أصبحت الأزمات ... واحدة من مفردات العصر الحديث ... بل يذهب البعض لاعتبارها مرض العصر. فالكل يتعرض للأزمات؛ الشركات، والهيئات، والمؤسسات، بل وحتى الدول صغرى كانت أو كبرى. ولقد تعرضت مصر، مؤخراً، إلى أزمتين، إحداهما هى خطف الطائرة المصرية والهبوط بها فى قبرص، وقد أدارت مصر هذه الأزمة بجدارة، وحققت نتائج إيجابية على مختلف الأصعدة. أما الأزمة الأخرى فهى مقتل الشاب الإيطالى فى القاهرة، والتى لم تدر بطريقة علمية سليمة، لذا جاءت نتائجها السلبية مؤثرة على مصر، وأعتقد أن ذلك الأثر السلبى سيمتد لفترة طويلة. ولعل أشهر أزمات التاريخ المعاصر، والتى لفتت الأنظار، بعدها، إلى ضرورة أن تصبح إدارة الأزمات علما يدرس فى جميع المعاهد الاستراتيجية حول العالم، هى تلك الأزمة التى شهدها العالم على مدى ثلاثة عشر يوماً، فى الفترة ما بين 16-28 أكتوبر من عام 1962، عندما فوجئت الولاياتالمتحدة، خلال حملة الانتخابات الأمريكية، بأن السوفيت قد نصبوا صواريخهم فى كوبا، على بعد 90 ميلا من سواحل ولاية فلوريدا. فأطلقت الولاياتالمتحدة طائراتها ال u-2 للتجسس، وعادت لتؤكد وجود تلك الصواريخ السوفيتية، بالفعل، وهو ما يعد، قطعاً، تهديداً للأمن القومى الأمريكي. ومن هنا كانت الأزمة، التى بدأت يوم 16 أكتوبر 1962، وانتهت، رسمياً، يوم 20نوفمبر من نفس العام، وأطلق عليها اسم «أزمة الكاريبي» أو «أزمة الصواريخ الكوبية» تلك الأزمة التى أوشكت على إشعال حرب عالمية ثالثة، بل وحرب نووية، كانت ستفتك بكل الأطراف. ولقد جاءت هذه الأزمة بعد محاول الولاياتالمتحدةالأمريكية إسقاط النظام الكوبي، بقيادة فيدل كاسترو، عن طريق عدة عمليات، كان أشهرها «غزو خليج الخنازير» Bay of Pigs Invasion. بدأ، بعدها، الاتحاد السوفيتى فى بناء قواعد صواريخ نووية، قصيرة المدى، تتيح له ضرب الأراضى الأمريكية، رداً على التصرف الأمريكى بنشر صواريخ له فى كل من بريطانيا، وإيطاليا، وتركيا، لتصبح له القدرة على توجيه ضربات عسكرية لموسكو، باستخدام أكثر من مائة صاروخ، مزودة برؤوس نووية. الأمر الذى دعا الرئيس نيكيتا خروشوف إلى التحالف مع كوبا، وإرسال الصواريخ السوفيتية، لتهديد الأمن القومى الأمريكي.والواقع، أن إدارة الرئيس جون كيندى للأزمة، كانت مثار إعجاب الشعب الأمريكي، حيث انعكست رباطة جأشه على فريق إدارة الأزمة، وهو ما ساهم فى اتخاذ القرارات الحاسمة بهدوء، دون تعريض أمن وسلامة الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى مخاطر الحرب النووية. كما قام الرئيس الأمريكى بتوجيه خطاب إلى الشعب، تحدث فيه بكل صراحة ... وجرأة ... عن الأزمة، وأعلن تأهب الجيش الأمريكى للقيام بعمل عسكري، وأنه فضل عدم شن ضربات جوية أو بحرية ضد كوباً، مكتفياً بفرض الحصار. ورغم إعلان خروشوف رفضه المطالب الأمريكية علناً، إلا أن الاتصالات السرية كانت مفتوحة، بين الأطراف، للوصول إلى حلول لتلك الأزمة. ويقال إن الأمريكان انتهجوا سياسة الوصول إلى حافة الهاوية، لإجبار السوفيت على التراجع. وهو ما قد كان لهم فى ظرف أسبوعين، إذ قام الاتحاد السوفيتى بتفكيك جميع صواريخه ومعداته فى كوبا، وتم تحميلها على ثمانى سفن سوفيتية، فى الفترة من 5 إلى 9 نوفمبر 1962. وبعدها بشهر، تم إنهاء الحصار على كوبا. ولقد تسبب هذا الاتفاق فى حرج بالغ لخروشوف والاتحاد السوفيتي، حيث اعتبر الروس هذا الحل، عارا عليهم. ولقد تنحى خروشوف عن الحكم، بعد مرور عامين على تلك الأزمة (وإن كان جزئياً)، فقد اتهم خروشوف بالإسراع فى وتيرة الأزمة فى البداية، ثم ما لبث أن قدم تنازلات للولايات المتحدةالأمريكية فى النهاية. وبدراسة، وتحليل هذه الأزمة، نجد أن هذه الأزمة أديرت، من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية، بصورة مثالية، حيث تم إنشاء مركز لإدارة الأزمة فى البيت الأبيض، وتم تشكيل فريق لإدارة الأزمة، وتم اقتراح سيناريوهات وبدائل لحل الأزمة، فضلاً عن تسمية الرئيس الأمريكى لمتحدث رسمى عن طاقم إدارة الأزمة، مهمته التواصل مع الجهات الإعلامية عما يدور فى غرفة الإدارة. كما تم تشكيل مجموعة للتفاوض، قامت بالاتصال بالجانب السوفيتي، وهو ما أدى، فى النهاية، إلى الوصول إلى مخرج لهذه الأزمة، بما لا يضع الاتحاد السوفيتى فى موقف ضعيف. فقد اقترح المفاوض الأمريكى على الجانب السوفيتي، أن تسحب موسكو صواريخها من كوبا، وفى المقابل تعلن الإدارة الأمريكية أنها ستقوم بسحب صواريخها من قاعدة أنجرليك التركية، التى تهدد أمن الاتحاد السوفيتي. مع العلم بأنه لم يكن هناك أي صواريخ أمريكية فى تلك القاعدة التركية، إلا أن ذلك كان مبرراً لحفظ ماء وجه الاتحاد السوفيتى أمام الرأى العام المحلى والعالمي. وعلى المستوى الأمريكى والسوفيتي، كان أهم درس مستفاد هو ضرورة وجود الخط الساخن بين الرئيس الأمريكى والرئيس السوفيتي، ليكون صمام الأمان لأى مشكلة تقع بين القوتين الأعظم مستقبلاً. عقب هذه الأزمة، انتبهت المعاهد الاستراتيجية، وجهات الأمن القومى فى جميعبلدان العالم، لأهمية الاستفادة من تلك الأزمة، وتطوير مفهوم إدارة الأزمات، ليصبح علماً أساسياً من علوم الدفاع والأمن القومي، له أسس وقواعد وأصول يبنى عليها، فى المعاهد الاستراتيجية والكليات العسكرية حول العالم له. واليوم، فى أكاديمية ناصر العسكرية العليا فى مصر، تدرس دورات إدارة الأزمات، ودورات التفاوض. ولقد أصبح الأساس للاستعداد لحدوث أى أزمة مستقبلاً، ضرورة توافر عناصر أساسية، أهمها تشكيل طاقم لإدارة الأزمة، ووجود مقر دائم لإدارة الأزمات، مزود بأحدث وسائل تكنولوجيا العصر فى الاتصالات، والقدرة على تخزين أكبر حجم من البيانات، مع أهمية الإعداد المسبق لسيناريوهات الأزمات المحتملة مستقبلاً. فضلاً عن تشكيل طاقم للتفاوض، وفقاً لطبيعة الأزمة، مع تعيين متحدث رسمى للتواصل مع الإعلام فى كل ما يخص تلك الأزمة. مع ضرورة الاحتفاظ بالدروس المستفادة من الأزمات السابقة، والرجوع إليها دوماً لتفاديها مستقبلاً، والتحديث الدورى للبيانات الموجودة فى مركز إدارة الأزمات كل ستة أشهر على الأكثر. وأخيراً، ضرورة التواصل المستمر بين الإدارة والمواطنين، بكل شفافية، ومصداقية، خلال مراحل تطور الأزمة.وعموماً، فقد تطورت مراكز إدارة الأزمات، الآن، لتصبح على مستوى الدول، والمحافظات، والوزارات، والهيئات، وأى مؤسسة قد يرى رئيسهاأنها قد تتعرض لأي أزمات فى المستقبل. لمزيد من مقالات لواء أ. ح. د. م. سمير فرج