بحجم عمق وعظمة تجربة الدولة تكون درجة النضج فى الوعى الذى يقود التغيير نحو الأفضل بخبرة وبتلقائية، وفى حالة شعب المصريين قديم التجربة والمتمرس فى دحر الغزاة تكون هبته دوما لتصحيح المسار، ودرسا لكل الإنسانية الباحثة عن إجابات تلهم صناع التاريخ بعمل فى حجم ثورة «الثلاثين مليون» فى «الثلاثين من يونيو» التى أوقفت عملية اختطاف هوية مصر، وكشفت حجم هذا التنظيم الإرهابى الذى حاول بالزيف أن يجر ثورة الأمل التى تفجرت فى الخامس والعشرين من يناير 2011 إلى مربع الظلمات.. وفى هذه الرؤية الدرامية يقدم الكاتب والباحث على عبد الباقى المتخصص فى ثبر أغوار «روح مصر» عبر التاريخ عملا دراميا بأبطاله الحقيقيين، يرتب فيه الأحداث منذ الثلاثين من يونيو وما بعدها وحتى اليوم .. لعل هذه الرؤية تكشف الغمة وتزيل الإلتباس. «المحرر« جاءتْ توقظني للسحور. جلستْ عند رأسي فوق الوسادة: مرّ المسحراتي وظل يناديك باسمك دون جدوى، هزّتْ رأسي برفق: اصحىَ، فوق بقى، قلت لها ولم أزل مغمض العينين: غداً الذكرى الثالثة للثلاثين من يونيو، أتذكرين يوم سألتك في مثل هذه الليلة من ثلاث سنوات: هل سنرى غداً؟ نعم أذكر، وساعتها قلت لكَ: أو أن غداً هو الذى سيرانا.. فأيهما سنختار؟ كنا ننتظر الكلمة «الفعل». كنا نتّحرّق إليها شوقا بعد هذا الذى زعق به فوزي الضايع سمسار الأراضي فى ربوع قريتنا متوعداً كلا من العمدة وإمام القرية على السواء: أتريدان أن تلعبا البختَ فى عينى؟ والله لألعبن أنا البخت فى عيني كل من أراد قطع جُمّار نخيلي. قمنا بالثورة لأننا كنا قد تحرّقنا شوقاً إلى (الكلمة الفعل) بعدما شبعنا من طحين الكلام. وضعتْ سيجارة في فمي، ثم اقتربتْ يدها بعود ثقاب مشتعل. لم تجد غير هذا الحل كي تستنهضني للسحور! هزّتْ رأسي ثانية: أتذكر أنتَ يوم قلتُ لك: اسمعني. يجب أن نمسك هذه اللحظة التى نعيشها. هى صحيح لحظة هُلامية كالجيلي، إلا أننا يجب أن نقبض عليها، ونضعها على راحة أيدينا، ونفردها بإصبعنا نحو الخارج فى جميع الاتجاهات لنعرف مكنونها، ونرى كيف تتبدى صورتنا فيها، وإلى أين هى ستأخذنا. جلسا، وغيرهما كثير جلسوا، منذ منتصف الليل أمام شاشات الفضائيات يتابعان الفرز النهائي لانتخابات الرئاسة. انقسمت شاشة تلك المحطة ذات الجماهيرية الواسعة إلى قسمين رأسيين، وفى لقطة عامة، توالت النقاط مصحوبة بالتعليقات والتحليلات لما يحرزه هذا المرشح أو ذاك فى هذه المحافظة أو تلك. التفتَ حسام إلى مسألش مبهورا: أيا كان الفائز، فيكفينا أننا صرنا مثل الديمقراطيات العتيدة، لا نعرف حتى الساعة من الذى سيفوز. فى أحد المكاتب، كان محفوظ يهلل وسط لفيف من إخوانه وقد رأى على الشاشة غالبية أصوات تلك المحافظة قد ذهبت لمصلحة مرشحه الذى يؤيده. استبشر خيراً فقفز فى الهواء وهو ينزع سيفاً رفيعاً ذا حدين من جرابه الذى كان على هيئة عصا، صاح: هى لنا، وإن لم تكن لنا فسنأخذها بهذا، وشهر سيفه فى الهواء، وقام إليه أكثر من واحد لمعانقته. كان قد تلاحظ لهما أن الحركة دؤوبة، وثمة علامات من غبطة وحبور فى ذلك القسم من الشاشة، تشي بأن الكفة تميل لمصلحة الجنرال المنافس. صاحتْ مسألش فى فرح: سيفوز. لكن فى آخر الليل، سكنتْ فجأة الحركة فى هذا القسم، وتهدلت أجنحة العاملين فيه لغير سبب واضح! قُبيل الفجر، بادر الإخوان بإعلان النتيجة لمصلحة مرشحهم برغم أن نتائج بعض المحافظات لم تصل بعد. قالوا فى تبرير ذلك: لقد تحقق لنا الفوز، حتى لو فاز المنافس بكل أصوات المحافظات المتبقية. لم يصبروا حتى تعلن لجنة الإنتخابات العليا النتيجة بنفسها؟ صرخ البعض: لقد سُرقت الثورة. وكان ثمة غموض فى ذمة التاريخ ولسوف تكشفه الأيام. وحينما سأل حسام: ولم لا تكون أصوات عاصرى الليمون هى التى حسمت المسألة؟ انفجر زميل الميدان: كل هذا ما كان ليكن إلا لأن أصحاب الثورة الحقيقيين قد تنافسوا فيما بينهم على كرسى الرئاسة. غلبتهم أنانيتهم، ولم يتوحدوا خلف مرشح واحد منهم. هتف حسام ضاحكا وهو يتابع هذه الإحتفالية بالرئيس: سيظل هذا الرئيس محتفظا بلقب «الرئيس الإستبن» فقالت مسألش: حقيقة لا أعرف ما سوف يكون عليه الوضع بالنسبة لجماعة أتتْ تحكم باسم الدين فى مجتمع، هو متدين بطبعه من قبل نزول الأديان! فقال لها: بل لكِ أن تسألي كيف سيكون حكم أرباب السجون؟ كيف سيكون حكم «أولاد العتمة» فينا؟ قالت بعد فترة صمت ملؤها الأسى: ما أشبه هذه الثورة بقطار البريد الذي سطا عليه المتربصون به فى أحد أفلام الكاوبوى الأمريكية. انتبهت، فأسرعت من فورها إلى المطبخ وهى تصيح: الشاى. ومن مكانها فى المطبخ، زعقت: لقد تبّخر الماء يا حسام.. تبخر! كان الغليان قد ازداد فى الشارع ضد حكم الإخوان، فبات الناس وأصبحوا يتحدثون عن ممارساتهم السياسية، وميلهم إلى الإنفراد بالحكم، وإقصاء ذوى الاتجاهات الأخرى، واتخاذهم طريقا لا يبشر بأى خير، ثم الظهور بمظهر ممتلكي الحقيقة دون غيرهم. وبعدما استحوذ الإخوان على البرلمان، أخذ الجموح الرئيس إلى أبعد مدى، حين ضّمن فى الإعلان الدستورى ما يحصّن قراراته، فنص صراحةً على أن قرارات الرئيس نافذة، وقائمة بذاتها، لايجوز الطعن عليها! وضرب الناس فى البلاد كفا بكف: فلم نشبت ثورة يناير إذن، إلا لمناهضة الاستبداد؟ ثم كيف يكون هذا بعد ثورة خلعت طاغية لم يكن يتمسّح فى الإسلام؟ هل جرت دماء الثوار كى تستبدل مستبدا كان على رأس نظام علمانى بمستبد آخر على رأس دولة يريدونها دينية؟ واستعاد الناس باستمرار ما سبّ به مصر مرشد سابق للإخوان قائلا: «طُظ فى مصر وفى شعب مصر». راحت القنوات الفضائية تتندر بمسلك الرئيس السياسى، فقد أرسل رسالة لرئيس إسرائيل يهنئه فيها بعيد (بلده) القومى، متمنيا دوام الرخاء لإسرائيل، مستهينا بذلك بمشاعر المصريين. وعلّق أحدهم فى المقهى: أرأيت، وهم الذين كانوا يقودون المظاهرت أيام مبارك بهتاف «خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سوف يعود»! ثم قل لى، لماذا سكتوا عن شعارهم «الإسلام هو الحل»؟ وعاد من إثيوبيا، فسئُل عما انتهت إليه مباحثاته هناك بشأن سد النهضة الذى يهدد أمن مصر المائي، فإذا به يجيب: سنتجه إلى الله بصلاة استسقاء! ثم تراجع عن صلاته كى يعقد اجتماعا، دعا إليه بعض السياسيين والمفكرين لبحث المسألة! وجدت أمل نفسها تطلب عادل اسكندر عبر هاتفها المحمول: انتَ فاتح التلفاز؟ أترى ما أرى؟ أتسمع الذى أسمعه؟ كيف يُذاع مثل هذا الإجتماع على الهواء، وفيهم من اقترح تدمير السد الأثيوبى بسلاح الجو المصرى؟ وتساءل الناس عن الأسباب التى حدتْ بالرئيس إلى أن يغضّ الطرف عن سعي الفلسطينيين المحموم إلى شراء أراض مصرية على الحدود بين مصر وغزة الفلسطينية، حيث أعطى المصداقية بذلك لما تردد على ألسنة الناس من أنه وقّع اتفاقا يسمح لقطاع غزة بالإمتداد على مساحة 1560 كيلو مترا فى سيناء! ولم تتوقف عمليات شراء الفلسطينيين لأرض سيناء الحدودية إلا بقرار من قيادة وزارة الدفاع المصرى وقتذاك. فسرّ بعض جنرالات المقاهي ذلك القرار بأنه ردة فعل المؤسسة العسكرية على إغماض الرئيس لعينيه عن عمليات الشراء تلك رغم علمه بأنها تتم من قِبل فلسطينيين استخرجوا لأنفسهم هويات مصرية مزورة عن طريق ماكينة الهويات التى سرقوها من إحدى مدن القناة إلى غزة! يبدو أن ثلاثتهم، وجدوها فرصة للتلاقى بأتيليه القاهرة قُبيل مظاهرات الجمعة. دار كلامهم حول ما قاله الرئيس. قالت أمل: لقد قال عبارة غريبة، ولا أعرف منذ سمعتها، كيف سيفسرها علم تحليل المضمون الذى يهتم بتحليل كل ما يصدر عن الرؤساء والزعماء، للتنبؤ بما يمكن أن يقدموا عليه مستقبلا. ردت مسألش: ربما كان الموقف الضاغط، وأى عوامل أخرى أجبرته على أن يقول عبارته تلك، وبهذه الكيفية. ضحكت جميلة قائلة: هو له قاموسه الذى يغترف منه مثل هذه المفردات الغريبة، ويصوغها هكذا بشكل عجيب، فقالت أمل: اسمعوا من فضلكم.. إننا عند كتابة الحوار فى سيناريو سينمائي مثلا، نتوخى الحذر تجاه: «مَنْ يقول ماذا إلى مَنْ وكيف.» فمَنْ، هى القائل. وماذا، هو موضوع الكلام وفحواه. أما مَنْ الثانية، فهى المقول له، أو المنقول له نص الكلام. وكيف، فيقصد بها وسيلة نقل الكلام. فكان أن زادت مسألش بما فى جعبتها: كان لدى المُنّظِر الأمريكى «لازويل» نظرة برجماتية عن الاتصال الجماهيرى، حيث يرى أن صاحب السلطة غالبا ما يقرر ما يراه نيابة عن الجماهير، وله تعريف شهير عن الاتصال يُطلق عليه W5)) :Who says What to Who in Which channel with What effect فالأولى هى: مَنْ يقول؟ الثانية هى: ماذا؟ الثالثة: لمن؟ الرابعة: وبأى (وسيلة)؟ الخامسة: وبأى تأثير؟. عبر هاتف جميلة دعاهن رشدى لشرب النسكافيه فى مقر التجمع المقابل للأتيليه. هناك ضحك أحدهم مستخفا وهو يقول: إن المسألة كلها لم تكن لتستحق كل هذا العناء، فذاك الرجل لم يكن ليصلح إلا بقالا يبيع العسل الأسود والجُبن البراميلى! فى حين وقف شبح لشاب يساري بكاكولته وعمامته على ضوء شمعة هناك، وقف يقسم بالله ثلاثا أن ذلك الرئيس بات فى ضيق مما يفعله الإخوان، وأنه قد يكون الآن فى طريقه لأن يخلع نفسه منهم، إلا أنه لا يعرف كيف. فردّ آخر من الجهة المقابلة: خرج منهم من قال إن نجاحه فى الانتخابات كلفهم 600 مليون دولار، فكيف سيسمحون له بأن ينسلخ منهم؟ ثم أدار الحديث وجهة أخرى: المهم أنهم متاجرون بالدين. كاذبون. كذبوا يوم قالوا لن ننزل إلى الميدان، وبعدما اتضح لهم أن الثورة فى طريقها للنصر، نزلوا. وكذبوا يوم قالوا إنهم لن يخوضوا انتخابات البرلمان، فاستحوذوا على أغلبيته، ثم كذبوا يوم قالوا ألا مطمع لهم فى منصب الرئاسة، فإذا بهم يخوضونها بمرشحين، لا بمرشح واحد. فرد عليه صوت نسائى: هذه شطارة منهم، وخيبة منا نحن، فلا لوم عليهم. فصرخ: أوافقك، فماذا عن تبدل طبائعهم بعد أن دان لهم الحكم؟ ماذا وقد صاروا كأنهم هم وحدهم الذين يمتلكون الحقيقة المطلقة؟ لكن العبارة نفسها التى قالها الرئيس، كانت قد أضحكت أُناسا آخرين فى جهة مختلفة بشكلٍ مختلف. خاصة بعدما رصدوا ما يُريب بالقصر، فأرسلوا من يهمس فى أُذن الرئيس: لقد كثرت المظاهرات حول قصر الاتحادية، وبتنا نخشى على أمن سيادتكم، لهذا نرى من الضرورى تركيب زجاج ذى نوعية خاصة بنوافذ القصر. كان الزجاج من ألياف كهرومغناطيسية تكفلت بنقل ما يدور فى القصر صوتا وصورة، فكانوا على بينة، منذ المبتدأ، بمن هو الحاكم الفعلى لهذا البلد، وهل القرار الرئاسى يصدر من الاتحادية أم أنه يصدرمن جبل المقطم؟ وعرفوا سر السكوت عن سرقة مطبعة البطاقات الشخصية من سجل مدني إحدى محافظات القناة إلى غزة. وعرفوا سر السكوت عن مقتل الستة عشر جنديا عند الأفطار فى رمضان. وعرفوا سر صراخه بوجوب الحفاظ على حياة كل من المخطوفين من الجنود المصريين وخاطفيهم سواء بسواء، وكان هو الذى أفرج عن كل المسجونين فى قضايا سياسية بمن فيهم قتلة الرئيس السادات، وقد ذهب بعيدا يوم أجلسهم بجواره فى منصة أستاد ناصر وهو يحتفل بذكرى نصر حرب أكتوبر. ذات مرة سأل رشدى جميلة وهو يتأمل صورة فى الجريدة قد جمعت القائد العسكرى بالرئيس: ما سر هذه الحقيبة الجلدية التى يحملها الفريق معه وقد وضعها بجوار مقعده على الأرض؟ خلال كل ذلك، انضم رشدى وجميلة، وعادل وأمل، وحسام إلى حركة «تمرد» فجمعوا حوالي ثلاثين مليون استمارة من الشوارع، وعبر شبكة الإنترنت، تطالب الرئيس بالرحيل فى 30 يونيو وهو موعد الذكرى الأولى لتقلده منصبه. لكن الرئيس هزأ أثناء عودته من رحلته إلى إثيوبيا قائلا: أورقة مثل هذه ستخلعني! وكان أن أصدرت محكمة مستأنف الإسماعيلية حكما مفاده أن الرئيس قد تم إخراجه من سجنه بمعاونة عناصر من حركة حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني. وفى خطوة لمنع انفراط البلد، أصدر وزير الدفاع تحذيرا للرئيس ولباقي قوى المعارضة، بمن فيهم جبهة الإنقاذ، بوجوب التحاور معا لرأب الصدع. وخلال حفل تخريج إحدى دفعات الكلية الحربية، ناشد الشعب بتكليفه وتفويضه بمنع أى أحداث عنف أو إرهاب توشك أن تندلع فى البلاد. رفض الرئيس فى عناد الموافقة على إجراء الانتخابات المبكرة قبل يوم 30 من يونيو متمسكا بالشرعية، نزل إليه رسول من الجبل يحذره ألاّ يوافق على تحديد أى موعد لإجراء أى انتخابات مبكرة، فلسوف نخسرها، فالشارع بات ضدنا.. إنها الفخ لنا، فاحذر. إياك أن توافق. ومع تكرار مطالبته بضرورة هذه الموافقة، نزل إليه الرسول ثانية: استمسك بالشرعية.. كررها فى كل كلامك، فكلمة الشرعيه لها مالها من تأثير لدى الغرب، وأخيرا أكد عليه: تجّلد.لا تخف، فأمريكا معنا. نزل أكثر من ثلاثين مليونا فى مظاهرات هادرة فى الشوارع والميادين وعلى رأسها ميدان التحرير تطالبه بالرحيل. ثم عادت الجماهير بنفس زخمها المليونى لتنزل فى 3 يوليو تأييدا لعزل الرئيس. استجاب الجيش لإرادة الشعب، فتّحقق الشعار: الشعب والجيش يد واحدة على أرض الواقع، وتم تكليف رئيس المحكمة الدستورية بتوليه الحكم بشكل مؤقت، صاح أحدهم فرِحا: رحل أولاد العتمة عنكِ يا مصر! على شط النيل، قالت جميلة لرشدى، بعدما شاهدا سيارة ملاكى قد لصق صاحبها الملتحى على زجاجها الجانبي والخلفي لافتة مكتوبا عليها «صاحب هذه السيارة ليس إخوانيا» : إنه يزيح الشُبهة عن نفسه، عمت الفرحة ربوع مصر لإزاحة الرئيس والتخلص من الإخوان بعد أن سقطت عنهم الأقنعة. قال رشدى: حسنا فعل المشير طنطاوى والمجلس العسكرى الذى مكّنهم من الحكم، بقصدٍ أو بدونه، لكى تسقط أقنعتهم على وجه السرعة، أضاف: لو أن أيا من المتنافسين قد فاز دون هذا الرئيس لظل الناس يتحسّرون على عدم صعود الإخوان للحكم، ولقالوا: لو أن الإخوان فازوا، لكانوا فعلوا كذا وكذا، ولكانوا سووا كيت وكيت.. أليس كذلك؟ لكن أين الرئيس الآن؟ أجابت: يبدو أنهم احتفظوا به فى مكانٍ أمين. لكن الإخوان يقولون إنه أُختطف! مرت عدة أيام، أفاق فيها الإخوان مما أصابهم من فقدان إتزان، لملموا شتات أنفسهم بسرعة. وبمثلما سأل رشدى عن مصير مرسى، سأل غيره: وأين المرشد؟ وتخرج بعض الصحف تتكهن بأنه قد فرّ إلى مرسى مطروح للاختباء هناك! وتجد مسألش نفسها تسأل أخيها: أترى أن قادة الإخوان قد بدأوا يتلاومون الآن؟ فرد: ولم لا؟ مثل هذا، أمرٌ وارد الآن. لكن أمل كانت تؤكد لعادل إسكندر فى أتيليه القاهرة، بعد رشفة رغاوى النسكافيه بأنه حتما قد تم القبض على كل رءووس الإخوان قبل عزل رئيسهم. بدأ الاعتصام، قُبيل شهر رمضان من قبل إزاحة مرسى، فى ميدان إشارة رابعة العدوية، ومن بعده دشنوا اعتصاما آخر فى النهضة أمام جامعة القاهرة. بدأ الاعتصام الأول بمحاولة فرد العضلات، ببناء دورات للمياه. ثم تجرأوا مع تزايد أعدادهم على افتراش الأسفلت، ثم بُنيت خياما، وجئ بنسائهم وأبنائهم، ثم بُنيت منصة أمام جامع رابعة، اعتلاها قادتهم الذين بدأوا فى الظهور تباعا، لمّا تأكد لهم عدم اتجاه النية لفض اعتصامهم بالقوة، ثم ظهر من بعدهم المرشد، يخطب فيهم، ويحثهم على العنف والمقاومة، راح يرفع بصره إلى طائرة هليكوبتر تحلق فوق المعتصمين ليخاطبها متهكما: صّورنى يا اخويا صّورْ! ثم بدأ قادة الإخوان فى التهديد والوعيد، فمنهم من هدد صراحة: سنحرق مصر. ومنهم من توعد: كل واحد إخوانى سيكون بمثابة قنبلة تنفجر هنا أو هناك إن لم يعد الرئيس إلى الحكم، ووقف واحد منهم يُرّهب ويرّغب: فى اللحظة التى سيعود فيها الرئيس إلى الحكم، فإن هذه الإنفجارات التى ترونها تستهدف جنود الجيش فى سيناء سوف تتوقف! ظل حسام يدافع عن نفسه بأن الخوف ليس هو ما يمنعه من الذهاب إلى هناك، لكن عادل إسكندر لم ير بأسا فى أن يعبّر عن خوفه صراحة: «يا عم يكتشفوا أنى مسيحي تبقى مصيبة». الذى غامر هو رشدى، ذهب وعاد يحكي: لقد امتد اعتصامهم وأغلقوا نهايات محور رابعة بمتاريس من عروق خشب على هيئة حرف (X) وأجولة رمل وبلاط خلعوه من أرصفة كل الشوارع المحيطة. وشكلوا لجانا لتفتيش الداخلين والخارجين إلى ساحة الاعتصام بمن فيهم سكان المنطقة.. إنهم يشترون للمعتصمين الذين يبلغ تعدادهم بين 150,000 و200,000 علب طعام جاهزة للإفطار وللسحور. ومن التّبة والمطرية وعين شمس، يجلبون العصائر، والعرقسوس فى براميل بلاستيكة كبيرة. السوريون والفلسطينيون يقودون المعتصمين فى رقصات الدبكة.. فلوس! لقد عرفت أن من بين المعتصمين من هرع إلى بلده ليعود بإخوته وأقاربه، وأعرف أن أهل حى مدينة نصر قد لاحظوا انعدام طَرقْ المساكين والشحاذين لأبوابهم طلبا للصدقات مثلما كانوا يفعلون فى شهر رمضان! ورأيت الصعاليك من المعتصمين لا يتورعون عن قضاء حاجاتهم، بل والاستحمام فى حدائق العمارات، والنوم فى ممراتها وفى جوانبها. مما أجبر سكان العمارات على عدم فتح نوافذهم! لكنني سمعت هناك تعليقا طريفا هو أن متظاهري رابعة، دون متظاهري التحرير يحرصون على الصلاة! تسألنى عن جهاد النكاح؟ لم أمكث أكثر من بعض يوم حتى أتيقن من حقيقة هذا. نعم، أفطرتُ معهم وصليت المغرب ثم انصرفت مع صراخ أحدهم، ذلك الذى كان يهدد بحرق مصر من فوق المنصة! سكت رشدى ثم قال فى أسى: لم نكن نرفع في اعتصامنا بالتحرير مثل شعاراتهم هذه، فلم نكن نهدد. ولم نكن نتوعد. وأقول لكم: إن السماح لهم بالاستمرار فى اعتصامهم طوال هذه المدة قد جعلهم يشعرون بحجم أكبر بكثير من حجمهم الحقيقى، فذهب بهم الشطط كل مذهب فى خطاباتهم. منهم الآن من يستشعر كأن الدولة ضعيفة حيالهم! ووجدتني أسأل وأنا بينهم: أتراهم لم يتحولوا، بل كانوا هكذا على ما هم عليه الآن من عنف؟ مَنْ يقرأ تاريخهم، منذ إمامهم الذى أنشأ جماعتهم، يعرف الإجابة. فقالت أمل وهى تسبح بنظرها إلى أعلى: لربما كان الهدف من تركهم هكذا فى غِيهم، أن تتضح صورتهم الحقيقية لكل الناس. فتنهد أحدهم قائلا: يُشاع أن الذى مدّ لهم حبل الاعتصام هو البرادعى، عملا بالحفاظ على مبادئ حقوق الإنسان! فقال عادل إسكندر متعجبا: إذن، فكيف سيكون فضّ هذا الإعتصام الذى ضاق به الناس؟ فى الأتوبيس، التابع للإخوان، المتجه بهم إلى قريتهم، تذّكر محفوظ ما كُلف به ذات يوم: أخ محفوظ، لتكن مهمتك هى هذا الأخ الليبرالى الذى جاء ليقود الثورة، نريدك أن تعد عليه أنفاسه. لن أقول لك كيف. لقد تدربتَ بما يكفى على ذلك. مفهوم يا أخ محفوظ. اذهب، اذهب والله معك. وما أن استدار خارجا، حتى ناداه: المهم، أَزِلْ لحيتك هذه. فلمّا قبض على لحيته الكثة فى هلع، حدجه بنظرة ناريه قائلا: أزلها فى سبيل الله يا أخى. سافر وراءه إلى الفيوم، عاد بعد أيام بتقرير من عدة أسطر: المُدعىَ عليه لن يكون منه أى خطر علينا. هو أقرب للمصلح الاجتماعى منه إلى القائد أو الزعيم، كل كلامه هو ذاك الذى نسمعه منه عن الديمقراطية وحرية الرأى فى وسائل الإعلام، المهم أنه حرص على الصلاة مع الناس فى جامع ناصر بالفيوم، لكن الذى لفت نظرى بشدة أنه وقف ينتظر دوره لدخول المرحاض للاستنجاء. ملحوظة: مراحيض الجامع بلدى. يعنى هذا سيقتضى من الذى كان رئيسا لهيئة الطاقة الذرية أن يجلس القرفصاء فى «كَنيف» بلدى، وأن يستخدم كلتا يديه فى الاستنجاء بالماء! وأنا أرى أن هذه مظهرية منه يريد بها التقرب إلى الناس، كأنه يرد بذلك على من تحداه عبر محطته الفضائية: يا برادعي أنت قضيتَ كل عمرك فى أوروبا ولا تعلم شيئا عن مصر .. طيب قل لنا بكم ربطة الفجل؟ طيب بلاش هذه.. هل تعرف كيف تزغط دكر بط؟ فكيف نما إلى علم الإخوان أن رئيسهم مُحتَجز لدى الحرس الجمهوري المطل على شارع صلاح سالم؟ هاجم الإخوان، بعد صلاتهم الفجر، مبانى الحرس الجمهورى بهدف تحرير رئيسهم فتصدت لهم قوات الحرس، وأفشلت اقتحامهم للمنشأة العسكرية مع سقوط قتلى وجرحى. على حين فجأة، فى ذلك الصباح الباكر، زعق ميكروفون من فوق سيارة شرطة معلنا إنهاء الاعتصام بحسب قرار النيابة، مانحا فرصة الخروج الآمن للمعتصمين. وبينما كان هناك ممر آمنا للخروج، كان هناك أيضا تبادل لإطلاق النار أوقع جرحى وقتلى من الجانبين. وفي تلك القرية، توقف العمدة عن المضغ عندما شاهد ذلك البلدوزر يقتحم الخيام ويزيح كل شىء عن طريقه. أخذ بشدقه الحُبلى بالبيضة كاملة يُعلّق للخفير مسعود على المشهد كما يراه على شاشة التلفاز: حاجة غريبة والله العظيم! لماذا هم غير راغبين فى الخروج من رابعة؟ أناس عجزوا أن يبقوا على عرش مصر إلا سنة واحدة، والآن يريدون البقاء فى الشارع دون أن يخرجوا منه! ثم أضاف: يا سلام لو أن المرشد يوم جاء إلى رابعة، قال لإخوانه: نحن لم نكن نطمع فى سلطة، ولم نكن نبغ غير الدعوة إلى طريق الله. فلنعد دعاة وحسب. آه لو أنه قال هذا، لكنتُ.. لكنتُ انضممتُ إليهم. وأُعلن عن استقالة ذلك الدكتور، فيما بدت للبعض أنها احتجاج منه على فض الإعتصام بالقوة. وكان الرد على فض اعتصامهم بالقوة، قام بعضهم بحرق بعض الكنائس فى الصعيد، نكاية فى المسيحيين لدورهم الكبير فى مؤازرة ما اسموه الإنقلاب العسكرى حسب ظنهم. ردّ وزير الدفاع فى تهكم: هل إما أن تحرقونا أو تحكمونا؟ أرجع حسام ميل الإخوان إلى العنف إلى كونهم جماعة دينية منغلقة على نفسها، فقالت: اليساريون كانوا أيضا جماعات منغلقة على ذاتها، لكنهم لم يكونوا يجنحون لعنفٍ كهذا أبدا، فقال: ربما لأن ليس لدى أعضاء هذه الجماعة إلا تنفيذ الأوامر دون مناقشة، لربما ولّدَ هذا لديهم قدرة كبيرة على تدمير الذات. هم ليسوا يحرقون ما ترينه أمامك، وإنما يدمرون أنفسهم، ولربما كان هذا ما يفسر لّذتهم وغبطتهم عند إلقاء القبض عليهم، ألا ترينهم يبتسمون لكاميرات التلفاز؟ فقالت: أهذه ماسوشية، أم أنهم يبتسمون ليُفقدوا المنتصر لذة انتصاره؟ فامتعض حسام: لا أعلم، لكنهم يتلذذون بلعب دور الضحية لأنه الدور الذى يكسبهم تعاطف الناس. وبينما يتحاوران هكذا وصورا الخراب تتوالى أمامهم على الشاشة، كان لدى الشيخ شريط آخر من الخراب، تداعى إلي ذاكرته منذ مقتل الخازندار، ثم حريق القاهرة فى أوائل عقد الخمسينات من القرن الماضي.. معالم الطريق التى كفّر بها «قطبهم» الحاكم والمجتمع على السواء، تذكّر تّشفي الشيخ كِشك فى هزيمة مصر في حرب 1967في إحدى خُطبه التى كانت تلعلع بها السماعات أمام محلات وسط البلد. فأي شيخ هذا الذى يشمت فى هزيمة بلده مصر! رفع بصره إليهما: لم تكن زلة لسان، عندما قال مرشدهم: «طُز فى مصر». بل هى عبارة كاشفة لعدم وجود الوطن كفكرة فى معتنقهم. ولو كان توفر لهم القدر اللازم من الذكاء السياسى، ولو كانوا قرأوا التاريخ جيدا، لكانت مصر عندهم أهم من الإسلام، ذلك أن مصر بمقدورها الذود عن الإسلام، فى حين أن الإسلام وحده ليس بمقدوره الدفاع عن مصر، وإلا لكان انكسر التتار قبل أن يعبروا نهر الفرات في عهد الخلافة الإسلامية ببغداد! تنهد متحسراً: لا سامح الله الإخوان فقد أضاعوا عليها فرصة التمتع بأول حكم مدني. ثم ضحك الأب قائلاً: ويتشدقون بأنه حكم العسكرّ! لكأنهم نسوا أن الرئيس السيسي قد خلع بذلته العسكرية قبل ترشحه لمنصب الرئاسة! لا يتبقى إلا أن يقولوا أن الرئيس ذو خلفية عسكرية، فما الضير في ذلك؟ أليس لدينا دستور يحكم العملية السياسية برمتها؟ وأليس هناك عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم، والمحكوم هنا قد اختار حاكمه فى عملية انتخابية شهد الجميع بنزاهتها! ندعو الله له بالتوفيق وألا يُخيبْ أمل الشعب. انشرح صدر مسألش لما سمعت من أبيها فقالت: أتعرف أني أحيانا ما يخالجني الشعور يا أبي بأن شُرفة مصر على وشك أن تُفتح من جديد، مع إشراقة كل شمس، على مشهد رائع يتسم بالعدالة والبناء. بناء مدارس، مزارع، مصانع، وأكاد أشعر بالفعل إن حلمنا، الذى كان فى ميدان التحرير، بالعدالة الإجتماعية قريب التحقق. أشرقت الشمس، وارتفعت ترمي أشعتها الذهبية على أكثر من مشروع عملاق، استهل بها السيسي عهده.. مشتْ فوق سيناء تسجل بطولات جنودنا فى محاربة الإرهاب الذي عشّشّ هناك منذ عهد الإخوان، وسرحتْ من فوق القناة التي بدأ العمل في توسيعها، بأموال الشعب الذي جمع لهذا الغرض أكثر من ستين مليار جنيه في أقل من أسبوع، كي تبحر فيها الناقلات العملاقة فى اتجاهين، وراحتْ الشمس تسجل بأشعتها الذهبية تحولْ صحراء الفرافرة التي خرج منها فلاحنا الفرعوني الفصيح إلى أرض خضراء باستصلاح مليون ونصف المليون فدان وريها من أبار ارتوازية عميقة. مشتْ الشمس إلى كبد السماء وارتفعت بارتفاعها مشكلات انقطاع الكهرباء المزمنة، وتحولتْ مع مشيتها ظلال العشوائيات إلى مساكن حديثة مفروشة تليق بآدمية الإنسان. تذّهبّ خوص النخيل بوادي النيل ودلتاه.. ذلك النخيل الذى لم تُنتزع قلوبه البيضاء.. فكان للنخل أن يتمايل طربا فى وقار، على شدو بلابل صدّاحة، تناغمَ شدوها مع نوح يمامة يأتى من بعيد في صحوة مصر الكبرى!