انه كتاب مختلف شكلا وموضوعا عن أي كتاب آخر يمكن أن يصادفنا, قد يكون أشبه بأرواح كائنات شفافة صغيرة تروي لنا من بعد سحيق, ويلات حرب عاصروها رغما عنهم لم تكن قلوبهم ولا عقولهم الصغيرة تتحملها, إنها يوميات صغار عاشوا ويلات الحرب العالمية الثانية, وبالتحديد خلال واحدة من أبشع صور الحرب, أن يحاصر سكان مدينة بهدف قتل سكانها جوعا, ذلك الموت المؤلم البطيء, خلد تفاصيله المروعة أطفال, لم يستوعبوا أبدا معني الجوع من قبل, ولا أدركوا معني الموت. إنها يوميات ربما تلهمنا وقبل فوات الأوان إدراك أهمية إقامة مشروع عربي لتخليد ذكري أطفال سوريا والعراق وغيرها من بلادنا المنكوبة, هؤلاء الذين ما زالوا يعانون صامتين ويلات لصراعات لم يكونوا أبدا طرفا فيها, ربما كان هذا الكتاب المختلف, دعوة لنا لنعمل من الآن علي جمع كل ما يمكن إن تصل إليه أيدينا من لقطات صغيرة لأطفالنا المنسيين في جبهات صراع وحشي ومخيمات معزولة, فربما كان اضعف الإيمان فقط لو خلدنا ذكراهم, لو قلنا لهم ولو بعد عشرات السنين إننا لم نعدم تماما إنسانيتنا... «كتاب أطفال الحرب», الذي نشر الشهر الماضي عن دار سبوتنيك الروسية, يقدم لنا ما خطته أنامل صغيرة, يوميات 35 طفلا روسيا عاشوا لحظة بلحظة حصار لينينجراد أثناء الحرب العالمية الثانية وتبعات هذه الحرب الضارية, إنها شهادات عن ويلات الحروب يوثقها بكل صدق وبراءة صغار عبروا بتلقائية شديدة ودقة مرعبة عن معاناة لا يمكن أن يستوعبها الكبار, فعندما تكون غاية أحلام طفل مجرد رغيف خبز في الوقت الذي يقبع فيه وحيدا وسط جثث ذويه المنتفخة, يحاول أن يحثهم علي الاستيقاظ دون أن يدرك تماما معني صمتهم الأبدي لمنحه ولو كسرة خبز, بعض هؤلاء الصغار رسم علي صفحات يومياته رغيف خبز او قطعة لحم. تكتب تاتينا كوزنيتسوفا التي أشرفت علي الشكل النهائي لهذا الكتاب, أن ما يميزه حقا, انه كتب بصدق ودون أي تدخل أو إعادة صياغة من قبل المحررين. كان حصار لينينجراد واحدا من أكثر احداث الحروب ايلاما في التاريخ البشري, لقد استمر الحصار لأكثر من عامين, كان ذلك خلال الحرب العالمية الثانية عندما قرر هتلر الاستيلاء علي مدينة لينينجراد ثاني اكبر المدن الروسية, وهي اليوم مدينة سانت بطرسبرج, وقد استمر الحصار من 9 سبتمبر 1941 وحتى 18 يناير 1943 عندما استطاعت القوات السوفيتية أخيرا فتح معبر بري إلي المدينة وانهاء الحصار, وكانت تلك الخطوة تغيرا جذريا في مسار الحرب لصالح قوات الحلفاء ووضعت بداية النهاية للعدوان النازي حيث تم القضاء علي الجيش الألماني السادس في ستالينجراد ومنها بدأ التحرك نحو برلين. عرفت تلك الحرب في روسيا باسم الحرب الوطنية الكبرى, التي تعد اعنف حصار عسكري في التاريخ, قتل خلالها 27 مليون روسي جميعهم من الرجال الذين ولدوا ما بين عامي 1921 و1923 ونجا منها فقط 3% وخلال تلك الحرب المشئومة قتل مليون طفل روسي في الأراضي التي احتلها الجيش الألماني, في حين نقل بقيتهم قسرا إلي معسكرات اعتقال, ونقل مليون ونصف المليون طفل روسي إلي ألمانيا حيث تم معاملتهم كعبيد. نشرت أجزاء من تلك اليوميات للمرة الأولي في صحيفة روسية أسبوعية هي “ارجيومنتي ا فاكتي” أو الجدل والحقيقة, وكانت القصص المروعة التي احتوتها هذه اليوميات, قد دفعت عددا من الصحفيين الروس للبحث أكثر في أعماقها, وسرعان ما تحولت عمليات البحث المنفرد هذه إلي مشروع يهدف لتخليد الآلام التي عاني منها هؤلاء الأطفال أثناء الحرب, وليلقي هؤلاء الذين كانوا يوما صغارا ما يستحقونه من تكريم في ذاكرة أبناء وطنهم, سواء من نجا منهم أو من رحل وهم الغالبية, بدأ هؤلاء الصحفيون رحلة بحثهم المضنية في كل مكان يمكنهم أن يجدوا فيه النصوص الأصلية لتلك اليوميات, في المتاحف القومية ودور المحفوظات, وعبر رسائل أرسلت لمن تبقي من بعض الأسر التي قضت خلال الحصار, وكانت النتيجة 35 نصا موثقا بخط يد الصغار تروي يوما تلو الآخر الفظائع التي عاشوا في تلك الأيام المريرة ( نحو 900يوم), أطفال بعضهم كتب تلك اليوميات في زوايا منزل فقد أصحابه, في دفاتر صغيرة روي بعضهم كيف شاهد أصدقاءه يقضي جوعا, أو تجمدا. بعد جمع هذه اليوميات, وبهدف أن تكون درسا قاسيا لكل من أشعل أو ساعد علي إشعال حرب أو فتنة في يومنا هذا, نشرت ككتاب للمرة الأولي بالروسية ثم باللغة الانجليزية, حيث تم ترجمتها إلي الإنجليزية علي يد واحدة من أشهر المترجمين وهو اندرو برومفيلد, الذي اشتهر بترجماته السابقة لروائع الأدب الروسي, ونشر الكتاب أخيرا في الذكري ال71 لاستسلام ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية. وأرسلت نسخ منه إلي العديد من المنظمات الدولية ومنها اليونيسيف واليونسكو والبرلمان الألماني ومكتبة الكونجرس الأمريكية ووسائل الإعلام الرائدة علي مستوي العالم ومنها جريدة الاهرام. تصدر الكتاب مقدمة بقلم الرئيس الروسي السابق, ميخائيل جورباتشوف, الذي كان هو نفسه احد هؤلاء الصغار الذين شهدوا ويلات الحرب, والذي يكتب انه بعد عقود طويلة ما زالت ذكريات تلك السنوات العصيبة محفورة في ذاكرته, بل أنها تزداد قوة مع مرور الوقت, جورباتشوف يروي اليوم الذي احتل فيه الألمان قريته والمجاعة المؤلمة التي عاني منها أطفال القرية لشهور طويلة, وكيف أن هذا الشعور المؤلم بالجوع لم ينته برحيل الألمان, ولكنه تحول فيما بعد إلي حرمان اختياري من الطعام, ففي هذه الأيام يقول أن الشعار الذي تبناه أبناء قريته كان ( كل شيء من اجل الجبهة) وقتها حرم الصغار والكبار أنفسهم من كل شيء وعملوا بكل جهدهم ليؤمنوا احتياجات جنودهم في مواجهة جيش النازي, ظلوا جوعي ودون أن يجدوا ما يستر جسدهم, فقط كان عزاؤهم الوحيد بعد فك الحصار, أنهم عادوا مرة أخري يستلمون البريد, ويقتاتون علي كلمات أهلهم في جبهات القتال, يروي جورباتشوف عن تلك الرسائل المميزة التي كانت تأتيهم مطوية علي شكل مثلث, ليخبرهم هذا المثلث الصغير أن جنودهم مازالوا علي قيد الحياة ويواصلون القتال. يروي جورباتشوف أيضا إن هؤلاء الصغار الذين عاصروا الحرب, كان عليهم أن يودعوا طفولتهم للأبد وسط هذا الاضطراب الدموي, وان يلتحقوا قسرا بعالم الكبار, يحملون السلاح ويعملون في المصانع والمزارع, يكتب:” كان أطفال حصار لينينجراد هم الأطفال الأسوأ حظا في التاريخ, وما بقي لنا مما عاصروه تذكرة لنا جميعا وخاصة رجال السياسة...إننا لن نحيا لو فقدنا ذاكرتنا”. الكاتب المحارب الروسي دانيال جرانين, يكتب أيضا في مقدمة الكتاب, أن الأطفال هم الأصدق في الرواية, ربما لسذاجتهم, وإدراكهم البسيط للأمور, فهم الأقدر علي رواية تفاصيل عادة ما يغفلها الكبار, لذا فان يوميات هؤلاء الأطفال الذين يقدمها الكتاب, تحوي مشاهد صادقة وصادمة غابت عن أعين الكبار الذين عاصروا ذات الأحداث, تعبر عن قوة ودقة ملاحظة لتفاصيل قد تبدو بسيطة وربما سطحية, ولكنها تعبير أكثر واقعية وصدق من روايات الكبار ولهذا فقد كانت مصدرا شديد الصدق للمؤرخين. شهد أطفال لينينجراد أطول مشاهد الحرب وأكثرها رعبا, عانوا من دوي الغارات والقصف المتواصل ليل نهار, ناموا في الشوارع والأزقة المظلمة بعد أن دمرت منازلهم, شاهدوا الموت علي مدار اليوم, الموت الفوري دون حتى أن يدركوا معناه, كان يحيط بهم في البيوت والشوارع, لم يفهموا وقتها ما الذي يعنيه أن لا يعود أحباؤهم مرة أخري للأبد, ولكن بالرغم من كل هذا كان اكبر مصادر رعبهم هو الجوع, لم يفهموا أبدا ألا يجدوا أي شيء يضعونه في أفواههم, كانوا اصغر من أن يتفاعلوا ذهنيا مع الجوع, لهذا نجد أن الكثير من يوميات هؤلاء الصغار في الكتاب تتحدث عن معاناة الجوع, وتصف بدقة الآلام عضاته المتواصلة. بين صفحات الكتاب, طفل عمره ثلاثة أعوام, مسك ورقة وقلم, ورسم مجرد خطوط متلاحمة عشوائية حول زوايا الورقة وفي قلبها رسم بوضوح شكلا بيضاويا صغيرا وعندما سأله معلمه عما رسمه قال ببراءة إنها الحرب, كان الشكل الذي رسمه في قلب الصفحة هو رغيف خبز. يعود تاريخ الرسم إلي 23 مايو 1942 وكان اسم الصغير ساشا اجناتيف, وكان واحدا من بين 400 ألف طفل تركوا في لينينجراد بعد سبتمبر 1941 عندما حوصرت المدينة وعزلت تماما عن العالم الخارجي, بعد نحو 900 يوم عندما تمكن الجيش الروسي أخيرا من إنهاء الحصار, بقي فقط من هؤلاء الصغار اقل من نصفهم علي قيد الحياة, من بين 3 ملايين شخص هم سكان المدينة, بقي فقط قرابة المليون إنسان علي قيد الحياة, ولم تعد المدينة لنفس تعداد سكانها الثلاثة ملايين مرة أخري إلا بعد الستينيات. تروي احدي الناجيات من الحصار, أنهم كانوا يأكلون حتى جلود الأحذية, والجثث النافقة, وتتحدث عن تلك الجثث التي تكومت في الطرقات والتي قضت تجمدا في البرد دون أي وسيلة تدفئة, هؤلاء الناجون من الحصار, لم تطلق عليهم الثقافة الروسية الناجين, بل مقاومو الحصار, وظلوا أبطال داخل وخارج روسيا. جاء الكتاب في خمسة أجزاء, الجزء الأول والأكبر, تناول حصار لينينجراد, الذي يعتبر اكبر وأسوأ مجاعة في التاريخ المعاصر, في حين تتناول الأجزاء التالية يوميات الأطفال الذين اسروا في معسكرات اعتقال النازي, ونقلوا إلي ألمانيا ليعملوا كعبيد في المزارع وأيضا كدروع بشرية علي خطوط المواجهة. تصدر الكتاب يوميات تانيا زافيتشيفا 11 عاما, وقد كتبت يومياتها بقلم كحل كان يخص شقيقتها الكبرى, خطت في يومياتها وفاة أفراد أسرتها واحدا تلو الآخر, ظل دفتر يومياتها هو اقصر نص في هذا الكتاب, 9 سطور فقط, سجلت فيه تاريخ وفاة كل فرد من أفراد أسرتها, توفيت أختها الكبرى بين ذراعي أختها الصغرى, في حين ظلت تلك الأخيرة تتوسل إلي بقية أفراد الأسرة ألا يتركوها بلا كفن, حيث لم يكن بالإمكان الحصول علي أكفان في تلك الأيام, بعدها توفي شقيقها مع اثنين من أعمامها ثم توفيت الأم, ورأت وقتها الصغيرة أن كل ما يمكنها فعله وسط جثث أسرتها التي تركت بلا دفن, أن تشعل بعض الشموع, وان تسجل تواريخ وفاة أفراد أسرتها, فيما بعد أرسلت إلي مكان لرعاية هؤلاء الذين يفقدون أفراد أسرهم, وفي هذا الملجأ أصيبت بعدة أمراض وتوفيت بعد وصولها بأيام, وقد حفظت يومياتها في متحف بموسكو, وقد استخدمت تلك اليوميات في إدانة مجرمي الحرب خلال محاكمات نورمبيرج الشهيرة. يبقي كتاب “أطفال الحرب: يوميات 1941-1945” واحدا من أكثر الكتب الحية التي تعد كل قصة بها هي ملحمة في حد ذاتها, تذكرنا بضراوة ووحشية الحروب, ودورنا مهما كان ضئيلا في مواجهتها أو علي الأقل أن نعمل حتى لا ينسي ضحاياها الصغار.