تخيم على لندن غيمة كبيرة من الكآبة، ليس فقط لأن الأمطار لم تتوقف تقريبا طوال يونيو، لكن لأن المدينة على أعتاب مرحلة جديدة مليئة بالغموض والمخاطر في أعقاب تصويت 51.9% من البريطانيين بالخروج من الإتحاد الأوروبي. المخاطر ليست اقتصادية فقط، بل متعلقة بهوية المدينة أيضا. فلندن لم تألف الانغلاق. وخلال ال400 عاما الماضية حافظت على مكانتها كأكبر مركز للتجارة العالمية والمعاملات البنكية، فحوالى 41% من المعاملات المالية الدولية تتم في لندن، بمتوسط تداول يومي أكثر من 2 تريليون دولار أمريكي، حيث التداول بالدولار في لندن أعلى حتى من نيويورك، والتداول باليورو أعلى من أى مدينة أوروبية أخرى. لندن هى أيضا مركز الإقراض المصرفي الدولي وكل الصناعات المالية الجديدة. خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي يهدد جديا مكانة لندن. فلو فقدت العاصمة جواز مرورها إلي السوق الأوروبية المشتركة، لن يصبح لها أهمية دولية وستجد آلاف البنوك والشركات التي أتخذت من لندن مقرا لها أن العمل من دبلن أو فرانكفورت أو باريس أفضل لأن كل هذه المراكز المالية جزء من الإتحاد الأوروبي ومن السوق الأوروبية المشتركة. بإختصار لندن أمام منعطف تاريخي. والحفاظ على مكانتها كأكبر مركز مالي وتجاري في العالم وهي خارج الإتحاد الأوروبي مسألة صعبة ومعقدة. ولا عجب أنه منذ اعلان نتائج الاستفتاء، عقدت في لندن العديد من الاجتماعات بعضها بحضور عمدة المدينة الجديد صديق خان، وبعضها بحضور مسئولين من الشركات والبنوك والمؤسسات الاستثمارية وجماعات الضغط لبحث مستقبل المدينة والتحرك لحمايتها من تداعيات الخروج من الإتحاد الأوروبي. والشعور العام في المدينة، والذي خرجت به "الأهرام" بعد حضور إجتماع لعمدة لندن و"غرفة لندن التجارية" أن لندن يجب أن "تقف على مسافة من بريطانيا"، هذه المسافة تتمحور في المزيد من الإستقلالية فيما يتعلق بالميزانية والأمن والهجرة ونظام التأشيرات والصحة والإسكان. ويقول صديق خان موضحا:" "لندن القلب النابض لبريطانيا والتي صوتت بطريقة مختلفة عن باقي انجلترا تحتاج الى المزيد من الحكم الذاتي". طبعا ليس في بريطانيا حاليا حكومة أو برلمان أو معارضة للتعامل مع مقترحات خان والدوائر المالية في المدينة، فكل مؤسسات البلد غارقة في تداعيات نتائج الاستفتاء، لكن رئيس الوزراء المستقيل ديفيد كاميرون قال في أول كلمة له أمام البرلمان بعد الإستفتاء إن لندن "ستكون حاضرة على طاولة التفاوض" بين بريطانيا والإتحاد الأوروبي لبحث العلاقات المستقبلية بين الطرفين. فأى صفقة خروج من الإتحاد الأوروبي لا تأخذ مصالح لندن ومكانتها في الإعتبار ستكون كارثية بالنسبة لبريطانيا كلها. فنحو 25% من الناتج القومي المحلي البريطاني يأتي من لندن وحدها، و30% من الضرائب على المستوى القومي تأتي من لندن. وإذا عانت بريطانيا بسبب الخروج من الإتحاد الأوروبي، فإن بريطانيا كلها ستتأثر. ولضمان أن يكون للندن وسكانها الكلمة الأولي في مستقبل المدينة، بوصفها المنطقة الوحيدة في انجلترا التي صوتت لصالح البقاء داخل الإتحاد الأوروبي، يريد خان ومعه "غرفة تجارة لندن" أن تحصل لندن على المزيد من الصلاحيات، مثل مانشيستر أو نيويورك أو باريس، فيما يتعلق بنسبة الضرائب التي تخصص لها وكيفية إنفاقها. فبحسب النظام الحالي يحق لبلدية لندن أن تقرر في كيفية إنفاق 7% فقط من الضرائب التي تحصل من لندن، لكن خان يريد أن ترتفع تلك النسبة إلى نحو 14%. ويقول كولن ستانبرديج رئيس "غرفة لندن التجارية":"لدينا سيطرة محدودة جدا ماليا فيما يتعلق بالضرائب التي تجمع من لندن. نريد المزيد من السيطرة، نريد التحكم فيما لا يقل عن 14% من الضرائب التي تحصل من لندن وذلك للاستثمار في لندن لضمان أن تظل المدينة تنافسية". كما تريد "غرفة لندن التجارية" ومكتب العمدية أن يكون للندن نظام فيزا خاص بها. فالإقتصاد اللندني يعتمد بشكل كبير على العمالة الاوروبية خاصة في الحي المالي وقطاع الفنادق والمطاعم والخدمات الصحية. بمعني أخر لا يمكن للندن ان تتحرك وتدار بدون هذه اليد العاملة. ويقول ستانبرديج:"من الحتمي لمستقبل إقتصاد لندن أن تواصل العاصمة إستقبال العمالة الأجنبية التي تساعد في أزدهار المدينة. ويطلب ستانبرديج وضع نحو نظام خاص للتأشيرات في لندن بالشراكة مع "مجلس الأعمال الإستشاري" التابع لمكتب العمدية من أجل السماح للعمالة الماهرة من دول الإتحاد الأوروبي بالبقاء في لندن والسماح للوافدين الجدد الدخول والخروج دون الحاجة إلي تأشيرات طالما لهم وظائف في لندن. وتأتي الدعوات وسط مخاوف متزايدة من أنه بدون إعطاء لندن وضع خاص فيما يتعلق بالتأشيرات فإن كل قطاعاتها المالية والخدمية والصناعية ستنكمش بشكل كبير. فنحو 11% من العاملين في المربع المالي في لندن، وعددهم نحو 360 ألف شخص، من غير البريطانيين. وهؤلاء قد يجدون أنفسهم مضطرين للمغادرة عندما تغادر بريطانيا الإتحاد الأوروبي. ويقول سام الدرسن، الخبير في "مركز أبحاث الإقتصاد والأعمال" إنه لا مناص من تداعيات سلبية على لندن، موضحا أن مستقبل لندن سيتوقف في المدى المتوسط والطويل على نتائج المفاوضات بين بريطانيا والإتحاد الأوروبي، خاصة المفاوضات حول نظام التأشيرات الذي يعطي للبنوك البريطانية العمل في كل أوروبا دون قيود أو حدود، والذي يسمح للبنوك بإستقدام موظفيها للعمل والأقامة بدون عوائق. ويضيف "بدون هذه الإستثناءات فإن مستقبل لندن كمركز مالي عالمي سوف يتضرر بشدة". من ناحيته يقول عمدة لندن إن "خسارة حقوق التأشيرة للعاملين في لندن سيكون كارثة"، موضحا أنه سيضغط على وزارة الخزانة لضمان أن مسألة حقوق التأشيرات على رأس الأولويات، إضافة إلي إستمرار وجود لندن في السوق الأوروبية المشتركة. ووسط إستمرار الغموض، هناك بالفعل شركات بدأت تفكر جديا في مغادرة لندن بسبب المخاطر المترتبة علي احتمالات مغادرة الإتحاد الأوروبي. وبحسب "معهد الإدارة" وهو معهد يضم الكثير من الشركات والمؤسسات المالية العاملة في لندن، فإن 33% من اعضائه يدرسون تخفيض الاستثمارات في بريطانيا، و25% يدرسون تغيير المقر من لندن إلي مكان اخر، و25 يدرسون تجميد التوظيف. لكن التحديات في لندن لا تقتصر على مستقبل وضعها المالي، فمنذ نتائج الإستفتاء أرتفعت الحوادث العنصرية ضد المهاجرين الأوروبيين والآسيويين في المدينة بنسبة 57%. وسجلت الشرطة حوادث لانجليز بيض يطالبون العاملين من رومانيا وبولندا وبلغاريا وفرنسا والمانيا وايطاليا واسبانيا بالمغادرة. وتقول مهاجرة من المانيا، تعيش في لندن منذ 7 سنوات هتف بعض سكان شارعها لها "عليك أن تغادري الأن"، ثم رسم آخرين على باب منزلها علامة الصليب المعقوف:"هذه نهاية لندن التي أعرفها". الصعود المفاجئ للعنصرية لا يجب أن يكون مفاجئا إذا نظرنا لنتائج التصويت في انجلترا بالذات. فأكثر من ثلثي من صوتوا للمغادرة من الإتحاد الأوروبي يعرفون هوياتهم بأنهم "انجليز" قبل ان يكونوا بريطانيين. بعبارة أخرى تظهر نتائج الإستفتاء، إنقساما حادا ليس حول الانتماء الحزبي أو الأيديولوجي، بل حول الهوية. ففيما صوت 72% من الذين عرفوا هويتهم بأنهم "انجليز" لصالح مغادرة الإتحاد الأوروبي، كانت النسبة 43% فقط بين من عرفوا هويتهم بأنهم "بريطانيين"، أما من عرفوا هويتهم بأنهم "أوروبيين" فكانت نسبة دعم مغادرة الإتحاد الأوروبي وسطهم 2%. فقط. ووفقا للبيانات مركز "يوجوف" الحكومي لاستطلاع الرأى العام، واستطلاع أجرته صحيفة "الاندبندنت" فإنه كلما ارتفع السن في انجلترا، التي صوتت كل مناطقها بإستثناء لندن لصالح المغادرة، كلما زادت نسبة تعريف الشخص لهويته بإنه "انجليزي" وليس بريطاني، وكلما زادت نسبة تأييده لمغادرة الإتحاد الأوروبي. لندن التي لطالما كانت بوتقة للمهاجرين وحرية التنقل والتجارة وحركة المال والأفكار، تواجه واحدة من أسوأ أزماتها. وهى أزمة قد تغير هويتها تدريجيا إذ لم تمنح حرية الإنفتاح على أوروبا والعالم، فهذا الإنفتاح شرط وجودها.