إحدى ركائز تحقيق التعايش المشترك واستقرار الدولة المصرية هو تكريس مبدأ المواطنة وسيادة القانون ودولة المؤسسات, ولذلك غياب حكم القانون العادل والاحتكام إلى وسائل أخرى مثل العرف فى التعامل مع الصراعات القبلية والطائفية, يمثل تحديا كبيرا أمام بناء الدولة المدنية الحديثة. وقد كشفت أحداث الكرم الأخيرة بالمنيا عن الدور الكبير الذى يلعبه العرف وما يسمى بالمجالس العرفية فى الخبرة المصرية فى التعامل مع الصراعات المجتمعية المختلفة, حيث جاء تنامى دور العرف على حساب تراجع دور القانون والقضاء المدنى الطبيعى فى التعامل مع الصراعات القبلية والطائفية. ولا يوجد سند قانونى للجوء إلى المجالس العرفية ومجالس الصلح, فى التعامل مع الصراعات, فرغم أن العرف هو أحد مصادر القانون, ورغم أن البعض يرى السند القانونى للمجالس العرفية فى المادة 64 من قانون المرافعات المدنية والتجارية التى تنص على الصلح, فإن تلك المادة قصرت مجالس الصلح على المسائل والمنازعات المدنية والتجارية فقط دون النزاعات الجنائية والطائفية. ورغم أن الآليات العرفية أسهمت بدور فى إنهاء العديد من الخصومات والمشكلات بين القبائل والعائلات فإن بعض أحكامها مخالفة للدستور والقانون كالتهجير أو دفع الدية, وهو ما يخالف مواد الدستور، حيث نصت المادة 63 على أنه يحظر التهجير القسرى التعسفى للمواطنين بجميع صوره وأشكاله، ومخالفة ذلك جريمة لا تسقط بالتقادم. واللجوء إلى العرف فى مواجهة الصراعات يعكس رخاوة وضعف هيبة الدولة وتراجعها عن أداء وظائفها والفشل فى تحديث المجتمع وإقامة دولة مدنية حديثة, بل تأخذ موقفا سلبيا من ظاهرة المجالس العرفية ولا تتدخل لمنعها أو الحد منها بل تقوم بتشجيعها فى أحيان كثيرة. وتشكل المجالس العرفية قضاء موازيا وتعكس ضعف الثقة فى النظام القانونى, كما أن عدم تطبيق العقاب فى جرائم النزاع الطائفى يعطى رسالة خاطئة وغير مبررة لمواصلة مثل هذه الجرائم ومزيدا من أعمال العنف, وهذا يتعارض مع فكرة المواطنة ويهدد فكرة السلام الاجتماعي. ولا تفيد الجلسات العرفية فى الأحداث الطائفية ولم تحد من انتشارها بل تعاملت معها بطريقة سطحية, وكل ما يحدث هو «تسكين» للصراع لمنع تفاقمه ولكن هذا لم يزل الآثار والجذور الحقيقية لمثل هذه المشكلات والتى ستظل كما هى تكون على استعداد للانفجار من جديد عندما تتاح الفرصة. ويمكن أن تكون الجلسات العرفية وسيلة ناجعة فى التعامل مع المشكلات والصراعات المجتمعية المدنية مثل الصراع حول قطعة أرض أو الصراعات المالية أو المشاجرات وهنا يكون اللجوء إلى المجالس العرفية مهم فى معالجتها فى ظل تباطؤ نظام العدالة الطبيعى, وفى ظل تأثير العرف القوى فى المناطق المحافظة, ونجاح تلك الآليات فى معالجة الكثير من المشكلات والنزاعات حيث يكون للمجالس العرفية قواعد راسخة وعقوبات محددة غالبا مالية فى تسوية النزاع. لكن فيما يتعلق بالصراعات الطائفية والقبلية يمكن القول إن اللجوء إلى الآليات العرفية لم يسهم فى حل تلك المشكلات بل أدى لتفاقمها. ويعود انتشار ظاهرة المجالس العرفية إلى عدة أسباب منها, بطء الإجراءات الأمنية والقضاء يضطر المواطنون سواء الجانى أو المجنى عليه لمثل هذه الجلسات والابتعاد عن الطرق الرسمية والقانونية لإنهاء الخلافات بين العائلات طرفى النزاع, ففى المجالس العرفية المصرية لا مجال للطعن أو الرفض أو التأجيل فالحكم واجب النفاذ دون تأخير. ويرجع تباطؤ الإجراءات القضائية إلى قلة عدد القضاة والمحاكم فى مصر, فهناك حوالى 32 ألف قاض, لنحو 90 مليون مواطن, وهناك 7 آلاف محكمة تفصل فى منازعات ما يقرب من 25 مليون مواطن ويصل عدد القضايا المعروضة كل عام لنحو مليون قضية, كذلك زيادة عدد الجرائم وحالة عدم الاستقرار الأمنى خاصة فى مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير. وتحظى المجالس العرفية بمصداقية فى الكثير من المناطق الريفية والقبلية, فمن مزاياها المعايشة اليومية لبيئة الصراع، والتمتع بسلطة أخلاقية تنبع من توظيفها الروابط الاجتماعية المختلفة فى جهود تسوية النزاعات، والقدرة على الاحتواء المبكر للصراعات ومنع تصعيد الأزمات. إضافة إلى انتشار ثقافة الخوف لدى بعض المواطنين من الاقتراب من الشرطة والنيابة, كما أن المجالس العرفية مقصد الفقراء بالأساس، لأنها لا تكلفهم أموالا باهظة كالتى يطلبها المحامون لمباشرة قضاياهم. إن تدعيم الدولة المدنية يتطلب تفعيل دور الدولة فى إنفاذ القانون ودعم الثقافة من خلال الإعلام والتعليم وتفعيل مبدأ المواطنة, كذلك تفعيل الدستور الذى تؤكد مواده فكرة الدولة المدنية والمواطنة وأن جميع المواطنين يخضعون لحكم القانون وأن الدستور يحظر الاعتداء على الحريات الشخصية وغيرها من الحقوق الأخرى. كذلك تطوير المنظومة التشريعية بتنقية القوانين وسرعة إجراء عملية التقاضى والإشراف على عملية تطبيق وتنفيذ الأحكام القضائية. وتوظيف الآليات العرفية كوسيلة للمساهمة فى تحقيق التماسك المجتمعى وأن تكون عاملا مكملا للقانون وليس بديلا عنه كقضاء موازٍ للقضاء الطبيعى, من خلال مساهمة المجالس العرفية فى تبريد الصراع وإزالة مسبباته. وأهمية دور الإعلام فى نشر ثقافة اللجوء إلى المحاكم فى تسوية النزاعات بدلا من القضاء العرفى الذى يمكن قصره على القضايا المدنية وقضايا النزاعات المالية كمرحلة مؤقتة للمساهمة فى حل تلك النزاعات مع القضاء العادى, ومعالجة النزاعات القبلية والطائفية من خلال القضاء الطبيعى وتحقيق العدالة الناجزة فيها. إن ترسيخ دولة القانون وتفعيل مواد الدستور وتقليل الاعتماد على القضاء العرفى, يمثل خطوات ضرورية لترسيخ الدولة المدنية الحديثة. لمزيد من مقالات د . أحمد سيد أحمد