييز بين مواطن ومواطن، ورجل وامرأة، وأبيض وأسود. وما كتبه الأستاذ خالد محمد خالد فى كتابه (مواطنون لا رعايا)، وما كان يعنيه بكلمة "المواطنين" أصبح الآن يفهم بطريقة جد معاصرة، وأصبح الذهن الحديث والمعاصر منصرفا بكليته إلى مطاردة التمييز أو بقاياه بين المواطنين، وحين يسجن أحد الآن باسم تهمة "ازدراء الأديان" فإن العالم المتمدين كله يضحك علينا لأنه لم يعد يعرف تهمة باسم "ازدراء الأديان" التى لا تقرها حتى نصوص الدين الإسلامى نفسه فى فهمها المستنير. ولا أعنى بذلك التنكر لتقاليد أصيلة تحترم حقوق الإنسان، ورثناها عن تراثنا، وأسهم فى تأصيلها أزهريون مستنيرون أمثال عبد المتعال الصعيدى ومحمود شلتوت ومحمود زقزوق وغيرهم. وإنما أريد أن أؤكد أن الإنسانية وتقدمها قد فرض على الكوكب الأرضى كله تغييرا جذريا فى مفاهيمه ومعتقداته حتى ما له طابع دينى، فالأديان لم تعد نصوصها مقدسة كل التقديس، بعيدة عن الإنسان وقضاياه من أجل الحرية والعدالة والمساواة، وإنما أصبحت هذه الأديان قابلة للتأويل، مرة تحت مسمى لاهوت التحرير فى كنائس أمريكا اللاتينية الثائرة على الظلم والاستبداد والفساد، ومرة باسم التحديث كما حدث فى حركات الاجتهاد الدينى المعاصرة الموجودة فى أماكن متعددة من العالم الإسلامى وكتبها متاحة للقراء، ومنها محاولة وضع لاهوت إسلامى جديد، والتى كتب عنه الصديق صلاح سالم فى جريدة الأهرام يوم الثلاثاء الموافق 28/6/2016. ولم يعد أحد يتقبل فى العالمين الإسلامى والمسيحى، كذلك، فكرة أن يستعبد أحد أحدا باسم نصوص دينية، ويمكن أن يكون المثال على ذلك التحالف العالمى الآن فى مواجهة داعش التى تريد أن تعيد الإسلام إلى الوراء، باعثة أخلاق العبودية والاسترقاق والقضاء على كرامة الإنسان وحرية إرادته فى اختيار ما يؤمن به. ومن المؤكد أن بقاء الفكر الاتباعى هو المسؤول عن تلك المسافة البعيدة التى تفصل بين مستنيرى الإسلام والمسلمين، وبين الجماعات السلفية ومعها الدول السلفية التى لا تزال تؤمن بمذهب ابن تيمية وما يشبهه من فقهاء الحنابلة المتأخرين الذين جاءوا ما بين القرنين السابع والتاسع للهجرة، حيث قرون التخلف والهزائم. والحق أن الثورة الدينية التى أحدثها الإمام محمد عبده فى الأزهر كانت فى جوهرها ثورة على السلفية والأصولية والجمود العقائدى الذى سيطر على العقول المسلمة طوال عصور الإظلام، ولذلك كانت ثورة الفكر الدينى عند الإمام محمد عبده تقوم على خمسة أصول: أولها وأكثرها أهمية هو النظر العقلى لتحصيل الإيمان. وثانيها، تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض. وثالثها، البعد عن التكفير. ورابعها، الاعتبار بسنن الله فى الخلق. وخامسها، قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها. هذه الأصول الخمسة كانت تستحدث اتجاها جديدا فى فهم الإسلام وفى تحديث خطابه الدينى على السواء. ولكن للأسف لم تستمر نتائج هذه الثورة الدينية طويلا، فقد حدث النكوص عليها والتخلى عن أصولها نتيجة أسباب عديدة؛ أهمها الاستبداد المقرون بفساد الحكم، ومن ثم كان لابد لأحفاد محمد عبده أن يستعيدوا ثورته، وأن يمضوا بها إلى الأمام مستفيدين من منجزات علوم الدين المعاصرة؛ سواء فى مجالات الهرمنيوطيقا Hermeneutics ونظريات الخطاب الحديثة Modern theories of discourse التى أخذ بعضها يتقدم بمفاهيم محمد عبده ومعها بعض مفاهيم ابن رشد؛ ليؤكدوا إمكان إقامة دولة مدنية ديموقراطية حديثة لا تتخلى عن دينها الإسلامى، وإنما تكرمه وتضعه فى الإطار الذى يليق به بوصفه دين العقل الذى جعل العقاد مثلا يجعل من عنوان أحد كتبه "التفكير فريضة إسلامية". وكان يعنى بذلك دين العقل والحضارة الذى يحافظ على الحضارات السابقة ويبقى عليها ويحميها من الدمار. ولذلك لم يفكر أحد من المسلمين الذين فتحوا مصر فى هدم آثارها الفرعونية أو حتى المسيحية أو اليهودية بحجة أنها لكفار معادين للإسلام، فالإسلام جاء مصدقا للديانات التى كانت قبله من ناحية، ولحضارات الإنسان التى تؤكد عظمته وبحثه عن الحقيقة فى كل صورة من صورها من ناحية أخرى. ولم يكن التاريخ المصرى بعيدا عن ذلك فهو التاريخ الذى سبق إلى ابتداع عبادة التوحيد وجعلها عبادة رسمية فى زمن إخناتون. وبالطبع فإن هذا كله يعنى أن جذور الفكر الدينى ممتدة عبر التاريخ المصرى إلى أبعد حد، وأن مصر احتضنت الأديان التى جاءتها ولم ترفضها ما ظلت قائمة على مبادئ التوحيد والعدل والمساواة بين الناس. ولذلك كان من الطبيعى أن تميل العقلية المصرية إلى التجديد، وأن تفرض على الإمام الشافعى أن يراجع ويغير ثلاثين مسألة من فقهه، وأن يتزايد اتجاه التجديد منذ عصر الإمام حسن العطار (1766- 1835) شيخ الجامع الأزهر فى عصر محمد علىّ، وأن يواكب تلميذه رفاعة الطهطاوى (1801-1873) ويوازى بأفكاره أفكار تأسيس الدولة الحديثة على يدى محمد علىّ. ويكون هذا التأسيس قائما على استيعاب فكرة الدستور الحديث التى جعلت رفاعة يترجم بعض نصوص الدستور فى فرنسا إلى أن يصل الأمر إلى محمد عبده الذى كانت أفكاره موازية لثورة التحديث التى ازدهرت فى عصر إسماعيل، متصلة بإنشاء أول دستور مصرى حديث، إلى أن جاءت ثورة 1919 ومهدت الطريق لفكر دينى جذرى فى استنارته فى أفكار الشيخ عبد المتعال الصعيدى والشيخ محمود شلتوت، وكان الفكر الدينى لكليهما متابعة وإضافة إلى فكر الإمام محمد عبده. وعندما افتتحت الجامعة المصرية فى ديسمبر 1908 كانت الانتقالة الصاعدة باجتهادات من سبق أن ذكرتهم، لتصبح اجتهادات جذرية فى فكر طه حسين الذى أسس بمبدأ الشك اتجاها جديدا فى فهم التاريخ والخطاب الأدبى والدينى على السواء، وأعاد النظر فى الفصل بين التعليم الدينى والتعليم المدنى، وهو الفصل الذى لا يزال مؤسسا لازدواجية ضارة قائمة إلى الآن. وكان ذلك حين نادى فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» بتوحيد التعليم المدنى والدينى، وجعل التعليم مدنيا كله، وما ذلك على العقل بمستحيل، ولا حتى بمخالف للأديان، فإن جامعة هارڤارد على سبيل المثال بدأت بوصفها جامعة دينية أسسها قس إنجليزى بروتستانتى هو چون هارڤارد سنة 1636 لنشر المذهب البروتستانتى وتخريج متخصصين ورجال دين يتبعون المذهب البروتستانتى، لكن تطور الحياة المدنية وأفكار الدولة المدنية الحديثة سرعان ما أحال الجامعة الدينية إلى جامعة مدنية. ولم يعن هذا إلغاء أقسام التعليم الدينى، وإنما أصبحت مجتمعة فى كلية واحدة من كليات جامعة هارڤارد لا تزال موجودة إلى اليوم، ولا تكف عن التقدم هى كلية اللاهوت أو أصول الدين المسيحى "Divinity School "، وهى كلية تدرس علوم اللاهوت إلى جانب بعض العلوم المدنية التى لا يمكن لرجل الدين أن يجهلها. ورأيى أن ذلك كان حلا موفقا بالقياس إلى الحل الهجين الذى لجأ إليه جمال عبد الناصر، بناء على مشورة البعض بإنشاء مجموعة من الكليات المدنية للطب والهندسة والعلوم وما أشبه، إلى جانب بقية الكليات الدينية، مثل الشريعة التى أصبحت بعد هذا التهجين باسم الشريعة والقانون، فضلا عن الكليات الدينية البحتة مثل أصول الدين وغيرها فى مقابل كليات الطب والتجارة والهندسة، ولا تزال هذه الازدواجية قائمة وضارة فى الوقت نفسه، لأن الطلاب الذين يتقدمون إلى الجامعات المدنية لتقبلهم هم أعلى مجموعا من طلاب الكليات الدينية التى ترضى بأقل المجاميع، وهو أمر ينبغى التفكير الجاد فيه إذا أردنا إصلاح الأزهر بوصفه بنية مؤسسية للتعليم وبنية علمية للدعوة فى الوقت نفسه. وأفضل من هذه الثنائية أن تعود كليات الأزهر إلى ما كانت عليه، فتصبح مؤسسة علمية لتخريج الدعاة ودارسى علوم الدين، مع إدخال علوم فهم الدين وتأويله أو فلسفته، فذلك أفضل- على الأقل كمرحلة انتقالية- من هذا الكيان الذى يشبه المجاورة بين الفرچيدير والزير. (وللحديث بقية) لمزيد من مقالات جابر عصفور