جاء فى قرار النائب العام بحفظ بلاغ ازدراء الأديان (يجب التفريق ما بين المناقشة العلمية المصحوبة بحسن النية، وخلافها المقترنة بالزراية والإهانة والطعن أو التحقير، ذلك أن الجدل - وإن كان محموماً - فى بعض المبادئ المقررة فى دينٍ أو مذهبٍ مُعترَفٍ به لا يُعد إهانةً لهذا الدين أو المذهب، وأن لكل شخصٍ الحق فى إبداء آرائه فى حرية تامة متى ما خلت عباراته، بمعانيها ومراميها، من ألفاظ السباب والإهانة والتجريح).. وقال سيادته (ووفقاً للدستور فإن حرية الرأى والبحث العلمى مكفولة، إذ إن لكل فرد فى المجتمع حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول والكتابة أو غيرهما، دونما حاجة إلى تحديد موضوع ذلك الرأى أو قصره على أمر دون أمر، فالرأى والتفكير والإبداع صفات العقل المستنير تقود صاحبها إلى الحق والصواب، وحتى لا تستحيل حماية الأديان والمذاهب إلى ضغطٍ أو كبتٍ أو حجرٍ لتُضحى وسيلة قسريةً تؤدى إلى التخلف والتقهقر والاستبداد).. وقالت النيابة إنه (لا يلزم أن يَلقى فكرُ الباحث أو منهجه أو مسلكه إطراءَ الكافة أو حتى قبولهم لينأى عن التجريم، مع التنويه بأن دعوة بعض المختصين فى السياسة لإعمال مبدأ فصل الدين عن الدولة بحسابه مفهوماً سياسياً لا دينياً، أنكره البعض وأيده الآخر، وبما لا يُعد مساساً بأصل الدين وثوابته).. وشددت النيابة على أنه (لا يجوز الافتراض أن كل وصف أو كلمة أو عبارة قُصد بها ازدراء الدين الإسلامى الحنيف أو المساس بالقرآن الكريم، ولا يليق رصد كل عبارة وتقييمها مُنفصلة عن سياق الحديث بمقاييس صارمة عسيرة). لم تكن هذه التُحفةُ الفقهية القانونية الراقية جزءاً من قرار رئيس نيابة مصر محمد نور بحفظ بلاغات التكفير التى لاحقت د. طه حسين منذ قرنٍ من الزمان، وإنما خَطَّتها منذ نحو اسبوعين يدُ واحدٍ من ذُرِّيته النجيبة.. النائب العام الكويتى المستشار ضرار العسعوسى بعد عرضٍ من المحامى العام الأول المستشار مبارك الرفاعى، استبعد على أساسها شبهتى ازدراء الأديان والمساس بالقرآن الكريم بحق الدكتورة شيخة الجاسم الأستاذة بجامعة الكويت. كانت الدكتورة طرفاً فى مقابلةٍ تليفزيونية عن منع الاختلاط فى الجامعة، واشتد النقاش إلى أن قالت رداً على القائل بأن الشريعة أهم من الدستور(إن للكويت دستوراً مدنياً، والقرآن كتابٌ دينى للمسلمين، فلا تجوز المقارنة بينهما، وهما متساويان ولا يعلو أحدهما على الآخر، وإن المواطن الذى يرى أن القرآن أهم من الدستور خطرٌ على الدولة)، فاشتعلت وسائل الإعلام الإلكترونية باتهاماتٍ تدور كلها حول تكفيرها وانتهت ببلاغين يتهمانها بالإساءة للدين الإسلامى الحنيف وازدرائه والمساس بالقرآن الكريم. لم ينحز النائب العام إلى رأى الدكتورة أو ضده، ولكنه انحاز بوضوحٍ ضد الخروج بخلافات الرأى إلى ساحات المحاكم، ليَسُدَّ بذلك باباً من المزايدة والتكفير والتنقيب فى مكنونات القلوب اكتوى بناره كل الأئمة المجتهدين فى تاريخ المسلمين على يد حكامٍ مستبدين أبعد ما يكونون عن شرع الإسلام .. عُذِّب بهذه التُهمة ابن حنبل فى عهد المأمون.. وصُلِب بها الحلاج فى عهد المقتدر.. ونُفِى بها ابن رشد فى عهد أبو يوسف.. وأُعدِم بها محمود طه فى عهد النميرى.. شخصياً أرى أن الدكتورة اشتطت فى التعبير عما تريد، ولم يعجبنى انفعال أستاذةٍ جامعيةٍ وسهولة استدراجها للتلفظ بعباراتٍ لم تُخطط لها وتثيرُ التباساً لدى كثيرين.. لكن هذا شىءٌ وازدراءَ الدينِ والمساس بالقرآن شىءٌ مختلفٌ تماماً. النائب العام الكويتى يسير على خطى محمد نور رئيس نيابة مصر فى عشرينيات القرن الماضى الذى حفظ بلاغات تكفير طه حسين بعد كتابه عن الشعر الجاهلى.. كان محمد نور مثقفاً متعمقاً قرأ الكتاب موضع الشكوى ودققه وأوضح الأخطاء العلمية لطه حسين وفَنَّدَها فى كثيرٍ من المواضع، لكنه لشدة احترامه للرأى الآخر وعدم تَزَمُّته توصَّل نَصَّاً إلى أن: المؤلف طه حسين وإن كان قد أخطأ فيما كتب إلا أن الخطأ المصحوب باعتقاد الصواب شىءٌ، وتعمُدَ الخطأ المصحوب بنية التعدى شىءٌ آخر.. لذا تُحفظ الأوراق إدارياً.. ياله من قاضٍ نزيهٍ ذى فكرٍ واسعٍ وقراءةٍ متعمقة.. لم ينحز إلى رأيه الشخصى المُختلف مع كتاب طه حسين وانحاز إلى حرية الرأى والاختلاف، فأغلق باباً للتكفير وتكبيل الفكر فى مصر لمدة خمسين عاماً تالية على الأقل.. وكسبت مصر والإسلام فيما بعد مفكراً عملاقاً بحجم طه حسين ومكتبةً إسلامية وأدبيةً رائعة ومجتمعاً صحياً تَعَلَّم أن الحُجَّةَ تُقرَعُ بالحُجَة لا بالحبس والغرامة. إن من يزدرى الدين الإسلامى حقاً هم أولئك المتنطعون الذين يتصيدون كلمةً أو عبارةً لتكفير قائلها باسم الدين.. الدين الذى حَرَّم تكفير كافرٍ نطق بالشهادتين والسيفُ على رقبته، مُعلياً شعار هلاَّ شققت عن قلبه؟!. ما أسعد المجتمع.. أى مجتمع.. الذى يُنعم اللهُ عليه بقضاةٍ مثقفين يتجاوزون الفهم القشرى لنصوص الدستور والدين إلى فهمٍ متعمقٍ يعى أصل المرامى.. مرامى الدستور ومرامى الدين معاً. لا يُجيزُ العُرف القضائى امتداح القاضى، وإلا لَجَاز ذَمُّه.. لذلك لن أمتدح المستشار ضرار العسعوسى.. أنا فقط أغبط الكويت.. وهذا يجوز. [email protected] لمزيد من مقالات م يحيى حسين عبد الهادى